فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}.
يُقَالُ: هَدَاهُ السَّبِيلَ أَوِ الشَّيْءَ، وَهَدَاهُ لَهُ وَهَدَاهُ إِلَيْهِ، إِذَا دَلَّهُ عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لَهُ، وَأَهْلُ الْغَوْرِ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَقُولُونَ: هَدَى لَهُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بَيَّنَهُ لَهُ، نَقَلَهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ فَسَّرَ بِهِ مَا فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَهَذَا التَّعْبِيرُ وَرَدَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طَهَ: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} (20: 128) وَفِي سُورَةِ الم- السَّجْدَةِ {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} (32: 26) وَالسِّيَاقُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ آيَةُ الْأَعْرَافِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا مِثْلَ السِّيَاقِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ آيَتَا طَهَ وَالسَّجْدَةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا دَاخِلٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ عُطِفَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ، وَلِلتَّقْدِيرِ وُجُوهٌ كُلُّهَا تُفِيدُ الْعِبْرَةَ، فَهُوَ مِمَّا تَذْهَبُ النَّفْسُ فِيهِ مَذَاهِبَ مِنْ أَقْرَبِهَا أَنْ يُقَالَ: أَكَانَ مَجْهُولًا مَا ذُكِرَ آنِفًا عَنْ أَهْلِ الْقُرَى وَسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا فِي أَثَرِ جِيلٍ، أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ بِهِ، أَنَّ شَأْنَنَا فِيهِمْ كَشَأْنِنَا فِيمَنْ سَبَقَهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَاضِعُونَ لِمَشِيئَتِنَا فَلَوْ نَشَاءُ أَنْ نُصِيبَهُمْ وَنُعَذِّبَهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ أَصَبْنَاهُمْ كَمَا أَصَبْنَا أَمْثَالَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ بِمِثْلِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} مَعْطُوفٌ عَلَى {أَصَبْنَاهُمْ} لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: نُصِيبُهُمْ؛ إِذِ الْكَلَامُ فِي الَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ فِي الْعَصْرِ الْحَالِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْفِعْلِ، كَمَا ظَنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ فَمَنَعُوا هَذَا الْعَطْفَ، وَقَالُوا: الْمَعْنَى، وَنَحْنُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يَسْتَخْلِفُهُمُ اللهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَرِثُونَ مَا كَانَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالْمِلْكِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ، وَلَا يَكُونُوا مِنَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَا مِنَ الْمُتْرَفِينَ الْفَاسِقِينَ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الْمُحَتَّمِ عِقَابَ الْأُمَمِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ، فَلَمْ يَكُنْ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُصَادَفَاتِ، بَلْ هُوَ مِنَ السُّنَنِ الْمُطْرَدَةِ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَلَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا ظُلْمَ وَلَا مُحَابَاةَ، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يُصَابُ بِذَنْبِهِ فَيَتَّعِظُ وَيَتُوبُ إِلَى رَبِّهِ، وَفَرِيقٌ يُصِرُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ طَبْعِ السِّكَّةِ وَنَقْشِهَا بِصُورَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ لَا تَقْبَلُ غَيْرَهَا، أَوْ مِنَ الطَّبْعِ الَّذِي بِمَعْنَى الْخَتْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (2: 7) وَالطَّابَعُ وَالْخَاتَمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّبَعِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الصَّدَأُ الشَّدِيدُ يَعْرِضُ لِلسَّيْفِ وَنَحْوِهِ فَيُفْسِدُهُ يُقَالُ: طَبَعَ الطَّبَّاعُ السَّيْفَ وَالدِّرْهَمَ؛ أَيْ: ضَرَبَهُ، وَطَبَعَ الْكِتَابَ وَعَلَى الْكِتَابِ وَخَتَمَهُ إِذَا ضَرَبَ عَلَيْهِ الطَّابَعَ وَالْخَاتَمَ بَعْدَ إِتْمَامِهِ وَوَضْعِهِ فِي ظَرْفِهِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَمِنْهُ الطَّبْعُ وَالطَّبِيعَةُ وَهِيَ الصِّفَةُ الثَّابِتَةُ لِلشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ، فَالسَّجِيَّةُ نَقْشُ النَّفْسِ بِصُورَةٍ ثَابِتَةٍ لَا تَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَغَيَّرُ لَا يُسَمَّى طَبِيعَةً، وَمِنْهُ طَبْعُ الْكُتُبِ فِي الْآلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَطْبَعَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَالتَّغْيِيرَ كَالْخَطِّ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا أَحْبَارًا لَا تُمْحَى أَيْضًا.
