فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمَا بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله عليهم بالنعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى منهم، وإيقاظًا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم. روي: أن موسى عليه الصلاة والسلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرًا. {فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ} فمروا عليهم. {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} يقيمون على عبادتها، قيل كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل، والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم. وقيل من لخم، وقرأ حمزة والكسائي {يعكفون} بالكسر. {قَالُواْ يَا موسى اجعل لَّنَا إلها} مثالًا نعبده. {كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} يعبدونها، وما كافة للكاف. {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى عن العقل.
{إِنَّ هَؤُلاء} إشارة إلى القوم. {مُتَبَّرٌ} مكسر مدمر. {مَّا هُمْ فِيهِ} يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضًا {وباطل} مضمحل. {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى، وإنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع {هَؤُلاء} اسم {إن} والإِخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان، وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرًا لأن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة، وأن الإِحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيرًا وتحذيرًا عما طلبوا.
{قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها} أطلب لكم معبودًا. {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلًا بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته.
{وَإِذْ أنجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَونَ} واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت. وقرأ ابن عامر {أنجاكم}. {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} استئناف لبيان ما أنجاهم منه، أو حال من المخاطبين، أو من آل فرعون أو منهما. {يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} بدل منه مبين. {وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} وفي الإِنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم} يعني: بني إسرائيل {الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} أي يذلون ويمتهون بالخدمة لفرعون وقومه {مشارق الأرض ومغاربها} منصوبان بأورثنا.
وقال الكسائي والفراء: إن الأصل في مشارق الأرض ومغاربها، جهات مغربها، ثم حذفت في فنصبا.
والأوّل أظهر، لأنه يقال أورثته المال.
والأرض هي مصر والشام، ومشارقها جهات مشرقها.
ومغاربها، وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط.
وقيل: المراد جميع الأرض؛ لأن داود وسليمان من بني إسرائيل، وقد ملكا الأرض.
قوله: {التى بَارَكْنَا فِيهَا} صفة للمشارق والمغارب.
وقيل: صفة الأرض.
والمباركة فيها إخراج الزرع والثمار منها على أتمّ ما يكون، وأنفع ما يتفق.
قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى} أي مضت واستمرت على التمام، والكلمة هي: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا في الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} [القصص: 5]، وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على أملاكهم.
و{الحسنى} صفة للكلمة.
وهي تأنيث الأحسن.
وتمام هذه الكلمة {على بَنِى إسراءيل} بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه.
قوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} التدمير الإهلاك، أي أهلكنا بالخراب ما كانوا يصنعونه من العمارات {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} قرأ ابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم {يعرشُون} بضم الراء.
قال الكسائي: هي لغة تميم.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة {يُعَرّشون} بتشديد الراء وضم حرف المضارعة.
وقرأ الباقون بكسر الراء مخففة، أي ما كانوا يعرشونه من الجنات، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات} [الأنعام: 141] وقيل: معنى يعرشون يبنون، يقال عرش يعرش أي بنى يبني.
قوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر} هذا شروع في بيان ما فعله بنو إسرائيل بعد الفراغ مما فعله فرعون وقومه.
ومعنى جاوزنا ببني إسرائيل البحر: جزناه بهم وقطعناه.
وقرئ {جوزنا} بالتشديد، وهو بمعنى قراءة الجمهور {فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} قرأ حمزة والكسائي {يعكفون} بكسر الكاف، وقرأ الباقون بضمها.
يقال عكف يعكف، ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه، والمصدر منها عكوف.
قيل: هؤلاء القوم الذين آتاهم بنو إسرائيل هم من لخم كانوا نازلين بالرقة، كانت أصنامهم تماثيل بقر.
وقيل: كانوا من الكنعانيين {قَالُواْ} أي بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل {ياموسى اجعل لَّنَا إلها} أي صنمًا نعبده كائنًا كالذي لهؤلاء القوم، فالكاف متعلق بمحذوف وقع صفة ل {إلهًا}، فأجاب عليهم موسى، و{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وصفهم بالجهل، لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله.
ولكن هؤلاء القوم، أعني بني إسرائيل، أشد خلق الله عنادًا وجهلًا وتلوّنًا.
