فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} أي القرى المُهلَكة المدلولَ عليها بقوله تعالى: {فِى قَرْيَةٍ} وقيل: هي مكةُ وما حولها من القُرى المنتظمةِ لما ذكر هاهنا انتظامًا أوليًا {ءامَنُواْ} بما أوحيَ إلى أنبيائهم معتبِرين بما جرى عليهم من الابتلاء بالضراء والسراء {واتقوا} أي الكفرَ والمعاصيَ أو اتقَوْا ما أُنذروا به على ألسنة الأنبياءِ ولم يُصِرّوا على ما فعلوا من القبائح ولم يحمِلوا ابتلأَ الله تعالى على عادات الدهر وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وحَّدوا الله واتقَوا الشر {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} لوسّعنا عليهم الخيرَ ويسّرناه لهم من كل جانبٍ مكانَ ما أصابهم من فنون العقوباتِ التي بعضُها من السماء وبعضُها من الأرض. وقيل: المرادُ المطرُ والنباتُ وقرئ {لفتّحنا} بالتشديد للتكثير {ولكن كَذَّبُواْ} أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا وقد اكتُفي بذكر الأولِ لاستلزامه للثاني {فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من أنواع الكفرِ والمعاصي التي من جملتها قولُهم: {قد مس آباءَنا} الخ، وهذا الأخذُ عبارةٌ عما في قوله تعالى: {فأخذناهم بَغْتَةً} لا عن الجدب والقَحطِ كما قيل فإنهما قد زالا بتبديل الحسنةِ مكانَ السيئة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} أي القرى المهلكة المدلول عليها بقوله سبحانه: {فِى قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94] فاللام للعهد الذكرى والقرية وإن كانت مفردة لكنها في سياق النفي فتساوي الجمع، وجوز أن تكون اللام للعهد الخارجي إشارة إلى مكة وما حولها.
وتعقب ذلك بأنه غير ظاهر من السياق، ووجه بأنه تعالى لما أخبر عن القرى الهالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلموا وغنموا انتقل إلى انذار أهل مكة وما حولها مما وقع بالأمم والقرى السابقة.
وجوز في الكشاف أن تكون للجنس، والظاهر أن المراد حينئذ ما يتناول القرى المرسل إلى أهلها من المذكورة وغيرها لا ما لا يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها كما قيل لإباء ظاهر ما في حين الاستدراك الآتي {ءامَنُواْ} أي بما أنزل على أنبيائهم {واتقوا} أي ما حرم الله تعالى عليهم كما قال قتادة ويدخل في ذلك ما أرادوه من كلمتهم السابقة.
{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} أي ليسرنا عليهم الخير من كل جانب، وقيل: المراد بالبركات السماوية المطر وبالبركات الأرضية النبات، وأيًا ما كان ففي فتحنا استعارة تبعية.
ووجه الشبه بين لمستعار منه والمستعار له الذي أشرنا إليه سهولة التناول، ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل والعلاقة اللزوم ويمكن أن يتكلف لتحصيل الاستعارة التمثيلية، وفي الآية على ما قيل إشكال وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم بركات من السماء والأرض، وفي الأنعام {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْء} [الأنعام: 44] وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض؛ وهو معنى قوله سبحانه: {أَبْوَابَ كُلّ شَيْء} وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض؛ وهو معنى قوله سبحانه: {أَبْوَابَ كُلّ شَيْء} لأن المراد منها الخصب والرخاء والصحة والعافية المقابلة أخذناهم بالبأساء والضراء، وحمل فتح البركات على إدامته أو زيادته عدول عن الظاهر وغير ملائم لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات.
وأجاب عنه الخيالي بأنه ينبغي أن يارد بالبركات غير الحسنة أو يراد آمنوا من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر، والمراد في سورة الأنعام بالفئج ما أريد بالحسنة هاهنا فلا يتوهم الأشكال انتهى.
