فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

سؤال: ما الخطف؟
الجواب: أنه الأخذ بسرعة، وقرأ مجاهد {يخطِف} بكسر الطاء، والفتح أفصح، وعن ابن مسعود {يختطف} وعن الحسن {يَخَطف} بفتح الياء والخاء وأصله يختطف، وعنه يخطف بكسرهما على اتباع الياء الخاء، وعن زيد بن علي: يخطف من خطف وعن أبي يتخطف من قوله: {وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِم} [العنكبوت: 67] أما قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} [البقرة: 20] فهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه، والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي ضوء البرد فأعماهم.
وأضاء إما متعدٍ بمعنى كلما نور لهم مسلكًا أخذوه، فالمفعول محذوف، وإما غير متعدٍ بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة {كلما ضاء} فإن قيل كيف قال مع الإضاءة كلما، ومع الإظلام إذا: قلنا لأنهم حراص على إمكان المشيء، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف، والأقرب في أظلم أن يكون غير متعدٍ وهو الظاهر، ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا في مكانهم، ومنه قامت السوق، وقام الماء جمد، ومفعول شاء محذوف لأن الجواب يدل عليه والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما وههنا مسألة، وهي أن المشهور أن {لو} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك وزعم أنها لا تفيد إلا الربط واحتج عليه بالآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] فلو أفادت كلمة لو انتفاء الشيء لا انتفاء غيره للزم التناقض لأن قوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ} يقتضي أنه ما علم فيهم خيرًا وما أسمعهم وقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} يفيد أنه تعالى ما أسمعهم وأنهم ما تولوا ولكن عدم التولي خير فلزم أن يكون قد علم فيهم خيرًا، وما علم فيهم خيرًا وأما الخبر فقوله عليه السلام: «نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» فعلى مقتضى قولهم يلزم أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض، فقد علمنا أن كلمة {لو} لا تفيد إلا الربط والله أعلم. اهـ.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}:

.قال القرطبي:

{لو} حرف تَمَنٍّ وفيه معنى الجزاء؛ وجوابه اللام.
والمعنى: ولو شاء الله لأطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عِزّ الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم.
وخصّ السمع والبصر لتقدّم ذكرهما في الآية أوّلًا، أو لأنهما أشرف ما في الإنسان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} مفعول {شاء} محذوف لدلالة الجواب عليه وذلك شأن فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلًا بما يصلح لأن يدل على مفعوله مثل وقوعه صلة لموصول يحتاج إلى خبر نحو ما شاء الله كان أي ما شاء كونه كان ومثل وقوعه شرطًا للو لظهور أن الجواب هو دليل المفعول وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} [الأعلى: 6، 7] قال الشيخ في دلائل الإعجاز: إن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفًا وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول الشاعر هو إسحاق الخريمي مولى بني خريم من شعراء عصر الرشيد يرثي أبا الهيذام الخريمي حفيده ابن ابن عمارة.
ولو شئتُ أن أبكي دمًا لبَكيته ** عليه ولكن ساحةُ الصبر أوسع

وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دمًا فلما كان كذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع الخ كلامه وتبعه صاحب الكشاف وزاد عليه أنهم لا يحذفون في الشيء المستغرب إذ قال لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب الخ وهو مؤول بأن مراده أن عدم الحذف حينئذٍ يكون كثيرًا.
وعندي أن الحذف هو الأصل لأجل الإيجاز فالبليغ تارة يستغني بالجواب فيقصد البيان بعد الإبهام وهذا هو الغالب في كلام العرب، قال طرفة: وإن شئتَ لم ترقل وإن شئت أرقلت، وتارة يبيّن بذكر الشرط أساس الإضمار في الجواب نحو البيت وقوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه} [الأنبياء: 17] ويحسن ذلك إذا كان في المفعول غرابة فيكون ذكره لابتداء تقريره كما في بيت الخريمي والإيجاز حاصل على كل حال لأن فيه حذفًا إما من الأول أو من الثاني.
وقد يوهم كلام أئمة المعاني أن المفعول الغريب يجب ذكره وليس كذلك فقد قال الله تعالى: {قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة} [فصلت: 14] فإن إنزال الملائكة أمر غريب قال أبو العلاء المعري.
وإن شئتَ فازعُم أَنَّ مَن فوقَ ظهرها ** عبيدُكَ واستشهِد إلهك يَشْهَدِ

