فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{ثُمَّ بَدَّلْنَا} عطفٌ على أخذنا داخلٌ في حكمه {مَكَانَ السيئة} التي أصابتهم للغاية المذكورةِ {الحسنة} أي أعطيناهم بدلَ ما كانوا فيه من البلاء والمحنةِ الرخاءَ والسعةَ كقوله تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} {حتى عَفَواْ} أي كثُروا عَددًا وعُددًا من عفا النباتُ إذا كثر وتكاثف وأبطرتْهم النعمة {وَقَالُواْ} غيرَ واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاءٌ من الله سبحانه: {قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء} كما مسّنا ذلك، وما هو إلا من عادة الدهرِ يعاقِب في الناس بين الضراءِ والسراء من غير أن يكون هناك داعيةٌ تؤدي إليهما أو تِبعةٌ تترتب عليهما، ولعل تأخيرَ السراءِ للإشعار بأنها تعقُب الضراءَ فلا ضيرَ فيها {فأخذناهم} إثرَ ذلك {بَغْتَةً} فجأةً أشدَّ الأخذِ وأفظعَه {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بذلك ولا يُخطِرُ ببالهم شيئًا من المكاره كقوله تعالى: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} الآية، وليس المرادُ بالأخذ بغتةً إهلاكَهم طرفة عينٍ كإهلاك عادٍ وقومِ لوطٍ بل ما يعُمّه وما يمضي بين الأخذ وإتمام الإهلاكِ أيامًا كدأب ثمود. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ بَدَّلْنَا} عطف على {أخذنا} [الأعراف: 94] داخل في حكمه {مَكَانَ السيئة} التي أصابتهم لما تقدم {الحسنة} وهي السعة والسلامة، ونصب {مَّكَانَ} كما قيل على الظرفية و{بَدَّلَ} متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أي أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة، ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها.
وقال بعض المحققين: الأظهر أن مكان مفعول به لبدلنا لا ظرف، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة والمتروك هو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت زيدًا بعمرو {حتى عَفَواْ} أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، وبذلك فسره ابن عباس وغيره من عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أحفوا الشوارب واعفوا اللحى» وقول الحطيئة:
بمستأسد القريان عاف نباته ** تساقطني والرحل من صوت هدهد

وقوله:
ولكنا نعض السيف منها ** بأسوق عافيات الشحم كوم

وتفسير أبي مسلم له بالإعراض عن الشكر ليس بيانًا للمعنى اللغوي كما لا يخفى، {وحتى} هذه الداخلة على الماضي ابتدائية لا غائية عند الجمهور، ولا محل للجملة بعدها كما نقل ذلك الجلال السيوطي في شرح جمع الجوامع له عن بعض مشايخه، وأما زعم ابن مالك أنها جارة غائية وأن مضمرة بعدها على تأويل المصدر فغلطه فيه أبو حيان وتبعه ابن هشام فقال: لا أعرف له في ذلك سلفًا، وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة، ولا يشكل عليه ولا على من يقول؛ إن معنى الغاية لازم لحتى ولو كانت ابتدائية أن الماضي لمضيه لا يصلح أن يكون غاية لماقبل لتأخر الغاية عن ذي الغاية لأن الفعل وإن كان ماضيًا لكنه بالنسبة إلى ما صار غاية له مستقبل فافهم.
{يَصِدُّونَ وَقَالُواْ} غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء منه سبحانه: {قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا} كما مسنا.
{الضراء والسراء} وما ذلك إلا من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ويداولهما بنيهم من غير أن يكون هناك داعية إليهما أو تبعة تترتب عليهما وليس هذا كقول القائل:
ثمانية عمت بأسبابها الورى ** فكل امرئ لابد يلقى الثمانية