وأنت خبير بأن أرادة آمنوا من أول الأمر إلى آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء كأمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا ينحل الإشكال لأن آية الأنعام لا تدل على نه فتح لهم هذا الفتح كما هو ظاهر لتاليها، وما ذكر من أن المراد بالفتح هناك ما أريد بالحسنة هاهنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع موقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه لكنه وحده لا يجدي نفعًا، وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام المراد به التكثير هومدلول الحسنة فلا يخفى ما فيه فتدبر، وقيل: المراد بالبركات السماوية والأرضية الأشياء التي تحمد عواقبها ويسعد في الدارين صاحبها وقد جاءت البركة بمعنى السعادة في كلامهم فتحمل هنا على الكامل من ذلك الجنس ولا يفتح ذلك إلا للمؤمن بخلاف نحو المطر والنبات والصحة والعافية فإنه يفتح له وللكافر أيضًا استدراجًا ومكرًا، ويتعين هذا الحمل على ما قيل إذا أريد من القرى ما يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها، وقيل: البركات السماوية إجابة الدعاء والأرضية قضاء الحوائج فليفهم.
وقرأ ابن عامر {لَفَتَحْنَا} بالتشديد {ولكن كَذَّبُواْ} أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا، وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه الثاني وللإشارة إلى أنه أعظم الأمرين {فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم السابق، والظاهر أن هذا الأخذ والمتقدم في قوله سبحانه: {فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] واحد وليس عبارة عن الجدب والقحط كما قيل: لأنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة، وحمل أحد الأخذين على الأخذ الأخروي والآخر على الدنيوي بعيد، ومن ذهب إلى حمل أل على الجنس على الوجه الأخير فيه يلزمه أن يحمل كذبوا فأخذناهم على وقوع التكذيب والأخذ فيما بينهم ولا يخفى بعده. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}.
عُطفت جملة {ولو أن أهل القرى} على جملة: {وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} [الأعراف: 94] أي: ما أرسلنا في قرية نبيئًا فكذبه أهلها إلاّ نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم، ولو أن أهل تلك القرى المُهْلَكَةِ آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة، أي: ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم.
وشرط لو الامتناعية يحصل في الزمن الماضي، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف أن المفيد للتأكيد والمصدرية، وكان خبر أن فعلًا ماضيًا توفر معنى المضي في جملة الشرط.
والمعنى: لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات.
والتقْوى: هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان.
والتعريف في {القرى} تعريف العهد، فإضافة {أهل} إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله: {وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} [الأعراف: 94] الآية كما تقدم، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، وتعريض ببشارة أهل القُرى الذين يؤمنون كأهل المدينة، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة، وقيل، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى، وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجُحفة، والجُحفة يومئذٍ بلاد شرك.
والفتح: إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان، يقال: فتح الباب وفتح البيت، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع، وأصله فتح للبيت، وكذلك قوله هنا: {لفتحنا عليهم بركات} وقولُه: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} [فاطر: 2]، ويقال: فتح كوة، أي: جعلها فتحة، والفتح هنا استعارة للتمكين، كما تقدم في قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} في سورة الأنعام (44).
وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه، فهنا استعارتان مكنية وتبعية، وقرأ ابن عامر: {لفتّحنا} بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة.
والبركات: جمع بركة، والمقصود من الجمع تعددها، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة.
وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} في سورة الأنعام (92).
وتقدم أيضًا في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركًا} في سورة آل عمران (96).
وتقدم أيضًا في قوله تعالى: {تَبارك الله رب العالمين} في هذه السورة (54)، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ {الحسنة} بصيغة الإفراد في قوله: {مكان السيئة الحسنة} وفي ج [الأعراف: 95] انب المؤمنين بالبركات مجموعة.
وقوله: {من السماء والأرض} مراد به حقيقته، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئًا من الأرض، وذلك معظم المنافع، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة.
وقوله: {ولكن كذبوا} استثناء لنقيض شرط لو فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي.
وجملة: {فأخذناهم} متسببة على جملة: {ولكن كذبوا} وهو مثل نتيجة القياس، لأنه مساوي نقيضضِ التالي، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم.
وتقدم معنى الأخذ آنفًا في قوله تعالى: {فأخذناهم بغتة} [الأعراف: 95]، والمراد به أخذ الاستئصال.
والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الكفر والعصيان. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} أي أنهم لو آمنوا بالموجود الأعلى، واتقوا باتباع منهجه أمرًا باتباع أمرًا ونهيًا تسلم آلاتهم، لأن الصانع من البشر حتى يصنع آلة من الآلات، يحدد ويبيّن الغاية من الآلة قبل أن يبتكرها، ويصمم لها أسلوب استخدام معين، وقانون صيانة خاصا لتؤدي مهمتها، فما بالنا بمن خلق الإِنسان، إذن فالبشر إذا تركوا رب الإِنسان يضع منهج صيانة الإِنسان لعاش هذا الإِنسان في كل خير، وسبحانه وتعالى أوضح أنهم إن اتقوا، تأت لهم بركات من السماء والأرض، فإن أردتها بركات مادية تجدها في المطر الذي ينزل من أعلى، وبركات من الأرض مثل النبات، وكذلك كنوزها التي تستنبط منها الكماليات المرادة في الحياة.
وما معنى البركة؟. البركة هي أن يعطي الموجودُ فوق ما يتطلبه حجمه؛ كواحد مرتبه خمسون جنيهًا ونجده يعيش هو وأولاده في رضا وسعادة، ودون ضيق، فنتساءل: كيف يعيش؟ ويجيبك: إنها البركة. وللبركة تفسير كوني لأن الناس دائمًا- كما قلنا سابقًا- ينظرون في وارداتهم إلى رزق الإِيجاب، ويغفلون رزق السلب. رزق الإِيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلاف الجنيهات ولكنك قد تحتاج إلى أضعافهم، ورزق السلب يجعل دخلك مائة جنيه ويسلب عنك مصارف كثيرة، كأن يمنحك العافية فلا تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علاج.
إذن فقوله: {بَرَكَاتٍ مِّنَ السماء والأرض} أي أن يعطي الحق سبحانه وتعالى القليل الكثير في الرزق الحلال، ويمحق الكثير الذي جاء من الحرام كالربا، ولذلك سمى المال الذي نخرجه عن المال الزائد عن الحاجة سماه زكاة مع أن الزكاة في ظاهرها نقص، فحين تملك مائة جنيه وتخرج منها جنيهين ونصف الجنيه يكون قد نقص مالك في الظاهر. وإن أقرضت أحدًا بالربا مائة جنيه فأنت تأخذها منه مائة وعشرة، لكن الحق سمى النقص في الأولى نماء وزكاة، وسمى الزيادة في الثانية محقا وسحتًا، وسبحانه قابض باسط. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السماء والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
إذن فلو أخذ الإِنسان قانون صيانته من خالقه لاستقامت له كل الأمور، لكن الإِنسان قد لا يفعل ذلك. ويقول الحق: {ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
وهكذا نعلم أن الأخذ ليس عملية جبروت من الخالق، وإنما هي عدالة منه سبحانه؛ لأن الحق لو لم يؤاخذ المفسدين، فماذا يقول غير المفسدين؟. سيقول الواحد منهم: مادمنا قد استوينا والمفسدين، وحالة المفسدين تسير على ما يرام، إذن فلأفسد أنا أيضًا. وذلك يغري غير المفسد بأن يفسد، ويعطي لنفسه راحتها وشهوتها، لكن حين يأخذ الله المفسدين بما كانوا يكسبون، يعلم غير المفسد أن سوء المصير للمفسد واضح، فيحفظ نفسه من الزلل.
كان القياس أنه يقول سبحانه: بما كانوا يكتسبون، لأن مسألة الحرام تتطلب انفعالات شتى، وضربنا المثل من قبل بأن إنسانًا يجلس مع زوجته، وينظر إلى جمالها ويملأ عينيه منها، لكن إن جلس مع أجنبية وأراد أن يغازلها ليتمتع بحسنها، فهو يناور ويتحايل، وتتضارب ملكاته بين انفعالات شتى، وهو يختلف في ذلك عن صاحب الحلال الذي تتناسق ملكاته وهو يستمتع بما أحل له الله، ولكنْ هؤلاء المفسدين تدربوا على الفساد فصار دربة تقرب من الملكة فقال فيهم الحق: إنهم يكسبون الفساد، ولا يجدون في ارتكابه عنتا. اهـ.