فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس قي قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} الآية. قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا يعتزون بالإِسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء. فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه {وتركهم في ظلمات} يقول في عذاب {صم بكم عمي} لايسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يعقلونه {أو كصيب} هو المطر. ضرب مثله في القرآن {فيه ظلمات} يقول: ابتلاء {ورعد وبرق} تخويف {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين {كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: كلما أصاب المنافقون من الإِسلام عزًا اطمأنوا، فإن أصاب الإِسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناسٍ من الصحابة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} الآية. قال: إن ناسًا دخلوا في الإِسلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد نارًا ف {أضاءت ما حوله} من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي. فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر، بينا هو كذلك إد كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر، فهم {صم بكم} فهم الخرس {فهم لا يرجعون} إلى الإِسلام. وفي قوله: {أو كصيب} الآية. قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله. فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق، أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا. قاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمدًا فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما.
فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين، مثلًا للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء، فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما {كلما أضاء لهم مشوا فيه} فإذا كثرت أموالهم وولدهم، وأصابوا غنيمة وفتحًا {مشوا فيه} وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق، واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق {وإذا أظلم عليهم قاموا} فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم، وأصابهم البلاء، قالوا هذا من أجل دين محمد، وارتدوا كفارًا، كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي. مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {كمثل الذي استوقد نارًا} قال: ضربه الله مثلًا للمنافق. وقوله: {ذهب الله بنورهم} أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم. وفي قوله: {أو كصيب} الآية. قال الصيب المطر. وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله، وعمل مراءاة للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك، وأما الظلمات فالضلالة، وأما البرق فالإِيمان. وهم أهل الكتاب {وإذا أظلم عليهم} فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مثلهم} الآية. قال: ضرب الله مثلًا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفأوه بكفرهم ونفاقهم، فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون، هدى ولا يستقيمون على حق {صم بكم عمي} عن الخير {فهم لا يرجعون} إلى هدى، ولا إلى خير. وفي قوله: {أو كصيب} الآية. يقول: هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر، والحذر من القتل، على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم، على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق {حذر الموت والله محيط بالكافرين} منزل ذلك بهم من النقمة {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدة ضوء الحق {كلما أضاء لهم مشوا فيه} أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر {قاموا} أي متحيرين {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} أي لما سمعوا، تركوا من الحق بعد معرفته.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} قال: أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة، وإضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل {والله محيط بالكافرين} قال: جامعهم في جهنم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} قال: هذا مثل ضربه الله للمنافق. إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين، ووارث بها المسلمين، وغازى بها المسلمين، وحقن بها دمه وماله. فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله، فسلبها المنافق عند الموت، فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها. كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه {فهم لا يرجعون} عن ضلالتهم، ولا يتوبون ولا يتذكرون {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} قال: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتًا إلا ظن أنه قد أتي، ولا يسمع صياحًا إلا ظن أنه قد أتي، ولا يسمع صياحًا إلا ظن أنه ميت.
أجبن قوم، وأخذله للحق. وقال الله في آية أخرى {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون: 4] {يكاد البرق يخطف أبصارهم} الآية. قال: {البرق} هو الإِسلام والظلمة هو البلاء والفتنة. فإذا رأى المنافق من الإِسلام طمأنينة، وعافية، ورخاء، وسلوة من عيش {قالوا إنا معكم} ومنكم، وإذا رأى من الإِسلام شدة، وبلاء، فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يرج عاقبتها. إنما هو صاحب دنيا لها يغضب، ولها يرضى، وهو كما هو نعته الله.
وأخرج ابن وكيع وعبد بن حميد وأبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طرق عن ابن عباس في قوله: {أو كصيب من السماء} قال: المطر.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد والربيع وعطاء. مثله.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الصيب من هاهنا. وأشار بيده إلى السماء».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يكاد البرق} قال: يلتمع {يخطف أبصارهم} ولما يخطف. وكل شيء في القرآن كاد، وأكاد، وكادوا فإنه لا يكون أبدًا.
وأخرج وكيع عن المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسين يقرأها {يكاد البرق يخطف أبصارهم}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
فصل في أو:
في أو خمسة أقوال:
أظهرها: أنها للتفصيل بمعنى: أنَّ الناظرين في حال منهم من يشبههم بحال المُسْتَوْقد، ومنهم من يشبههم بأَصْحاب صَيِّبٍ هذه صفته.
قال ابن الخطيب: والثاني أبلغ؛ لأنه أدلُّ على فرط الحيرة.
والثاني: أنها للإبهام، أي: أن الله أَبْهَمَ على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء.
والثالث: أنها للشَّك، بمعنى: أنَّ الناظر يشكُّ في تشبيههم.
الرابع: أنها للإباحة.
الخامس: أنها للتخيير، قالوا: لأن أصلها تساوي شيئين فصاعدًا في الشك، ثم اتسع فيها، فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين يريد أنهما سيّان، وأن يجالس أيهما شاء، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]، أي: الإثم والكفر متساويان في وجوب عصيانهما، وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين:
أحدهما: كونها بمعنى الواو؛ وأنشدوا: البسيط:
نضال الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ** كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