فإن زعم ذلك زعم غريب.
والضمير في قوله: {بسمعهم وأبصارهم} ظاهره أن يعودوا إلى أصحاب الصيب المشبه بحالهم حال المنافقين لأن الإخبار بإمكان إتلاف الأسماع والأبصار يناسب أهل الصيب المشبه بحالهم بمقتضى قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} وقوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} والمقصود أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك لحكمة وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعدامًا تامًا من كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجًا لهم وإملاء ليزدادوا إثمًا أو تلومًا لهم وإعذارًا لعل منهم من يثوب إلى الهدى وقد صيغ هذا المعنى في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من نفاقهم إن لم يبتدروا الإقلاع عن النفاق وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم {فقُل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13].
فليس المقصود من اجتلاب لو في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه {لو} من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن توفر أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارَهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالًا لهم وإقامة للحجة عليهم فكانت لو مستعملة مجازًا مرسلًا في مجرد التعليق إظهارًا لتوفر الأسباب لولا وجود المانع على حد قول أُبي بن سُلْمى بن ربيعة من شعراء الحماسة يصف فرسه:
ولو طَار ذو حافر قبلَها ** لطارتْ ولكنه لم يطِرْ

أي توفر فيها سبب الطيران، فالمعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة، ويكون لقوله: {إن الله على كل شيء قدير} موقع عجيب. اهـ.
قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ}.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عموم، ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه.
وأجمعت الأمة على تسمية الله تعالى بالقدير، فهو سبحانه قدير قادر مقتدر.
والقدير أبلغ في الوصف من القادر؛ قاله الزجاجيّ.
وقال الهرويّ: والقدير والقادر بمعنىً واحد؛ يقال: قَدَرت على الشيء أقدِرُ قَدْرًا وقَدَرًا ومَقدِرَة ومَقْدُرة وقُدْرَانًا؛ أي قُدْرة.
والاقتدار على الشيء: القدرة عليه.
فالله جل وعز قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم.
فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فَعَلَ ويَفْعَل ما يشاء على وَفْق علمه واختياره.
ويجب عليه أيضًا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبدّ بقدرته.
وإنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها؛ لأنه تقدّم ذِكرِ فعْلٍ مُضَمَّنهُ الوعيد والإخافة؛ فكان ذكر القدرة مناسبًا لذلك.
والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {إن الله على كل شيء قدير} تذييل، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم وإبلاغًا لهم وقطعًا لمعذرتهم في الدنيا والآخرة. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}.
التفسير:
لما جاء بحقيقة صفة المنافقين عقبها بضرب المثل تتميمًا للبيان. ولضرب الأمثال شأن ليس بالخفي في رفع الأستار عن الحقائق حتى يبرز المتخيل في معرض اليقين، والغائب كأنه شاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد. ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتبه أمثاله {وتلك الأمثال نضربها للناس} [الحشر: 21] وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الدنيا مثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع» «مثل الجليس الصالح كمثل الداري» وأمثال العرب أكثر من أن تحصى، حتى صنف فيها ككتب مشهورة. والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثيل وهو النظير، ثم قيل للقول السائر المشبه مضربه بمورده مثل. ولا يخلو من غرابة، ومن ثم حوفظ عليه من التغيير. وأما هاهنا فاستعير المثل للحال أو الصفة أو القصة التي فيها غرابة ولها شأن، شبهت حالهم العجيبة الشأن من حيث إنهم أوتوا ضربًا من الهدى بحسب الفطرة، ولما نطقت به ألسنتهم من كلمة الإسلام فحقنوا دماءهم وأموالهم عاجلًا، ثم لم يتوصلوا بذلك إلى نعيم الأبد باستبطانهم الكفر فيؤل حالهم إلى أنواع الحسرات وأصناف العقوبات بحال الذي استوقد نارًا في توجه الطمع إلى تسني المطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب. والمراد بالذي استوقد إما جمع كقوله: {وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69] وحذف النون لاستطالته بصلته، أو قصد جنس المستوقدين، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارًا، ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعًا في قوله: {بنورهم وتركهم} لم يحتج إلى التكلفات