فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}.
وهؤلاء الذين كذبوا الرسل، وردوا منهج الله الذي أرسله على ألسنة رسله. كانت لهم عهود كثيرة. فما وفوا بعهد منها، مثال ذلك: العهد الجامع لكل الخلق، وهو العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم من صلبه حين مسح الله على ظهر آدم، وأخرج ذريته وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172].
وقد يقف العقل في أخذ مثل هذا العهد على الذرية الموجودة في آدم؛ لذلك نقول: إذا قال الله فقد صدق عَقِلْنا ذلك أو لم نعقله، إنك لو نظرت إلى آحاد البشر، أي إلى الأفراد الموجودين، تجد نفسك وغيرك يجد نفسه نسلًا لآبائكم، وهذا يدل على أنَّ الإِنسان وجد من حيوان منوي حي انتقل إلى بويضة حيّة من أمه فنشأ هذا الإنسان. ولو طرأ على الحيوان المنوي موت، أو طرأ على البويضة موت امتنع الإِنسال.
إذن فكل إنسان منا جزء من حياة أبيه، وأبوه جزء من حياة والده، ووالده جزء من حياة أبيه، وإن سلسلت ذلك فسنصل لآدم، فكل واحد من ذرية آدم إلى أن تقوم الساعة فيه جزئ حي من آدم. ومادام فيه جزئ حي من آدم فقد شهد الخلق الأول، ولذلك حين يسألهم الله سؤال التقرير ويقول: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؟ فيقولون: {بلى}.
وضربنا المثل لنقرب وقلنا إن الذرة الشائعة في شيء، تشيع في أضعاف الشيء، وسبق أن قلنا: إننا إذا جئنا بمادة حمراء- مثلًا- في حجم سنتيمتر مكعب، ثم أذبناها في قارورة، وبذلك يصبح كل جزء في القارورة فيه جزء من المادة الملونة، وإن أخذت القارورة وألقيتها في برميل واسع، هنا تصير كل قطرة من البرميل فيها جزيء من المادة الحمراء، وإن أخذت ماء البرميل وألقيته في البحر فكل ذرة في البحر الواسع يصير فيها جزيء من المادة الملونة، وهكذا يقرب من ذهن كل منا أن في كل إنسان جزيئًا من آدم، وقد شهد هذا الجزئ العهد الأول. ولقائل أن يسأل: كيف يخاطب الله الذر الذي كان موجودًا في ظهر آدم؟. نقول: كما خاطب الأرض وخاطب السماء، فهو القائل: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
إذن فعدم إدراكنا لكيفية الخطاب بين رب ومربوب، لا يقدح في أن هذه المسألة لها أصل ولها وجود.
وهذا بالنسبة للعهد الأول، وبعده العهد الثاني الذي أخذه الله على رسله، مصداقًا لقوله الحق: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
ثم هناك عهود خاصة أنشأتها الأحداث الخاصة، مثلما يقول الحق سبحانه وتعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22].
إنهم لا يسلمون أنفسهم للعطب، ولا يغترون بجاههم وبالأسباب التي عندهم لأنها قد امتنعت، ولذلك لا يغشون أنفسهم بل يلجأون صاغرين إلى الله قائلين: {... لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22].
هكذا نرى أنهم أعطوا العهد في حادثة، فلما أنجاهم الله أعرضوا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ...} [يونس: 12].
إذن فالعهد إما أن يكون عهدًا عامًا وإما أن يكون عهدًا خاصًّا.
والحق يقول: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي أن حال وشأن أكثرهم ظل على الفسق ونقض العهد والخروج عنه؛ لأن العهد إطار يحكم حركة المختار فيما أعطاه على نفسه من المواثيق، وهو حر في أن يفعل أو لا يفعل، لكنه إذا عاهد أن يفعل أصبح ملزمًا ووجب عليه أن ينفذ العهد باختياره، لأنه إذا قطع العهد على نفسه فعليه أن يحكم حركته في إطار هذا العهد، فإن خرج بحركته عن إطار هذا العهد فهذا هو الفسق، والأصل في الفسق أنه خروج الرطبة من القشرة لأن القشرة تصنع سياجًا على الثمرة بحيث لا تُدخل إلى الثمرة شيئًا مفسدًا من الخارج، ويقال: فسقت الرطبة أي خرجت عن قشرتها. كأن ربنا جعل التكليف تغليفًا حماية للإِنسان من العطب، فإذا ما خرج عن الدين مثل خروج الرطبة عن الغطاء والقشرة صار عرضة للتلوث وللميكروبات؟، فسمى الله الخارج على منهجه بالفاسق، لأنه خرج عن الإِطار الذي جعله الله له ليحميه من المفاسد، ومن العطب الذي يقع عليه. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأعراف: الآيات 94- 95]

{وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)}.
{إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ} بالبؤس والفقر {وَالضَّرَّاءِ} بالضر والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والصحة والسعة كقوله: {وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ} {حَتَّى عَفَوْا} كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «وأعفوا اللحى» وقال الحطيئة:
بِمُسْتَأسِدِ القرْيَانِ عَافَ نَبَاتُهُ

وقال:
ولكنّا نعضّ السّيف منها ** بأسوق عافيّات الشّحم كوم

{وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} يعنى وأبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا: هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء. وقد مس آباؤنا نحو ذلك، وما هو بابتلاء من اللّه لعباده، فلم يبق بعد ابتلائهم بالسيئات والحسنات إلا أن نأخذهم بالعذاب {فَأَخَذْناهُمْ} أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة من غير شعور منهم.

.[سورة الأعراف: آية 96]

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)}.
اللام في القرى: إشارة إلى القرى التي دل عليها قوله: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} كأنه قال: ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمَنُوا بدل كفرهم {وَاتَّقَوْا} المعاصي مكان ارتكابها {لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} لآتيناهم بالخير من كل وجه. وقيل أراد المطر والنبات {وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ} بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس. فإن قلت: ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت: تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم: فتحت على القارئ، إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين.

.[سورة الأعراف: الآيات 97- 98]

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتًا وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}.
البيات يكون بمعنى البيتوتة. يقال: بات بياتًا. ومنه قوله تعالى: {فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ} وقد يكون بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. يقال: بيته العدو بياتًا، فيجوز أن يراد: أن يأتيهم بأسنا بائتين، أو وقت بيات، أو مبيتًا، أو مبيتين، أو يكون بمعنى تبييتًا، كأنه قيل:
أن يبيتهم بأسنا بياتًا. و{ضُحًى} نصب على الظرف. يقال: أتانا ضحى، وضحيا، وضحاء والضحى- في الأصل- اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. والفاء والواو في {أَفَأَمِنَ} و{أَوَأَمِنَ} حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار. فإن قلت: ما المعطوف عليه؟ ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله: {فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً} وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى} إلى {يَكْسِبُونَ} وقع اعتراضًا بين المعطوف والمعطوف عليه. وإنما عطف بالفاء، لأنّ المعنى: فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ وقرئ: {أو أمن}، على العطف بأو {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يشتغلون بما لا يجدى عليهم كأنهم يلعبون.

.[سورة الأعراف: آية 99]

{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)}.
فإن قلت: فلم رجع فعطف بالفاء قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه}؟ قلت: هو تكرير لقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى} و{مكر اللّه}: استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر. ولاستدراجه. فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر اللّه، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة. وعن الربيع بن خثيم، أن ابنته قالت له: مالى أرى الناس ينامون ولا أراك تنام، فقال: يا بنتاه، إنّ أباك يخاف البيات، أراد قوله: {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتًا}.

.[سورة الأعراف: آية 100]

{أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)}.
إذا قرئ {أَوَ لَمْ يَهْدِ} بالياء كان {أَنْ لَوْ نَشاءُ} مرفوعًا بأنه فاعله، بمعنى: أو لم يهد للذين يخلفون، من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن، وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، كما أصبنا من قبلهم، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورّثين. وإذا قرئ بالنون، فهو منصوب كأنه قيل: أو لم يهد اللّه للوارثين هذا الشأن، بمعنى: أولم نبين لهم أنا {لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} كما أصبنا من قبلهم. وإنما عدّى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين. فإن قلت: بم تعلق قوله تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ}؟ قلت: فيه أوجه، أن يكون معطوفا على ما دلّ عليه.
معنى {أَوَ لَمْ يَهْدِ} كأنه قيل: يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم. أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعًا بمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. فإن قلت: هل يجوز أن يكون {وَنَطْبَعُ} بمعنى وطبعنا، كما {لَوْ نَشاءُ} بمعنى: لو شئنا، ويعطف على {أصبناهم}؟ قلت: لا يساعد عليه المعنى؟ لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها. وهذا التفسير يؤدى إلى خلوهم عن هذه الصفة، وأن اللّه تعالى لو شاء لا تصفوا بها.