وقال تعالى: {تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] وقال: الطويل:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ ** لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهًا

قال ابن الخطيب: وهذه الوجوه مطردة في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].
المعنى الثاني: كونها بمعنى: بل؛ قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وأنشدوا: الطويل:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ** وَصُورَتِها أوْ أَنْتَ في العَيْنِ أمْلَحُ

أي: بل أنت.
و{كصيب} معطوف على {كَمَثَلِ} فهو في محل رفع، ولابد من حذف مضافين؛ ليصح المعنى، التقدير يراد: أو كمثل ذوي صيّب ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم} لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصَّيِّب لا بالصيب نفسه.
والصَّيب المَطَر سمي بذلك لنزوله، يقال: صاب يصوب إذا نزل؛ ومنه: صوَّب رأسه: إذا خفضه؛ قال الطويل:
فَلَسْتُ لإنْسِيَّ ولَكِنْ لِمَلأَكِ ** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

وقال آخر: الطويل:
فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ ** سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ

وقيل: إنه من صَابَ يَصُوب: إذا قصد، ولا يقال: صَيّب إلا للمطر الجَوَاد، كان- عليه الصلاة والسلام- يقول: «اللهم اجعله صَيِّبًا هَنِيئًا» أي: مطرًا جوادًا، ويقال أيضًا للسحاب: صَيّب؛ قال الشماخ: الطويل:
وَأَسْحَمَ دَانٍ صادَقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ

وتنكير صيب يدلّ على نوع زائد من المطر شديد هائلٍ كما نكرت النَّار في التمثيل الأول.
وقرئ كصائب، والصَّيب أبلغ.
واختلف في وزن صَيِّب.
فقد ذهب البصرون أنه فَيَعِل، والأصل: صَيْوِب أدغم كمَيّت وهَيّن، والأصل: مَيوت وهَيْوِن.
وقال بعض الكوفيين: وزنه فَعِيل والأصل: صَوِيب بزنة طويل.
قال النحاس: وهذا خطأ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يُعَلّ كطويل، وكذا أبو البقاء.
وقيل وزنه: فَعْيَل فقلب وأُدغم.
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] استئنافية، ومن قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] إنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض بين المتعاطفين، أعني قوله: {كَمَثَل} و{كَصَيِّبٍ} وهي مسألة خلاف منعها الفارسي ورد عليه بقول الشاعر: الوافر:
لَعَمْرِكَ والخُطُوبُ مُغَيِّراتٌ ** وَفِي طُولِ المُعَاشَرَةِ التَّقَالِي

لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمٌّ أَوْفَى ** وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لا تُبَالِي