المذكورة، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو، {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار} [الجمعة: 5] ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها، وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضًا. والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق، والنور ضوءها وضوء كل نير واشتقاقها من نار ينور إذا نفر، لأن فيها حركة واضطرابًا والإضاءة فرط الإنارة {جعل الشمس ضياء والقمر نورًا} [يونس: 5] وهي في الآية متعدية، ويحتمل أن تكون غير متعدية، مسندة إلى ما حوله، والتأنيث للحمل على المعنى، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء، أو يستتر في الفعل اللازم ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن {ما} مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة، و{حوله} نصب على الظرف، وتأليفه للدوران والإطافة، والعام حول لأنه يدور. وجواب لما ذهب الله بنورهم فالضمير يعود إلى الذي استوقد نظرًا إلى المعنى، كما أن الضمير في {حوله} راجع إليه من حيث اللفظ. وقيل: الأولى أن يقال: جوابه محذوف مثل {فلما ذهبوا به} لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من الذكر في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله كان ما كان من حصولهم خابطين في ظلام متحيرين خائبين فيها بعد الكدح في إحياء النار. ثم إن سائلًا كأنه يسأل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: ذهب الله بنورهم أي بنور المنافقين، وعلى هذا يحتمل أن يكون الذي مفردًا، ويمكن أن يكون بدلًا من جملة التمثيل على سبيل البيان أي مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا، وكمثل الذي ذهب الله بنورهم. ومعنى إسناد الفعل إلى الله أنه إذا أطفئت النار بسبب سماوي كريح أو مطر فقد أطفأها الله وذهب بنور المستوقد، أو يكون المستوقد مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون نارًا مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام، وتلك النار، متقاصرة مدة اشتعالها وإضاءتها، فمنافعها الدنيوية قليلة البقاء، وللباطل صولة، ثم تضمحل، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت. ونار العرفج مثل لثروة كل طماح {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله} [المائدة: 64] وإما نارًا حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيش فأطفأها الله وخيب أمانيهم. وإنما لم يقل ذهب الله بضوئهم على سياق {فلما أضاءت} لأن ذكر النور أبلغ في الغرض وهو إزالة النور عنهم رأسًا وطمسه أصلًا، فإن الضوء شدة النور وزيادته، وذهاب الأصل يوجب زوال الزيادة عليه دون العكس.
والفرق بين أذهبه وذهب به أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبًا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله أخذه وأمسكه. وما يمسك الله فلا مرسل له، فهو أبلغ من الإذهاب، وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد، وإذا علق بشيئين كان مضمنًا معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة:
فتركته جزر السباع ينشنه

ومنه قوله تعالى: {وتركهم في ظلمات} والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير، وقيل: عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية. وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان، وفي قوله: {لا يبصرون} دلالة على أن الظلمة بلغت مبلغًا يبهت معها الواصفون. وكذا في إسقاط مفعول {لا يبصرون} وجعله من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلًا. ومحل {لا يبصرون} إما جر صفة لظلمات أي لا يبصرون فيها شيئًا، وإما نصب مفعولًا ثانيًا، أو حالًا من هم مثل {ويذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأعراف: 186] أي حال كونهم ليسوا من أهل الأبصار. عن سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به. وكان انتظارهم له كإيقاد النار، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور ثم إنه كان من المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون، لكنهم شبهوا بمن إيفت مشاعرهم فقيل لهم: صم بكم عمي، حيث سدوا عن الإصاغة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن تنطق به ألسنتهم، وأن ينظروا ويستبصروا بعيونهم. وإنما قلنا: إن ما في الآية تشبيه لا استعارة مع أن المشبه مطوي ذكره كما هو حق الاستعارة، لأن ذلك في حكم المنطوق به وإلا بقي الخبر بلا مبتدأ. ومعنى {لا يرجعون} لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها تسجيلًا عليهم بالطبع، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدؤا منه كيف يرجعون.
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدم

ومثله حال مريد طريقة الذي له بداية ولازم خلوته وصحبته حتى شرقت له من صفات القلب شوارق الشوق، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق، فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس فيرجع القهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة، فغابت شمسه وأظلمت نفسه وفضل عن يومه أمسه. ثم إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلًا آخر ليكون كشفًا لحالهم بعد كشف، وإيضاحًا غب إيضاح، لأن المقام مقام تفصيل وإشباع.
فيكون تقدير الكلام مثل المنافقين كمثل المستوقدين أو كمثل ذوي صيب على معنى أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين فإنهما سواء في صحة التشبيه بهما، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت أو بهما جميعًا نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين. والتمثيلان جميعًا من جملة التمثيلات المركبة دون المفردة، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به، بل تراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام وهي أنهم في مقام الطمع في حصول المطالب. ونجح المآرب لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال وشدائد الأحوال، ولا يخفى أن التمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخرج تدرجًا من الأهون إلى الأغلظ، وإنما قدرنا المضاف المحذوف حيث قلنا: أو كمثل ذوي صيب مع أنه لا يلزم في التشبيه المركب أن يلي حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به. ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء} [يونس: 24] كيف ولي الماء الكاف إذ التشبيه مركب، لأن الضمير في {يجعلون} لابد له من راجع هذا هو التحقيق. وقد يقال: شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يحوم حوله من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الإفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. وعلى هذا يكون تقدير المضاف ضروريًا ليصبح تشبيه المنافقين بهم، ويكون المعنى مثلهم كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة، فلقوا منها ما لقوا ويكون ذكر المشبهات مطويًا على سنن الاستعارة. والصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع. ويقال للسحاب: صيب أيضًا. وتنكير صيب للدلالة على أنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول. والسماء هذه المظلة، والفائدة في ذكره، والصيب لا يكون إلا من السماء، أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، ولكنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء. وكما جاء بصيب وفيه مبالغات من جهة التركيب من ص وب والبناء على فيعل والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقًا، واعلم أنه إذا وقعت القوى الفلكية على العناصر بإذن الله تعالى فحركتها وخالطتها، حصل من اختلاطها موجودات شتى. فإذا هيج الفلك بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية، أو دخن من الأجسام الأرضية وأثار شيئًا بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية. أما الدخان فإنه قد يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل، وربما سرى فيه الاشتعال فتراءى كأن كوكبًا يقذف به، وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرأيت العلامات الهائلة الحمرة والسواد.
وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جدًا فيتراكم وتكثر مدته في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع، فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحابًا والقاطر مطرًا. ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعًا، فينزل كما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم سحابًا وهذا هو الطل، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب، فنزل وكان ثلجًا، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل، فنزل وكان صقيعًا وهو ما يسقط بالليل من السماء شبيهًا بالثلج، وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان بردًا. وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب، وفي الربيع وهو داخل السحاب، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحابًا فاستحال مطرًا. وأما الجواهر البخارية والدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة، فمنها ما يتخلص من الأرض فتكون منها الرياح وإذا تصعدت فتميز البخار من الدخان انعقد البخار سحابًا فبرد فتغلغل فيه الدخان طلبًا للنفوذ إلى العلو فحصل من تغلغله فيه ضرب من الرعد وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف، وربما امتد ذلك التغلغل لكثرة وصول المواد، ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد، أو يكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فيندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة نارًا تبرق فتشق السحاب شعلة كجمر يطفأ فيسمع من ذلك ضرب من الرعد. وإن كان قويًا شديدًا غليظ المادة كان صاعقة، وربما وجد مندفعًا فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد واشتعال. فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه وتعالى. ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: ارتفع {ظلمات} بالظرف على الاتفاق من سيبويه والأخفش لاعتماده على موصوف. والصيب إن كان سحابًا فظلماته سمجته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل، وإن كان مطرًا فظلماته تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال الغمام مع ظلمة الليل. ثم إن كان الصيب سحابًا فكونه مكانًا للرعد والبرق ظاهر، وإن كان مطرًا فكونهما متلبسين به في الجملة سوغ ذلك، وإنما لم يجمع الرعد والبرق كما قال البحتري:
يا عارضًا متلفعًا ببروده ** يختال بين بروقه ورعوده