وَلَا يُسْتَعْمَلُ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ إِلَّا فِي الشَّرِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا وَصَلَتْ مِنَ الْفَسَادِ إِلَى حَالَةٍ لَا تَقْبَلُ مَعَهَا خَيْرًا كَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي هُوَ فِقْهُ الْأُمُورِ وَلُبَابُهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي اسْتِحْلَالًا وَاسْتِحْسَانًا لَهَا حَتَّى لَا يَعُودَ فِي النَّفْسِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (4: 155) أَيْ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ؛ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (9: 87) وَمِثْلُهُ فِي سُورَتِهِمْ، وَقَالَ هُنَا: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ: فَهُمْ بِهَذَا الطَّبْعِ لَا يَسْمَعُونَ الْحُكْمَ وَالنَّصَائِحَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَتَدَبُّرٍ وَاتِّعَاظٍ: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (10: 101) مَا يُرَادُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ مُلِئَتْ بِمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا مِنْ آرَاءٍ وَأَفْكَارٍ وَشَهَوَاتٍ مَلَكَتْ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، حَتَّى صَرَفَتْهُمْ عَنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتْهُمْ مِنَ {الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (18: 104).
قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا كِتَابُهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَّقُوهُ تَعَالَى بِانْتِقَاءِ كُلِّ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَمِ الَّتِي هَلَكَ بِهَا مَنْ قَبْلَهُمْ وَزَالَ مُلْكُهُمْ، وَدَالَتْ بِسَبَبِهَا الدَّوْلَةُ لِأَعْدَائِهِمْ؛ إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لَا تُغْفَرُ كَذُنُوبِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ؛ وَسُنَّتَهُ فِيهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا أَوَّلًا فِي تَفْسِيرِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِهَذِهِ الْحَقَائِقِ، ثُمَّ فِي وَعْظِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَإِنْذَارِهِمْ عَاقِبَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَتَرْكِ الِاتِّعَاظِ بِتَدَبُّرِهَا، وَمَنْ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ تَفْسِيرِهَا فَإِنَّمَا يُعْنَى بِإِعْرَابِهَا، وَالْبَحْثِ فِي أَلْفَاظِهَا، أَوْ جَدَلِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَعَانِيَهَا خَاصَّةً بِالْكَافِرِينَ، وَيُفَسِّرُونَ الْكَافِرِينَ بِمَنْ لَا يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَطَالَمَا أَنْكَرَ عَلَيْنَا بَعْضُ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَنَّنَا جَعَلْنَا الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ شَامِلَةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مَأْفُوكِينَ عَنْ تَدَبُّرِهَا الْمُرَادِ مِنْهَا جَاهِلِينَ لِلسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَظَنُّوا كَمَا ظَنُّوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحَابِي الْأَقْوَامَ لِأَجْلِ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِجَاهِهِمْ لَا بِاتِّبَاعِهِمْ، وَقَدْ رَاجَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ الْفَاسِدَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ تِجَارَةً لِلشُّيُوخِ الْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ وَالدَّجَّالِينَ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (2: 16) بَلْ كَانُوا فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ وَحُجَّةً عَلَى الدِّينِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ آنِفًا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (47: 24)؟
أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ بِقَوْلِ رَسُولِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (23: 68، 69).
{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} وَجَّهَ الْخِطَابَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَجْلِ تَسْلِيَتِهِ وَتَثْبِيتِ فُؤَادِهِ بِمَا فِي قَصَصِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنَ الْعِبَرِ وَالسُّنَنِ الَّتِي بَيَّنَ فِقْهَهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ فِي الْآيَاتِ السَّبْعِ الَّتِي قَبْلَهُمَا. قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ قَفَى بِهِ عَلَى جُمْلَةِ قَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا مِنْ بَيَانِ حِكَمِهَا وَفِقْهِهَا فَكَانَتْ كَالْفَذْلَكَةِ لَهَا، فَالْقُرَى هُنَا هِيَ الْمَعْهُودَةُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِمَّا جَاوَرَهَا، وَكَانَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلَ مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاقَلُونَ بَعْضَ أَخْبَارِهِمْ مُبْهَمَةً مُجْمَلَةً، وَكَانَتْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ قَدْ طُبِعَتْ عَلَى غِرَارٍ وَاحِدٍ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالتَّمَارِي فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ النُّذُرِ، إِلَى أَنْ حَلَّ بِهِمُ النَّكَالُ، وَأُخِذُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا كُلِّهَا وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْمُ مُوسَى فَإِنَّهُمْ آمَنُوا، وَإِنَّمَا كَذَّبَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ فَعُذِّبُوا، وَلِذَلِكَ أَخَّرَ قِصَّتَهُ.