ففصل بين القسم، وهو لعمرك وبين جوابه، وهو لَقَدْ بَالَيْتُ بجملتين إحداهما: والخطوب متغيرات.
والثانية: وفي طول المُعَاشرة التَّقالي.
ومن السماء يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يتعلّق بصيب؛ لأنه يعمل عمل الفعل، والتقدير: كمطر يَصُوب من السماء، ومن لابتداء الغاية.
والثَّاني: أن يكون في محلّ جر صفة لصيب، فيتعلّق بمحذوف، وتكون من للتبغيض، ولابد حينئذ من حذف مضاف تقديره: كصيّب كائن من أمطار السَّماءِ.
والسماء: هذه المطلّة، وهي في الأصل كل ما عَلاَكَ من سَقْفٍ ونحوه، مشتقة من السُّمو، وهو الإرتفاع، والأصل: سَمَاو، وإنما قُلبت الواو همزة لوقوعها طرفًا بعد ألف زائدة وهو بدل مُطّرد، نحو: كساء ورداء، بخلاف سقاية وشقاوة لعدم تطرف حرف العلّة، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحَّت؛ نحو: سماوة.
قال الشاعر: الرجز:
طَيِّ اللَّيالِي زُلُفًا فَزُلَفَا ** سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا

والسماء مؤنث قال تعالى: {إِذَا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] وقد تذكَّر؛ قال تعالى: {السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]؛ وأنشد: الوافر:
وَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إلَيْهِ قَوْمًا ** لَحِقْنَا بَالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ

فأعاد الضَّمير من قوله: {إلَيْهِ} على السَّمَاءِ مذكَّرًا، ويجمع على سَمَاوَاتٍ، وأَسْمِيَة، وَسُمِيّ، والأصل فعول، إلا أنه أعلّ إعلال عِصِيّ بقلب الواوين ياءين، وهو قلب مطّرد في الجمع، ويقلّ في المفرد نحو: عتا- عُتِيًّا، كما شذّ التصحيح في الجمع قالوا: إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ، وجمع أيضًا على سماء، ولكن مفرده سَمَاوة، فيكون من باب تَمْرَةٍ وتضمْرٍ، ويدلّ على ذلك قوله: الطويل:
فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا

ووجه الدّلالة أنه مُيِّزَ به سَبْع ولا تُمَيِّزُ هي وأخواتها إلاّ بجمع مجرور.
وفي قوله: {من السَّمَاءِ} ردّ على من قال: إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأَرْض إلى الهواء، فتنعقد هناك من شدّة برد الهواء، ثم ينزل مرة أخرى، فذاك هو المطر؛ فأبطل الله هذا المذهب بأن بَيّن أن الصِّيب نزل من السَّمَاء، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].
وقال: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43].
قوله: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19] يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون صفة لصَيّب.
الثاني: أن يكون حالًا منه، وإن كان نكرة لتخصصه، إما بالعمل في الجار بعده، أو بصفة بالجار بعده.
الثالث: أن يكون حالًا من الضمير المُسْتَكِنّ في من السماء إذا قيل: إنه صفة لصَيّب، فيتعلق في التقادير الثلاثة بمحذوف، إلاّ أنه على القول الأوّل في محلّ جر لكونه صفة لمجرور، وعلى القولين الأخيرين في مَحَلّ نَصْب على الحال.
و{ظلمات} على جميع هذه الأقوال فاعل به؛ لأنَّ الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف، أو ذي حالٍ، أو ذي خبر، أو على نَفْي، أو استفهام عملًا عمل الفعل، والأخفش يُعْمِلُهُمَا مطلقًا كالوصف، وسيأتي تحرير ذلك.
الرابع: أن يكون خبرًا مقدمًا، و{ظلمات} مبتدأ، والجملة تحتمل وجهين:
الأول: الجر على أنها صفة لصيب.
والثاني: النَّصْب على الحال، وصاحب الحال يحتمل أن يكون {كصيب} وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدّمه، وأن يكون الضَّمير المستكن في {من السَّماء} إذا جعل وصفًا لصيّب، والضمير في {فيه} ضمير الصيب، واعلم أن جعل الجار صفة أو حالًا، ورفع {ظلمات} على الفاعلية به أَرْجَحُ من جعل {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} جملة برأسها في محلّ صفة أو حال؛ لأنّ الجار أقرب إلى المفرد من الجملة، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين.
و{رَعْدٌ وبَرْقٌ} معطوفان على {ظلمات} بالاعتبارين المتقدّمين، وهما في الأصْل مصدران تقول: رَعَدَتِ السماء تَرْعَدُ رَعْداَ، وبَرَقَتْ بَرْقًا.
قال أبو البقاء: وهما على ذلك مُوَحَّدَتَانَ هنا يعني على المصدرية ويجوز أن يكونا بمعنى الرَّاعد والبارق، نحو: رجل عَدْل.
والظاهر أنهما في الآية ليس المُرَاد بهما المصدر، بل جعلا اسمًا للهز واللمعان.
والبرق: اللَّمَعَان، وهو مقصود الآية، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فَاعِلٍ.
وقال علي وابن عباس- رضي الله عنهما- وأكثر المفسرين: الرعد: اسم ملك يسوق السَّحاب، والبرق: لَمَعَانُ سَوْط من نور يزجر به المكل السحاب.
وقيل: الرعد صوت انضغاط السّحاب.
وقيل: تسبيح الملك، والبرق ضحكه.
وقال مجاهد: الرعد اسم الملك؛ ويقال لصوته أيضًا: رعد، والبرق اسم ملك يسوق السحاب.
وقال شهر بن حَوشَبٍ: الرعد ملك يُزْجِي السحاب، فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النَّار فهي الصواعق.
وقيل: الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب.
فإن قيل: لم جمع الظّلمات، وأفرد الرعد والبرق؟
فالجواب: أن في {ظلمات} اجتمع أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات داجيةٌ، ورعد قاصف، وبرق خاطف.
{يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ} وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها لاستئنافها كأنه قيل: ما حالهم؟ فقيل: يجعلون.
وقيل: بل لها محلّ، ثم اختلف فيه فقيل: جرّ؛ لأنها صفة للمجرور، أي: أصحاب صيب جاعلين، والضمير محذوف.
أو نابت الألف واللام منابه، تقديره: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه.
وقيل: محلُّها نصب على الحال من الضمير في {فيه}.
والكلام في العائد كما تقدّم، والجَعْل- هنا- بمعنى الالتقاء، ويكون بمعنى الخَلْق، فيتعدّى لواحد، ويكون بمعنى صَيَّرَ أو سمى، فيتعدى لاثنين، ويكون للشروع، فيعمل عمل عسى.
و{أَصَابِعهُمْ} جمع إصبع، وفيها عشر لُغَات: بتثليث الهمزة مع تثليت البَاءِ، والعاشرة أصبوع بضم الهمزة.
والواو في {يَجْعَلُون} تعود لِلْمُضَاف المحذوف، كما تقدم إيضاحه.
واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران:
أحدهما: أن يلتفت إليه.
والثاني: ألا يلتفت إليه، وقد جمع الأمران في قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائلُونَ} [الأعراف: 4]، والتقدير: وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا} [الأعراف: 4]، ورعاه في قوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَائلُونَ} [الأعراف: 4] وذكر الأصابع، وإن كان المجهول إنما هو رؤوس الأصابع تسمية للبعض باسم الكُلّ كما في قوله تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، و{في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} كلاهما متعلّق بالجعل، و{من} معناها التعليل.
و{الصَّوّاعق} جمع صاعقة، وهي الضَّجَّة الشديدة من صوت الرعد تكون معها القطعة من النار.
ويقال: ساعقة بالسّين، وصاعقة، وصاقعة بتقديم القاف؛ وأنشد: الطويل:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ المُجْرِمِين أصَابَهُمْ ** صَوَاقِعُ لاَ بَلْ هُنَّ فَوقَ الصَّواقِعِ

ومثله قول الآخر: الرجز:
يَحْكُونَ بِالمَصْقُولَةِ القَوَاطِعِ ** تَشَقُّقَ اليَدَيْنِ بِالصَّوَاقِعِ

وهي قراءة الحسن.
قال النَّحَّاس: وهي لغة تميم، وبعض بني ربيعة، فيحتمل أن تكون صاعقة مقلوبة من صَاعِقة ويحتمل ألاّ تكون، وهو الأظهر لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدم.
ويقال: صقعة أيضًا، وقد قرأ بها الكسَائي في الذاريات.
يقال: صُعِقَ زيد، وأصعقه غيره قال: الطويل:
تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ ** أُحَادَ وَمَثْنَى أصعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ

وقيل: الصّاعقة قصف رعد ينقض منها شعلة من نارٍ لطيفة قوية لا تمرُّ بشيء إلاّ أتت عليه إلاّ أنها مع قوتها سريعة الخمود.
وقيل: الصاعقة: قطعة عذاب ينزلها الله على من يَشَاءُ، وروي عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرَّعْدِ والصواعق قال: «اللَّهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قبل ذَلِكَ».
قوله: {حَذَرَ الموت} أي: مَخَافَةَ الهلاك، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله ناصبه {يجعلون} ولا يضر تعدّد المفعول من أجله؛ لأن الفعل يعلّل يعلل.
الثاني: أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره يحذرون حذرًا مثل حَذَرِ الموت.
والحَذَرُ والحِذَار مصدران لحذر أي: خاف خوفًا شديدًا.
واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام: قسم يكثر نصبه، وهو ما كان غير معرف بأل ولا مضاف نحو: جئت إكرامًا لك.
وقسم عكسه، وهو ما كان معرَّفًا بأل؛ ومن مجيئه منصوبًا قول الشاعر: الرجز:
لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ** ولَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ

وقسم يستوي فيه الأمران، وهو المضاف كالآية الكريمة، ويكون معرفةً ونكرةً، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله: الطويل:
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ** وأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا

و{حَذَرَ المَوْتِ} مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله محذوف، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده.
والثاني: فعل ما لم يسم فاعله.
والثالث: فاعل أفعل في التعجُّب على الصحيح، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده خلافًا للكوفيين.
والموت: ضد الحياة؛ يقال: مَاتَ يَمُوتُ ويَمَاتُ؛ قال الشاعر: الرجز:
بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البَنَاتِ ** عِيشِي وَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي

وعلى هذه اللّغة قرئ مِتْنا ومِتُّ- بكسر الميم- كخِفْنَا وخَفْتُ، فوزن مَاتَ على اللغة الأولى فَعَلَ بفتح العين، وعلى الثانية فَعِلَ بكسرها، والمُوَات: بالضمِّ المَوْت أيضًا، وبالفتح: ما لا روح فيه، والمَوْتَان بالتحريك ضد الحيوان؛ ومنه قولهم: اشْتَرِ المَوْتَانَ، ولا تَشْتَرِ الرَّقيق، فإنه في مَعْرَضِ الهَلاَك؛ والمَوْتَان بضمّ الميم: وقوع الموت في الماشية، ومُوِّتَ فلانٌ بالتشديد للمبالغة؛ قال: الوافر:
فَعُرْوَةُ مَاتَ مَوْتًا مُسْتَرِيحًا ** فَهَا أَنَا ذَا أُمَوَّتُ كُلَّ يَوْمِ

والمُسْتَمِيت: الأمر المُسْتَرْسِل؛ قال رؤْبَة: الرجز:
وَزَبَدُ البَحْرِ لَهُ كَتِيتُ ** وَاللَّيْلُ فَوْقَ المَاءِ مُسْتَمِيتُ

قوله: {والله مُحِيطٌ بالكافرين} [البقرة: 19].
وهو مجاز أي: لا يفوتونه.
فقيل: عالم بهم، كما قال: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا} [الطلاق: 12].
وقيل: جامعهم وقدرته مُسْتولية عليهم؛ كما قال: {والله مِن وَرَائهِمْ مُّحِيطٌ} [البروج: 20].
وقال مجاهد: يجمعهم فيعذبهم.
وقيل: يهلكهم، قال تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي: تَهْلِكُوُا جميعًا.
وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: عقابه محيطٌ بهم.
وقال أبو عَمْرو، والكسَائِيُّ: {الكَافِرِينَ} بالإمالة ولا يميلان {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41]، وهذه الجملة مبتدأ وخبر.
وأصل {مُحِيط} مُحْوِط؛ لأنه من حَاطَ يَحُوطُ فأُعِلّ كإِعْلاَلِ نَسْتِعِين.
والإحاطةُ: حصر الشيء من جميع جهاته، وهذه الجملة قال الزمخشريُّ: هي اعتراض لا مَحَل لها من الإعراب كأنه يعني بذلك أن جملة قوله: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ} وجملة قوله: {يَكَادُ البرق} شيءٌ واحد؛ لأنهما من قصّة واحدة؛ فوقع ما بينهما اعتراضًا. اهـ. باختصار.