فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قَالُواْ} استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنه قيل: فماذا قال السحرةُ عندما سمِعوا وعيدَ فرعونَ؟ هل تأثروا به أو تصلبوا فيما هم فيه من الدين؟ فقيل: قالوا ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان: {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} أي بالموت لا محالة فسواءٌ كان ذلك من قِبَلك أو لا فلا نبالي بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا وثوابِه منقلبون إن فعلتَ بنا ذلك كأنهم استطابوه شَغَفًا على لقاء الله تعالى أو إنا جميعًا إلى ربنا منقلبون فيحكم بيننا وبينك.
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} أي وما تُنكر وتَعيب منا {إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} وهو خيرُ الأعمال وأصلُ المفاخر ليس مما يتأتى لنا العدولُ عنه طلبًا لمرضاتك ثم أعرضوا عن مخاطبته إظهارًا لما في قلوبهم من العزيمة على ما قالوا وتقريرًا له ففزِعوا إلى الله عز وجل وقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي أفِضْ علينا من الصبر ما يغمُرنا كما يغمرُ الماءُ أو صُبّ علينا ما يُطَهّرنا من أوضار الأوزار وأدناسِ الآثام وهو الصبرُ على وعيد فرعون {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ثابتين على ما رزقنا من الإسلام غيرَ مفتونين من الوعيد. قيل: فَعل بهم ما أوعدهم به وقيل: لم يقدر عليه لقوله تعالى: {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون}. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)}.
{قَالُواْ} استئناف بياني {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فيا حبذاه.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجدًا رأوا منازلهم تبنى لهم، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، ويحتمل أنهم أرادوا إنا ولابد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ** تعددت الأسباب والموت واحد

ويحتمل أيضًا أن المعنى إنا جميعًا ننقلب إلى الله تعالى فيحكم بيننا:
إلى ديان يوم الدين نمضي ** وعند الله تجتمع الخصوم

وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط، وعلى الثالث لهم ولفرعون، وعلى الثاني يحتمل الأمرين.
{وَمَا تَنقِمُ} أي ما تكره، وجاء في الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم {مِنَّا} معشر من آمن:
{إلاَّ أنْ آمَنَّا بآيات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا} وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن، والاستثناء مفرغ، والمصدر في موضع المفعول به، والكلام على حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم ** تعاب بنسيان الأحبة والوطن