وَالْمَعْنَى: تِلْكَ الْقُرَى الَّتِي بَعُدَ عَهْدُهَا، وَطَالَ الْأَمَدُ عَلَى تَارِيخِهَا، وَجَهَلَ قَوْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ حَقِيقَةَ حَالِهَا، نَقُصُّ عَلَيْكَ الْآنَ بَعْضَ أَنْبَائِهَا، وَهُوَ مَا فِيهِ الْعِبَرُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ: نَقُصُّ لَا قَصَصْنَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَعَ تِلْكَ الْقَصَصِ لَا بَعْدَهَا. وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: وَلَقَدْ جَاءَ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَتِهِمْ، وَبِالْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا عَلَيْهِمْ لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ، بِأَنْ جَاءَ كُلُّ رَسُولٍ قَوْمَهُ بِمَا أَعْذَرَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ بِمَا كَانُوا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا عِنْدَ بَدْءِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ، وَتَرْكِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ بَعْثَتِهِ؛ بِسَبَبِ تَعَوُّدِهِمْ تَكْذِيبَ الْحَقِّ قَبْلَهَا، وَهُوَ تَأْوِيلٌ وَاهٍ جِدًّا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَمَا كَانُوا} نَفْيٌ لِلشَّأْنِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ كُلِّ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى خَطَئِهِ فِيهِ، وَلَكِنْ شَأْنُ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ عِنَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَنْ يُصِرُّوا عَلَيْهِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ، فَهُمْ إِمَّا جَاحِدٌ مُعَانِدٌ ضَلَّ عَلَى عِلْمٍ، وَإِمَّا مُقَلِّدٌ يَأْبَى النَّظَرَ وَالْعِلْمَ، عَلَى أَنَّ مَا قَالُوهُ لَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ يُخَالِفُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، فَالْعَجَبُ مِمَّنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ وَلَمْ يَفْهَمْ غَيْرَهُ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ يُونُسَ بَعْدَ ذِكْرِخُلَاصَةِ قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} (10: 74) فَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا بَعْدَ نُوحٍ مَنْ ذُكِرُوا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا وَهُنَالِكَ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: إِنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى فِي جُمْلَتِهِمْ وَمَجْمُوعِهِمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِيعِ، ثُمَّ قَوْمُ هُودٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمِ صَالِحٍ إِلَخْ، وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ وَيَلِيهِ هَذَا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَلْبَتَّةَ.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} أَيْ: مِثْلَ هَذَا الَّذِي وُصِفَ مِنْ عِنَادِ هَؤُلَاءِ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَعَدَمِ تَأْثِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ فِي عُقُولِهِمْ، يَكُونُ الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ صَارَ الْكُفْرُ صِفَةً لَازِمَةً لَهُمْ، بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وُشُئُونِهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْنَسُوا بِالْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ؛ حَتَّى تَسْتَحْوِذَ أَوْهَامُهُ عَلَى أَفْكَارِهِمْ، وَيَمْلَأَ حُبُّ شَهَوَاتِهِ جَوَانِبَ قُلُوبِهِمْ، وَيَصِيرَ وِجْدَانًا تَقْلِيدِيًّا لَهُمْ، لَا يَقْبَلُونَ فِيهِ بَحْثًا، وَلَا يَسْمَعُونَ فِيهِ نَقْدًا، فَيَكُونُ كَالسِّكَّةِ الَّتِي طُبِعَتْ فِي أَثْنَاءِ لِينِ مَعْدَنِهَا بِصَهْرِهِ وَإِذَابَتِهِ ثُمَّ جَمَدَتْ فَلَا تَقْبَلُ نَقْشًا وَلَا شَكْلًا آخَرَ.
وَمِنْ وُجُوهِ تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْآيَةِ إِعْلَامُهُ أَنَّ مَنْ وَصَلُوا بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ أَوِ التَّقَالِيدِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَإِهْمَالِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنْ وَضَحَتْ، وَلَا بِالْآيَاتِ وَإِنِ اقْتَرَحَتْ، فَقَدْ كَانَ كَفَّارُ مَكَّةَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ، وَكَانَ يَتَمَنَّى أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ وَمَا اقْتَرَحُوا مِنْهَا حِرْصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ، حَتَّى بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَتَقَدَّمَ هَذَا الْبَيَانُ فِي آيَاتٍ مِنْ أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَثْنَائِهَا، وَمِمَّا يُنَاسِبُ مَا هُنَا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (6: 109، 110) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} بِمَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}.