وكما قيل ظلمات لأنهما في الأصل مصدران فروعي حكم الأصل، ويمكن أن يراد بهما الحدث كأنه قيل: وإرعاد وإبراق. ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف. وجاز رجوع الضمير في {يجعلون} إلى أصحاب الصيب لأنه في حكم المذكور. قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردى وهي واد بدمشق. والبريص نهر من أنهارها. ويصفق أي يمزج والرحيق الخمر. ولا محل لقوله: {يجعلون} لكونه مستأنفًا كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم. ثم سئل: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فاجيب {يكاد البرق يخطف أبصارهم} وإنما لم يقل أناملهم مع أنها هي التي تجعل في الآذان لأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل، ولأن اسم الكل قد يطلق على البعض نحو {فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] والمراد إلى الرسغ. وليس بعض الأصابع- كالمسبحة مثلًا بجعلها في الأذن- أولى من بعض حتى يقال لم ذكر العام والمراد الخاص؟ وقوله: {من الصواعق} أي من أجل الصواعق نحو: سقاه من العيمة. وقد تحصل مما ذكرنا أن الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف، ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته. فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق، وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية، أو مصدرًا كالعافية والكاذبة.
{وحذر الموت} مفعول له كقوله:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ** وأعرض عن شتم اللئيم تكرمًا

والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض معاقب للحياة لا يصح معه إحساس. وإحاطة الله بالكافرين مجاز أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة، والجملة معترضة لا محل لها.
{يكاد} من أفعال المقاربة. كاد يفعل كذا يكاد كودًا ومكادًا ومكادة وضعت لمقاربة الشيء، فعل أو لم يفعل. فمجرده ينبئ عن نفي الفعل، ومقرونه بالجحد ينبئ عن وقوع الفعل. وخبر كاد فعل مضارع بغير أن وهو هاهنا {يخطف} والبرق اسمه والخطف الأخذ بسرعة، {كلما أضاء لهم} استئناف ثالث كأنه قيل: كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وفتوره؟ وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم ممشى ومسلكًا أخذوه والمفعول محذوف، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. والمشي جنس الحركة المخصوصة وفوقها السعي وفوقه العدو.
و{أظلم} إما لازم وهو الظاهر، وإما متعد منقول من ظلم الليل أي أظلم البرق الطريق عليهم بأن فتر عن لمعانه، ومعنى {قاموا} وقفوا وثبتوا في مكانهم من قام الماء جمد. وإنما قيل مع الإضاءة {كلما} ومع الإظلام {إذا} لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، وكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها فخطوا خطوات يسيرة، وليس كذلك التوقف والتحبس، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي الضوء البرق فأعماهم.
ومفعول {شاء} محذوف، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، وهذا الحذف في {شاء} وأراد كثير لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله:
فلو شئت أن أبكي دمًا لبكيته ** عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

وقال عز من قائل: {لو أرذنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه} [الأنبياء: 17] وكلمة {لو} تفيد انتفاء الثاني لانتفاء الأول. وقد تجيء للمبالغة كقوله: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» والمراد أن عدم العصيان ثابت على كل حال لأنه على تقدير عدم الخوف ثابت، فعلى تقدير الخوف أولى. والشيء أعم العام كما أن الله أخص الخاص، يجري على الجوهر والعرض والقديم والحادث بل على المعدوم والمحال. وهذا العام مخصوص بدليل العقل، فمن الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل والواجب وجوده لذاته، وأما الممكن فإبقاؤه على العدم وكذا إيجاده وإبقاؤه على وجوده، لأن جميع ذلك بقدرة القادر فلا يستغنى آنًا من الآنات ولحظة من اللحظات عن تأثير القادر فيه. وقدرة كل قادر على مقدار قوته واستطاعته، ونقضيها العجز. فلا قادر بالحق إلا هو سبحانه وتعالى. اهـ.