وقيل: إن {تَنقِمُ} مضارب نقم بمعنى عاقب، يقال: نقم نقمًا وتنقاما وانتقم إذا عاقبه، وإلى هذا يشير ما روى عن عطاء، وعليه فيكون {مِنَّا إِلاَّ} في موضع المفعول له، والمراد على التقديرين حسن طمع فرعون في نجع تهديده إياهم، ويحتمل أن يكون على الثاني تحقيقًا لما أشاروا إليه أولًا من الرحمة والثواب.
ثم أعرضوا عن خاطبته وفزعوا والتجأوا إليه سبحانه وقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي أفض علينا صبرًا يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون، {فأفرغ} على الأول استعارة تبعية تصريحية و{مَعِىَ صَبْرًا} قرينتها، والمراد هب لنا صبرًا تامًا كثيرًا، وعلى الثاني كيون {صَبْرًا} استعارة أصلية مكنية و{أَفْرِغْ} تخييلية، وقيل: الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وهاهنا التطهير، وليس بذاك وأن جل قائله {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد.
عن ابن عباس والكلبي والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به، وقيل: لم يقدر عليه لقوله تعالى: {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا باياتنا أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} [القصص: 35].
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وفصلت جملة {قالوا إنا إلى ربنا منقلبون} لوقوعها في سياق المحاورة.
والانقلابُ: الرجوع وقد تقدم قريبًا.
وهذا جواب عن وعيد فرعون بأنه وعيد لا يضيرهم، لأنهم يعلمون أنهم صائرون إلى الله رب الجميع، وقد جاء هذا الجواب موجزًا إيجازًا بديعًا لأنه يتضمن أنهم يرجون ثواب الله على ما ينالهم من عذاب فرعون، ويرجون منه مغفرة ذنوبهم، ويرجون العقابَ لفرعون على ذلك، وإذا كان المراد بالصلب القتل وكان المراد تهديد جميع المؤمنين، كان قولهم: {إنا إلى ربنا منقلبون} تشوقًا إلى حلول ذلك بهم محبة للقاء الله تعالى، فإن الله تعالى لما هداهم إلى الإيمان أكسبهم محبة لقائه، ثم بينوا أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه، لأنه لم يكن عن جناية تَصمهم بل كان على الإيمان بآيات لما ظهرت لهم.
أي: فإنك لا تعرف لنا سببًا يوجب العقوبة غير ذلك.
والنّقْم: بسكون القاف وبفتحها، الإنكار على الفعل، وكراهة صدوره وحقد على فاعله، ويكون باللسان وبالعمل، وفعله من باب ضرب وتعب، والأول أفصح ولذلك قرأه الجميع {ومَا تنقمُ} بكسر القاف.
والاستثناء في قولهم: {إلاّ أن آمنا بآيات ربنا} متصل، لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
وجملة {ربنا أفرغ علينا صبرًا} من تمام كلامهم، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها.
ومعنى قوله: {ربنا أفرغ علينا صبرًا} اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون.
ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبرًا قويًا، يفوق المتعارف، فشه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس، على طريقة الاستعارة المكنية، وشبه خلقُه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية، فإن الإفراغ صّب جميع ما في الإناء، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية.
وتقدم نظيره في قوله تعالى: {قالوا ربنا أفرغ علينا صبرًا} في سورة البقرة (250).
ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذانًا بأنهم غير راغبين في الحياة، ولا مبالين بوعيد فرعون، وأن همتهم لا ترجو إلاّ النجاة في الآخرة، والفوزَ بما عند الله، وقد انخذل بذلك فرعون، وذهب وعيده باطلًا، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة.
والقرآن لم يتعرض هنا، ولا في سورة الشعراء، ولا في سورة طه، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنّة.
وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات (26): {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية.
والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يُرد جوابًا.
وذكرُهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيّون والصديقون من عهد إبراهيم عليه السلام.
والظاهر أن كلمة {مسلمين} تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين، وهي التي يجمعُ لفظُ الإسلام تفصيلها، وقد تقدم شرح معنى كون الإسلام وهو دين الأنبياء عند قوله: {فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون} في سورة البقرة (132). اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)}.
إنك قد عجلت لنا الخير لأننا سنكون في جوار ربنا، فأنت بطيشك وحماقتك قد أسديت لنا معروفًا وخيرًا من حيث لا تدري. ويزيدون في تقريع فرعون بما يجيء في القرآن على ألسنتهم: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا...}.
ما الذي تكرهه منا لأن {تنقم} تعني تكره، وقولهم لفرعون: أليس الذي تكرهه منا أنَّا آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا؟ وهل الإِيمان بآيات الإِله حين تجيء مما يُكره؟!! ويسمون ذلك في اللغة تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ كأن يقول إنسان: ماذا تكره فيّ؟ أصدقي؟ أمانتي؟ أجودي؟ أعلمي؟
كأنه يعدد أشياء يعرف كل الناس واقعًا أنها لا تُكره، لكن الخطأ في مقاييس من يكره الصواب، فهي أمور لا تستحق أن تُكره أو تعاب أو تُذَم. لقد تيقنوا أن لقاء الله على الإِيمان هو الخير وكلهم يفضل جوار الله على جوار فرعون. وهذا الذي يعتبره فرعون عقابًا إنما يثبت خيبته حتى في توقع العقوبة؛ لأنه لو لم يهددهم بهذه الميتة فهم سيموتون ليرجعوا إلى الله، وهذا أمر مقطوع به، وكل مخلوق مصيره أن ينقلب إلى الله، وكأنهم أبطلوا وعيد فرعون حين قال لهم: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124].
ثم يتجهون إلى ربهم وخالقهم فيقولون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}.
والإفراغ أن ينصب شيء على شيء ليغمره، وكانهم يقولون: أعطنا يا رب كل الصبر، وهم يحتاجون إلى الصبر لأن فرعون قد توعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم. ولذلك قال بعض العارفين بالله: عجبي لسحرة فرعون كانوا أول النهار كفرة سحرة وكانوا آخر النهار شهداء بررة. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأعراف: الآيات 103- 105]

{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)}.
{مِنْ بَعْدِهِمْ} الضمير للرسل في قوله: {وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} أو للأمم {فَظَلَمُوا} فكفروا بآياتنا. أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أو فظلموا الناس بسببها حين او عدوهم وصدّوهم عنها، وآذوا من آمن بها، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلمًا، فلذلك قيل: فظلموا بها، أي كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان. يقال لملوك مصر: الفراعنة، كما يقال لملوك فارس الأكاسرة، فكأنه قال: يا ملك مصر وكان اسمه قابوس. وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان {حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} فيه أربع قراآت، المشهورة: و{حقيق علىّ أن لا أقول}، وهي قراءة نافع و{حقيق أن لا أقول} وهي قراءة عبد اللّه و{حقيق بأن لا أقول} وهي قراءة أبىّ وفي المشهورة إشكال، ولا تخلو من وجوه، أحدها: أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس، كقوله:
وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ

ومعناه: وتشقى الضياطرة بالرماح، و{حقيق علىّ أن لا أقول}، وهي قراءة نافع. والثاني: أنّ ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقًا عليه كان هو حقيقًا على قول الحق، أي لازمًا له.
والثالث: أن يضمن حَقِيقٌ معنى حريص، كما ضمن هيجنى معنى ذكرني في بيت الكتاب.
والرابع- وهو الأوجه- الأدخل في نكت القرآن: أن يعرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لاسيما وقد روى أنّ عدو اللّه فرعون قال له- لما قال: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} كذبت، فيقول: أنا حقيق على قول الحق أي واجب علىّ قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقًا به {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ} فخلهم حتى يذهبوا معى راجعين إلى الأرض المقدّسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفى وانقرضت الأسباط، غلب فرعون نسلهم واستعبدهم، فأنقذهم اللّه بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.