سرور وحزن واجتماع وفرقة ** وعسر ويسر ثم سقم وعافية

كما لا يخفى، ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها {فأخذناهم} عطف على مجموع عفوًا وقالوا أو على قالوا لأنه المسبب عنه أي فأخذناهم إثر ذلك {بَغْتَةً} أي فجأة.
{وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بشيء من ذلك ولا يخطرون ببالهم شيئًا من المكاره، والجملة حال مؤكدة لمعنى البغتة، وهذا أشد أنواع الأخذ كما قيل: وأنكأ شيء يفجؤك البغت، وقيل: المراد بعدم الشعور عدم تصديقهم بإخبار الرسل عليهم السلام بذلك لا خلو أذهانهم عنه ولا عن وقته لقوله تعالى: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 131] ولا يخفى مافيه من الغفلة عن معنى الغفلة وعن محل الجملة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ}.
والتبديل: التعويض، فحقه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء المفيدة معنى البدلية ويكون ذلك المفعول الثاني المدخول للباء هو المتروك، والمفعول الأول هو المأخوذ، كما في قوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} في سورة البقرة (61)، وقوله: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} في سورة النساء (2)، لذلك انتصب {الحسنة} هنا لأنها المأخوذة لهم بعد السيّئة فهي المفعول الأول والسيّئة هي المتروكة، وعدل عن جر السيئة بالباء إلى لفظ يؤدي مُؤَدى باء البدلية وهو لفظ {مكان} المستعمل ظرفًا مجازًا عن الخلَفية، يقال خذ هذا مكانَ ذلك، أي: خذه خلفًا عن ذلك لأن الخلَف يحل في مكان المخلوف عنه، ومن هذا القبيل قول امرئ القيس:
وبُدلْتُ قُرحًا داميًا بعد نعمة ** فجعل بعدَ عوضًا عن باء البدلية.

