فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ} لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم، وهم المذكورون سابقًا، أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها، أي وما أرسلنا في قرية من القرى من نبيّ من الأنبياء.
وفي الكلام محذوف، أي فكذب أهلها {إلا أخذناهم}، والاستثناء مفرّغ، أي ما أرسلنا في حال من الأحوال، إلا في حال أخذنا أهلها، فمحل أخذنا النصب.
والبأساء: البؤس والفقر.
والضراء: الضرّ.
وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي لكي يتضرعوا ويتذللوا، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء.
قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا} معطوف على {أخذنا} أي ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدّلناهم {مَكَانَ السيئة} التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان {الحسنة} أي الخصلة الحسنة، فصاروا في خير وسعة وأمن {حتى عَفَواْ} يقال عفا كثر، وعفا درس، فهو من أسماء الأضداد، والمراد هنا: أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم، أي أعطيناهم الحسنة مكان السيئة، حتى كثروا {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء} أي قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة، أي أن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء، ثم من الرخاء والخصب من بعد، هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله.
فمسهم من البأساء والضراء ما مسنا، ومن النعمة والخير ما نلناه، ومعناهم: أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف، وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم، واختبار لما عندهم، وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوّهم ما لا يخفى، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال: {فأخذناهم بَغْتَةً} أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال والحال أن {هُمْ لا يَشْعُرُونَ} بذلك ولا يترقبونه.
واللام في {القرى} للعهد، أي: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} التي أرسلنا إليها رسلنا {ءامَنُواْ} بالرسل المرسلين إليهم {واتقوا} ما صمموا عليه من الكفر، ولم يصرّوا على ما فعلوا من القبائح {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} أي يسرنا لهم خير السماء والأرض، كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها.
قيل المراد بخير السماء: المطر، وخير: الأرض النبات، والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك.
ويجوز أن تكون اللام في {القرى} للجنس.
والمراد: لو أن أهل القرى أين كانوا، وفي أيّ بلاد سكنوا {آمنوا واتقوا} إلى آخر الآية.
{ولكن كَذَّبُواْ} بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا {فأخذناهم} بالعذاب بسبب {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الذنوب الموجبة لعذابهم.
والاستفهام في {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى} للتقريع والتوبيخ، وأهل القرى هم أهل القرى: المذكورة قبله، والفاء للعطف، وهو مثل:
{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50].
وقيل: المراد بالقرى مكة وما حولها، لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والحمل على العموم أولى.
قوله: {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا} أي: وقت بيات، وهو الليل، على أنه منصوب على الظرفية، ويجوز أن يكون مصدرًا، بمعنى تبيتًا، أو مصدرًا في موضع الحال، أي مبيتين، وجملة: {وَهُمْ نَائِمُونَ} في محل نصب على الحال، والاستفهام في {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} كالاستفهام الذي قبله.
والضحى ضحوة النهار، وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت.
قرأ ابن عامر والحرميان {أوْ أمن} بإسكان الواو، وقرأ الباقون بفتحها.
وجملة {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} في محل نصب على الحال، أي يشتغلون بما لا يعود عليهم بفائدة.
والاستفهام في {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} للتقريع والتوبيخ، وإنكار ما هم عليه من أمان مالا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير، لإنكار ما أنكره عليهم، ثم بين حال من أمن مكر الله، فقال: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} أي الذين أفرطوا في الخسران، ووقعوا في وعيده الشديد.
وقيل: مكر الله هنا هو استدراجه بالنعمة والصحة.
والأولى حمله على ما هو أعمّ من ذلك.
قوله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} قرئ {نهد} بالنون وبالتحتية.
فعلى القراءة بالنون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه، ومفعول الفعل {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي أن الشأن هو هذا، وعلى القراءة بالتحتية يكون فاعل {يهد} هو {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم.
والهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عديت باللام.
قوله: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} أي ونحن نطبع على قلوبهم على الاستئناف، ولا يصح عطفه على {أصبنا} لأنهم ممن طبع الله على قلبه، لعدم قبولهم للإيمان.
وقيل: هو معطوف على فعل مقدّر دلّ عليه الكلام.
كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع.
وقيل معطوف على {يرثون} قوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} جواب {لو} أي صاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم، والطبع على قلوبهم، لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من الوعظ، والإعذار، والإنذار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} قال: مكان الشدة الرخاء {حتى عَفَواْ} قال: كثروا، وكثرت أموالهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {حتى عَفَواْ} قال: جَمُّوا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء} قال: قالوا قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئًا {فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ} قال: بما أنزل الله: {واتقوا} قال: ما حرّمه الله: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} يقول: أعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة، عن موسى الطائفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، وأخرجه من بركات الأرض» وأخرج البزار والطبراني، قال السيوطي، بسند ضعيف، عن عبد الله ابن أمّ حرام قال: صليت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، وسخر له بركات الأرض، ومن تتبع ما يسقط من السفرة، غفر له» وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: كان أهل قريةِ أوسع الله عليهم، حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ} قال: أو لم نبين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} قال: المشركون.
قوله: {تِلْكَ القرى} أي التي أهلكناها، وهي قرى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، المتقدّم ذكرها.
{نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي نتلو عليك {مِنْ أَنبَائِهَا} أي من أخبارها.
وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
و{نقصّ} إما في محل نصب على أنه حال، و{تِلْكَ القرى} مبتدأ وخبر، أو يكون في محل رفع على أنه الخبر، و{القرى} صفة {لتلك}، و{من} في {مِنْ أَنبَائِهَا} للتبعيض، أي نقصّ عليك بعض أنبائها، واللام في {وَلَقَد جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} جواب القسم.
والمعنى: أن من أخبارهم أنها جاءتهم رسل الله ببيناته، كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} عند مجيء الرسل {بِمَا كَذَّبُواْ} به {مِن قَبْلُ} مجيئهم، أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل، في حال من الأحوال، ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم، بل هم مستمرون على الكفر، متشبثون بأذيال الطغيان دائمًا، ولم ينجع فيهم مجيء الرسل، ولا ظهر له أثر، بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله.
وقيل المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا} [الأنعام: 28] وقيل سألوا المعجزات، فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها، والأوّل: أولى، ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل: أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل، وإنزال الكتب.
قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} أي مثل ذلك الطبع الشديد يطبع الله على قلوب الكافرين، فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب.
قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ} الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقًا، أي ما وجدنا لأكثر أهل هذه القرى من عهد، أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به، بل دأبهم نقض العهود في كل حال.
وقيل الضمير يرجع إلى الناس على العموم، أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد.
وقيل المراد بالعهد: هو المأخوذ عليهم في عالم الذرّ.
وقيل: الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى، أي الأكثر منهم لا عهد ولا وفاء.
والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه، و{إن} في {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين} هي المخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف، أي أن الشأن وجدنا أكثرهم لفاسقين، أو هي النافية.
واللام في {لفاسقين} بمعنى إلا، أي إلا فاسقين خارجين عن الطاعة خروجًا شديدًا.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبيّ بن كعب، في قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قال: كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق من يكذب به ممن يصدّق به.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قال: مثل قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، في قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ} قال: الوفاء.
وأخرج ابن أبي حاتم، في الآية قال: هو ذاك العهد يوم أخذ الميثاق.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين} قال: ذاك أن الله إنما أهلك القرى، لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به. اهـ.