فصل: فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْحَاصِلُ: أَنَّ لَدَيْنَا هُنَا عَطْفًا بِالْفَاءِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَعَطْفًا بِالْوَاوِ فِي قِصَّةِ مُوسَى، وَفَصْلًا بَيَانِيًّا فِي الْقَصَصِ الَّتِي بَيْنَهُمَا يُشْبِهُ الْفَصْلَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَعَطْفُ التَّبْلِيغِ فِيهِ عَلَى الْإِرْسَالِ بِالْفَاءِ؛ لِإِفَادَةِ التَّعْقِيبِ وَعَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْقَصَصِ بَعْدَهُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ هَذَا مَعْلُومًا وَكَانَ مَا جَرَى مِنْ أَمْرِ قَوْمِ نُوحٍ عِبْرَةً لِقَوْمِ هُودٍ، وَكَانَا مَعًا عِبْرَةً لِقَوْمِ صَالِحٍ وَهَلُمَّ جَرًّا، حَسُنَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا النَّبِيِّ مَعَ قَوْمِهِ؟ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَوَجْهُ الْعَطْفِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ بِالْوَاوِ هُوَ أَنَّهُ قَدْ قَفَى فِي قِصَّةِ مُوسَى هُنَا عَلَى ذِكْرِ إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِذِكْرِ نَتِيجَةِ هَذَا الْإِرْسَالِ وَعَاقِبَتِهِ بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلَمُوا بِهَا} إِلَخْ، وَبُدِئَتِ الْقِصَّةُ بَعْدَهُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ الْإِجْمَالِ وَمُقْدِّمَاتِ تِلْكَ النَّتِيجَةِ، فَكَانَ الْمُنَاسَبُ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا لَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتِيجَةِ، أَوْ بَيْنَ التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمُقْدِّمَاتُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ النَّتِيجَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَهَذِهِ دِقَّةٌ فِي الْبَلَاغَةِ لَا يَهْتَدِي إِلَى مِثْلِهَا إِلَّا غَوَّاصُو بَحْرِ الْبَيَانِ، وَلَا يَكَادُونَ يَجِدُونَ فَوَائِدَهَا إِلَّا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ، وَأَعْجَبُ لِلْإِمَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ كَيْفَ غَفَلَ عَنْهَا إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْلِهَا.
وَحِكْمَةُ بِدْءِ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ نَتِيجَتِهَا، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا وَهِيَ- وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَهَا، مِنْ حَيْثُ إِهْلَاكُ مُعَانِدِي الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ بَعْدَ جُمْلَةِ تِلْكَ الْقَصَصِ لِتَشَابُهِهَا مَبْدَأً وَغَايَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّةُ مُوسَى صلى الله عليه وسلم طَوِيلَةٌ فَهِيَ تُسَاوِيهَا فِي هَذَا مِنْ حَيْثُ رِسَالَتُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَطْ، وَفِيهَا عِبَرٌ أُخْرَى فِيمَا تَشَابَهَ بِهِ أَمْرُ خَاتَمِ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَيْثُ إِرْسَالُهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِرْسَالُ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ إِلَى الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْبَشَرِ، وَتَوْفِيقُ اللهِ قَوْمَهُمَا لِلْإِيمَانِ وَنَشْرِ شَرِيعَتِهِمَا فِيمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِمْ، إِلَى آخِرِ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي نُكْتَةِ عَطْفِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِـ {ثُمَّ}، وَنُكْتَةِ التَّعْبِيرِ بِـ {بَعَثْنَا} وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَوَاخِرَهَا تَبْشِيرَ مُوسَى وَكَذَا عِيسَى بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ} عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَقَدْ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ عَنِ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِذْ يَقُولُونَ: أَنْتَ حَقِيقُ كَذَا، وَأَنْتَ حَقِيقٌ بِأَنْ تَفْعَلَ كَذَا، كَمَا يَقُولُونَ: أَنْتَ جَدِيرٌ بِهِ وَخَلِيقٌ بِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ اسْتِعْمَالُهُ بِعَلَى وَلَكِنْ وَرَدَ فِي كَلَامِهِمُ اسْتِعْمَالُ عَلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ كَقَوْلِهِمْ: ارْكَبْ عَلَى اسْمِ اللهِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَعْنَى السَّابِعِ مِنْ مَعَانِي عَلَى الْجَارَّةِ، وَأَيَّدَهُ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ وَمِثْلُهَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حَقِيقٌ أَنْ لَا أَقُولَ...؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ أَنَّ الْجَارَّ الْمَحْذُوفَ مِنْ أَنَّ هُوَ الْيَاءُ، وَحَذْفُ الْجَارِ مِنْ أَنْ الْخَفِيفَةِ وأَنَّ الْمُشَدَّدَةِ قِيَاسِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الِاخْتِيَارِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ: مَعْنَاهُ حَقِيقٌ بِأَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ؛ أَيْ: جَدِيرٌ بِذَلِكَ وَحَرِيٌّ بِهِ، قَالُوا: والْبَاءُ وعَلَى يَتَعَاقَبَانِ، يُقَالُ: رُمِيتُ بِالْقَوْسِ، وَعَلَى الْقَوْسِ، وَجَاءَ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وَبِحَالٍ حَسَنَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ حَرِيصٌ عَلَى أَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ اهـ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ حَقِيقًا قَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحِرْصِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ الْمُفَسِّرِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ التَّضْمِينَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِي لِلْكَلِمَةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْهُ التَّعْدِيَةُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْعِبَارَةِ: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ وَجَدِيرٌ بِأَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَحَرِيصٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَنْ أُخِلَّ بِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاقِ فِي وَصْفِ مُوسَى نَفْسَهُ بِالصِّدْقِ حَتَّى جُعِلَ قَوْلُ الْحَقِّ كَأَنَّهُ يَسْعَى لِيَكُونَ هُوَ قَائِلَهُ وَالْقَائِمَ بِهِ، وَلَا يَرْضَى أَنْ يَنْطِقَ بِهِ غَيْرُهُ، فَلَا يُخَوَّلُ مِنْ تَكَلُّفٍ، وَإِنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَخِيرِ: إِنَّهُ هُوَ الْأَوْجَهُ الْأَدْخَلُ فِي نُكَتِ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ} أَيْ: وَاجِبٌ وَحَقٌّ عَلَى أَلَّا أُخْبِرَ عَنْهُ تَعَالَى إِلَّا بِمَا هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ عِزِّ جَلَالِهِ وَعَظِيمِ شَأْنِهِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ:
بَلَّغَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ- أَيْ: سَيِّدُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَمُدَبِّرُ جَمِيعِ أُمُورِهِمْ- وَأَنَّهُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الرِّسَالَةِ لَا يَقُولُ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ رَسُولًا يَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِالصِّدْقِ، وَالْتِزَامِ الْحَقِّ فِي التَّبْلِيغِ عَنْ رَبِّهِ، وَمَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِيهِ، وَشَدِيدُ الْحِرْصِ عَلَيْهِ بِمَالِهِ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِيَارِ، فَاشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى عَقِيدَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ لِلْعَالِمِينَ كُلِّهِمْ رَبًّا وَاحِدًا، وَعَقِيدَةَ الرِّسَالَةِ الْمُؤَيَّدَةَ مِنْهُ تَعَالَى بِالْعِصْمَةِ فِي التَّبْلِيغِ وَالْهِدَايَةِ، وَقَدْ نَاقَشَهُ فِرْعَوْنُ الْبَحْثَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فَوَصَفَهُ مُوسَى بِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، وَيُوَضِّحُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ فِي أَجْوِبَةِ عِدَّةِ أَسْئِلَةٍ أَوْرَدَهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ سَأَلَهُ هُوَ وَهَارُونَ عَنْ رَبِّهِمَا فِي سِيَاقِ سُورَةِ طَهَ، وَجَاءَ فِيمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِيهَا ذِكْرَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَكَانَ قُدَمَاءُ الْمِصْرِيِّينَ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِالرَّبِّ الْإِلَهِ الْغَيْبِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ شَابُوا الْعَقِيدَتَيْنِ بِنَزَغَاتِ الشِّرْكِ وَبَعْضِ الْخُرَافَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْهُ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مُوسَى قَدْ بَلَّغَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ أُصُولَ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةَ: التَّوْحِيدَ، وَالرِّسَالَةَ، وَالْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَفِي كُلِّ سِيَاقٍ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى الْمُكَرَّرَةِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فَوَائِدُ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ لَا تُوجَدُ فِي الْأُخْرَى، وَأَبْسَطُهَا وَأَوْسَعُهَا بَيَانًا هَذِهِ السُّورَةُ الْأَعْرَافُ وَطَهَ وَالشُّعَرَاءُ وَالْقَصَصُ، وَإِنَّمَا التَّكْرَارُ لِجُمْلَةِ الْقِصَّةِ لَا التَّفْصِيلُ لَهَا كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُ بِبَيِّنَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ وَتَبْلِيغِهِ عَنْهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَقَالَ حِكَايَةً عَنْهُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ، ظَاهِرَةِ الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ الْحَقِّ، فَتَنْكِيرُ الْبَيِّنَةِ لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْمُعْجِزَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ لَيْسَ رَبًّا وَلَا إِلَهًا، وَعَلَى أَنَّهَا- أَيِ: الْبَيِّنَةُ- لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ مُوسَى، وَلَا مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَنَى عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ: بِأَنْ تُطْلِقَهُمْ مِنْ أَسْرِكَ، وَتُعْتِقَهُمْ مِنْ رِقِّ قَهْرِكَ، لِيَذْهَبُوا مَعِي إِلَى دَارٍ غَيْرِ دِيَارِكَ، وَيَعْبُدُوا فِيهَا رَبَّهُمْ وَرَبَّكَ، وَبِمَ أَجَابَ فِرْعَوْنُ؟
{قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ مَصْحُوبًا وَمُؤَيَّدًا بِآيَةٍ مِنْ عِنْدِ مَنْ أَرْسَلَكَ كَمَا تَدَّعِي- الشَّرْطُ بِإِنْ يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ أَوِ الْجَزْمِ بِنَفْيِهَا- فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأْتِنِي بِهَا بِأَنْ تُظْهِرَهَا لَدَيَّ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ الْمُلْتَزِمِينَ لِقَوْلِ الْحَقِّ، وَهَذَا شَكٌّ آخَرُ فِي صِدْقِهِ، بَعْدَ الشَّكِّ فِي مَجِيئِهِ بِالْآيَةِ.
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَيْ: فَلَمْ يَلْبَثْ مُوسَى أَنْ أَلْقَى عَصَاهُ الَّتِي كَانَتْ بِيَمِينِهِ أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ- وَهُوَ الذَّكَرُ الْعَظِيمُ مِنَ الْحَيَّاتِ- مُبِينٌ؛ أَيْ: ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ فِي كَوْنِهِ ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا يَسْعَى وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، تَرَاهُ الْأَعْيُنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْحَرَهَا سَاحِرٌ فَيُخَيَّلَ إِلَيْهَا أَنَّهَا تَسْعَى- كَمَا سَيَأْتِي مِنْ أَعْمَالِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ- وَنَزَعَ يَدَهُ؛ أَيْ: أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ بَعْدَ أَنْ وَضَعَهَا فِيهِ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْعَصَا فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ نَاصِعَةُ الْبَيَاضِ تَتَلَأْلَأُ لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَنْظُرُهُ، وَالنَّظَّارَةُ هُمُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ عَادَةً لِرُؤْيَةِ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بَيْضَهَا فِي طَهَ وَالنَّمْلِ وَالْقَصَصِ بِأَنَّهُ: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ: مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ كَالْبَرَصِ.
وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ فِي صِفَةِ الثُّعْبَانِ الَّذِينَ تَحَوَّلَتْ إِلَيْهِ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي تَأْثِيرِهِ لَدَى فِرْعَوْنَ مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يَصِحُّ لَهَا سَنَدٌ، وَلَا يُوثَقُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، وَمِنْهَا قَوْلُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: إِنَّ الْعَصَا لَمَّا صَارَتْ ثُعْبَانًا حَمَلَتْ عَلَى النَّاسِ فَانْهَزَمُوا مِنْهَا فَمَاتَ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَامَ فِرْعَوْنُ مُنْهَزِمًا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِيهِ غَرَابَةٌ فِي سِيَاقِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَقَدِ اقْتَصَرْتُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَقُولَ: إِنَّنِي أُرَجِّحُ تَضْعِيفَ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ لِوَهْبٍ عَلَى تَوْثِيقِ الْجُمْهُورِ لَهُ، بَلْ أَنَا أَسْوَأُ فِيهِ ظَنًّا عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ كَثْرَةِ عِبَادَتِهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضِلْعٌ مَعَ قَوْمِهِ الْفُرْسِ الَّذِينَ كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَلِلْعَرَبِ، وَيَدُسُّونَ لَهُمْ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ التَّشَيُّعِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ وَالِدَهُ مُنَبِّهًا فَارِسِيٌّ أَخْرَجَهُ كِسْرَى إِلَى الْيَمَنِ فَأَسْلَمَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ ابْنَهُ وَهْبًا كَانَ يَخْتَلِفُ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى بِلَادِهِ بَعْدَ فَتْحِهَا، وَهُنَا مَوْضِعٌ لِشُبْهَةٍ فِي الْغَرَائِبِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ- وَمِثْلُهُ عِنْدِي كَعْبُ الْأَحْبَارِ الْإِسْرَائِيلِيُّ- كِلَاهُمَا كَانَ تَابِعِيًّا كَثِيرَ الرِّوَايَةِ لِلْغَرَائِبِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ مَنْقُولٌ وَلَا مَعْقُولٌ، وَقَوْمُهُمَا كَانَا يَكِيدُونَ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي فَتَحَتْ بِلَادَهُ الْفُرْسَ، وَأَجْلَتِ الْيَهُودَ مِنَ الْحِجَازِ، فَقَاتِلُ الْخَلِيفَةِ الثَّانِي فَارِسِيٌّ مُرْسَلٌ مِنْ جَمْعِيَّةٍ سِرِّيَّةٍ لِقَوْمِهِ، وَقَتَلَةُ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ كَانُوا مَفْتُونِينَ بِدَسَائِسِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ، وَإِلَى جَمْعِيَّةِ السَّبَئِيِّينَ وَجَمْعِيَّاتِ الْفُرْسِ تَرْجِعُ جَمِيعُ الْفِتَنِ السِّيَاسِيَّةِ، وَأَكَاذِيبِ الرِّوَايَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ.
{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.

.فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ:

كَانَ السِّحْرُ فَنًّا مِنْ فُنُونِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ يَتَعَلَّمُونَهُ فِي مَدَارِسِهِمُ الْعَالِيَةِ مَعَ سَائِرِ عُلُومِ الْكَوْنِ، وَكَانَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَقْرَانِهِمْ مِنَ الْبَابِلِيِّينَ وَكَذَا الْهُنُودُ وَغَيْرُهُمْ، وَلَا يَزَالُ يُؤْثَرُ عَنِ الْوَثَنِيِّينَ مِنْهُمْ أَعْمَالٌ سِحْرِيَّةٌ غَرِيبَةٌ اهْتَدَى عُلَمَاءُ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى تَعْلِيلِ بَعْضِهَا أَوْ كَشْفِ حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَزَالُونَ يَجْهَلُونَ تَعْلِيلَ بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلسِّحْرِ أَنَّهُ أَعْمَالٌ غَرِيبَةٌ مِنَ التَّلْبِيسِ وَالْحِيَلِ تَخْفَى حَقِيقَتُهَا عَلَى جَمَاهِيرِ النَّاسِ؛ لِجَهْلِهِمْ بِأَسْبَابِهَا، فَمَتَى عُرِفَ سَبَبُ شَيْءٍ مِنْهَا بَطَلَ إِطْلَاقُ اسْمِ السِّحْرِ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَقْوَامُ الْجَاهِلُونَ يَعُدُّونَ آيَاتِ الرُّسُلِ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي يُؤَيِّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ، يَجْعَلُونَ هَذَا مَانِعًا مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ وَتَأْيِيدِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ؛ لِأَنَّ السِّحْرَ صَنْعَةٌ تَتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّمْرِينِ، فَيُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا إِذَا أُتِيحَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَرُوجُ إِلَّا بَيْنَ الْجَاهِلِينَ، وَلَهُ الْمَكَانَةُ الْمَهِيبَةُ الْمُخِيفَةُ بَيْنَ أَعْرَاقِ الْقَبَائِلِ فِي الْهَمَجِيَّةِ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْعِرْفَانُ، بَلْ يُسَمَّى أَهْلُهُ بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى كَالْمُشَعْوِذِينَ وَالْمُحْتَالِينَ وَالدَّجَّالِينَ.
وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ حَقِيقَةِ السِّحْرِ فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَفِي بَعْضِ مُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ): مَا يَعْمَلُ بِالْأَسْبَابِ الطَّبِيعَةِ مِنْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْعَامِلِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَ مَنْ يَسْحَرُهُمْ بِهَا، وَمِنْهَا الزِّئْبَقُ الَّذِي قِيلَ: إِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ وَضَعُوهُ فِي حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَوْ شَاءَ عُلَمَاءُ الطَّبِيعَةِ وَالْكِيمْيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يُجْلُوا أَنْفُسَهُمْ سَحَرَةً فِي بِلَادِ أَوَاسِطِ إِفْرِيقِيَّةَ الْهَمَجِيَّةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْجَاهِلَةِ الَّتِي يَرُوجُ فِيهَا السِّحْرُ الْعَتِيقُ لَأَرَوْهُمْ مِنْ عَجَائِبِ الْكَهْرَبَاءِ، وَغَيْرِهَا مَا يُخْضِعُونَهُمْ بِهِ لِعِبَادَتِهِمْ لَوِ ادَّعَوُا الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِمْ، دَعْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ أَوِ الْوِلَايَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ السَّحَرَةُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْبِلَادِ عَلَى بَعْضِ السُّيَّاحِ الْغَرْبِيِّينَ لِيُرْهِبُوهُمْ بِسِحْرِهِمْ، وَكَانُوا فِي مَكَانٍ بَارِدٍ، وَالْفَصْلُ شِتَاءٌ فَأَخَذَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ السُّيَّاحِ قِطْعَةً مِنَ الْجَلِيدِ وَجَعْلِهَا بِشَكْلٍ عَدَسِيٍّ بِقَدْرِ مَا يُرَى مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّنِي أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِالسِّحْرِ، وَإِنَّنِي أَقْدِرُ بِهِ أَنْ أَجْعَلَ فِي يَدِي شَمْسًا كَشَمْسِ السَّمَاءِ ثُمَّ وَجَّهَ عَدَسَتَيْهِ إِلَى الشَّمْسِ عِنْدَ بُزُوغِهَا، وَاكْتِمَالِ ضَوْئِهَا فَصَارَتْ بِانْعِكَاسِ النُّورِ بِهَا كَالشَّمْسِ لَمْ يَسْتَطِعِ السَّحَرَةُ أَنْ يُثَبِّتُوا نَظَرَهُمْ إِلَيْهَا فَخَضَعُوا لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، وَكَفُّوا شَرَّهُمْ عَنْهُمْ خَوْفًا مِنْهُمْ.