فقوله: {مكانَ} مَنصوب على الظرفية مجازًا، أي: بَدلناهم حسنة في مكان السيّئة، والحسنة اسم اعتبر مؤنثًا لتأويله بالحالة والحادثة وكذلك السيئة فهما في الأصل صفتان لموصوف محذوف، ثم كثر حذف الموصوف لقلة جدوى ذكره فصارت الصفتان كالاسمين، ولذلك عبر عن الحسنة في بعض الآيات بما يُتَلَمّح منه معنى وصفيّتها نحو قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيّئة ادفع بالتي هي أحسنُ} [فصلت: 34] أي: ادفع السيّئة بالحسنة، فلما جاء بطريقة الموصولية والصلة بأفعل التفضيل تُلمح معنى الوصفية فيهما، وكذلك قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيّئة} [فصلت: 34].
ومثلهما في هذا المصيبة، كما في قوله تعالى في سورة براءة (50): {إن تُصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل} أي: بدّلناهم حالة حسنة بحالتهم السيّئة وهي حالة البأساء والضراء.
فالتعريف تعريف الجنس، وهو مشعر بأنهم أعطوا حالة حسنة بطيئة النفع لا تبلغ مبلغ البركة.
و{حتى} غاية لما يتضمنه {بدّلنا} من استمرار ذلك وهي ابتدائية، والجملة التي بعدها لا محل لها.
و{عَفْوا} كثُروا.
يقال: عفا النبات، إذا كثر ونما، وعطف {وقالوا} على {عفوا} فهو من بقية الغاية.
والسّرّاء: النعمة ورَخاء العيش، وهي ضد الضراء.
والمعنى أنا نأخذهم بما يغير حالهم التي كانوا فيها من رخاء وصحة عسى أن يعلموا أن سلب النعمة عنهم أمارة على غضب الله عليهم من جرّاء تكذيبهم رسولهم فلا يهتدون، ثم نردهم إلى حالتهم الأولى إمهالًا لهم واستدراجًا فيزدادون ضلالًا، فإذا رأوا ذلك تعللوا لما أصابهم من البؤس والضر بأن ذلك التغيير إنما هو عارض من عوارض الزمان وأنه قد أصاب أسلافهم من قبلهم ولم يَجئهم رسُل.
وهذه عادة الله تعالى في تنبيه عباده، فإنه يحب منهم التوسم في الأشياء والاستدلال بالعقل والنظر بالمسببات على الأسباب، كما قال تعالى: {أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} [التوبة: 126] لأن الله لما وهب الإنسان العقل فقد أحب منه أن يستعمله فيما يبلغ به الكمال ويقيه الضلال.
وظاهر الآية: أن هذا القول صادر بألسنتهم وهو يكون دائرًا فيما بين بعضهم وبعض في مجادلتهم لرسُلهم حينما يعظونهم بما حلّ بهم ويدْعونهم إلى التوبة والإيمان ليكشف عنهم الضر.
ويجوز أن يكون هذا القول أيضًا: يجيش في نفوسهم ليدفعوا بذلك ما يخطر ببالهم من توقع أن يكون ذلك الضر عقابًا من الله تعالى، وإذ قد كان محكيًا عن أمم كثيرة كانت له أحوال متعددة بتعدد ميادين النفوس والأحوال.
وحاصل ما دفعوا به دلالة الضراء على غضب الله أن مثل ذلك قد حل بآبائهم الذين لم يدْعُهم رسول إلى توحيد الله، وهذا من خطأ القياس وفساد الاستدلال، وذلك بحصر الشيء ذي الأسباب المتعددة في سبب واحد، والغفلة عن كون الأسباب يخلف بعضها بعضًا، مع الغفلة عن الفارق في قياس حالهم على حال آبائهم بأن آباءهم لم يأتهم رسُل من الله، وأما أقوام الرسل فإن الرسل تحذرهم الغضب والبأساء والضراء فتحيق بهم، أفلا يَدلُهم ذلك على أن ما حصل لهم هو من غضب الله عليهم، على أن غضب الله ليس منحصر الترتب على معصية الرسول بل يكون أيضًا عن الانغماس في الضلال المبين، مع وضوح أدلة الهدى للعقول، فإن الإشراك ضلال، وأدلة التوحيد واضحة للعقول، فإذا تأيدت الدلالة بإرسال الرسل المنذرين قويت الضلالة باستمرارها، وانقطاع أعذارها، ومثل هذا الخطأ يعرض للناس بداعي الهوى وإلف حال الضلال.
والفَاء في قوله: {فأخذناهم} للتعقيب عن قوله: {عَفَوْا}، و{قالوا}، باعتبار كونهما غاية لإبدال الحسنة مكان السيئة، ولا إشعار فيه بأن قولهم ذلك هو سبب أخذهم بغتة ولكنه دل على إصرارهم، أي: فحصل أخذنا إياهم عقب تحسن حالهم وبَطرهم النعمة.
والتعقيب عرفي فيصدق بالمدة التي لا تعد طولًا في العادة لحصول مثل هذه الحوادث العظيمة.
والأخذ هنا بمعنى الإهلاك كما في قوله تعالى: {أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون} في سورة الأنعام (44).
والبغتة: الفجْأة، وتقدمت عند قوله تعالى: {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة} [الأنعام: 31]، وفي قوله: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة} في سورة الأنعام (44)، وتقدم هنالك وجه نصبها.
وجملة: {وهم لا يشعرون} حال مؤكدة لمعنى {بغتة}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)}.
ويعطي سبحانه بعد ذلك لهم الرزق، والعافية، والغنى؛ لأن الحق إذا أراد أن يأخذ جبارًا أخذ عزيز مقتدر فهو يمهله، ويرخي له العِنان ليتجبر- كفرعون- من أجل أن يأخذه بغتة، كأنه يسقط من أعلى، فيعليه من أجل أن ينزل به- كما يقولون- على جذور رقبته: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ}.
{عَفَوْا} أي كثروا عددًا ومالًا وقوة أي أنه ما أخذهم سبحانه بالبأساء والضراء إلاِّ وكان القصد منها أن يلفتهم إليه، فلم يلتفتوا، فيمدهم ويعطي لهم العافية وما يسرّهم، ثم يصيبهم بالعذاب بغتة. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضراء والسراء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95].
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم على خلافة الإِنسان في الأرض، وأنه أمده بكل ما تقوم به حياته، وأمده بالقيم بواسطة مناهج السماء، وأنزل المنهج مبينا ما أحل، وما حرم بعد أن كانوا يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فبيّن لهم الحق أن الذي خلق الخلق عالم بما يصلحهم فأحله، وعالم بما يفسدهم فحرّمه، فليس لكم أن تقترحوا على الله حلالًا، ولا حرامًا، ولكن بعض المشككين في منهج الله قالوا- ومازالوا يقولون-: إذا كان الله قد أحل شيئًا وحرم شيئًا فلماذا خلق ما حرم؟ ونقول: لقد خلق سبحانه كل شيء لحكمة قد تكون لغير الطعام والشراب والكسوة، فبعض الأشياء يكون مخلوقًا لمهمة وإن لم تكن مباشرة لك؛ فالبترول مثلًا مخلوق لمهمة أن يوجد طاقة، لذلك لا نشربه.