وقد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك.
ثم قال لهم موسى {إِنَّ هَؤُلاء} يعني القوم العاكفين على الأصنام {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} التبار: الهلاك.
وكل إناء منكسر فهو متبر، أي أن هؤلاء هالك ما هم فيه مدمّر مكسر.
والذي هم فيه هو: عبادة الأصنام.
أخبرهم بأن هذا الدين الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمّر لا يتمّ منه شيء.
قوله: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام.
قال في الكشاف: وفي إيقاع {هؤلاء} اسمًا لإن، وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرًا لها، وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرّضون للتبار، وأنه لا يعدوهم ألبتة، وأنه لهم ضربة لازب، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا، ويبغض إليهم ما أحبوا.
قوله: {أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها} الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي كيف أطلب لكم غير الله إلها تعبدونه، وقد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي البعض منه؟ والمعنى: أن هذا الذي طلبتم لا يكون أبدًا.
وإدخال الهمزة على {غير} للإشعار بأن المنكر هو كون المبتغى غيره سبحانه إلها، و{غير} مفعول للفعل الذي بعده.
و{إلها} تمييز أو حال.
وجملة: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنه فضلكم على العالمين من أهل عصركم بما أنعم به عليكم من إهلاك عدوكم، واستخلافكم في الأرض، وإخراجكم من الذلّ والهوان إلى العزّ والرفعة، فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره؟
قوله: {وَإِذْ أنجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَونَ} أي: واذكروا وقت إنجائنا لكم من آل فرعون، بعد أن كانوا مالكين لكم، يستعبدونكم فيما يريدونه منكم، ويمتهنونكم بأنواع الامتهانات.
هذا على أن هذا الكلام محكيّ عن موسى.
وأما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد، فهو بمعنى: اذكروا إذ أنجينا أسلافكم من آل فرعون.
وجملة: {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} في محل نصب على الحال، أي أنجيناكم من آل فرعون حال كونهم {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب}.
ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه.
وجملة: {يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} مفسرة للجملة التي قبلها، أو بدل منها، وقد سبق بيان ذلك.
والإشارة بقوله: {وَفِى ذلكم} إلى العذاب: أي في هذا العذاب، الذي كنتم فيه {بَلاء} عليكم {مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} وقيل: الإشارة إلى الإنجاء، والبلاء النعمة، والأوّل أولى.
وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن في قوله: {مشارق الأرض ومغاربها التي بَارَكْنَا فِيهَا} قال: الشام.
وأخرج هؤلاء عن قتادة مثله.
وأخرج ابن عساكر عن زيد بن أسلم نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن عبد الله بن شوذب، قال: هي فلسطين.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى} قال: ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وما ورثهم منها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} قال: يبنون.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} قال: لخم وجذام.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي عمران الجوني مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج، في الآية قال: تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر.
فذلك كان أوّل شأن العجل ليكون لله عليهم الحجة، فينتقم منهم بعد ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وصححه، والنسائي وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم» وأخرج نحوه ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جدّه مرفوعًا، وكثير ضعيف جدًّا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {مُتَبَّرٌ} قال: خسران.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال: هلاك. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}.

.قِصَّةُ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ:

هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا شُرُوعٌ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قِصَّتِهِ مَعَ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِ الْعِبْرَةِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ لَغْوِ الْقَصَصِ وَالتَّارِيخِ. قَالَ عَزّ وَجَلَّ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} جَازَ الشَّيْءَ، وَجَاوَزَهُ وَتَجَاوَزَهُ: عَدَّاهُ وَانْتَقَلَ عَنْهُ، وَالْعُكُوفُ عَلَى الشَّيْءِ: الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَمُلَازَمَتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَمِنْهُ الْعُكُوفُ وَالِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُلَازَمَتُهُ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {يَعْكِفُونَ} بِكَسْرِ الْكَافِ مِنْ بَابِ جَلَسَ يَجْلِسُ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا مِنْ بَابِ قَعَدَ يَقْعُدُ، وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ أَوِ الْمَعْدِنِ مِثَالًا لِشَيْءٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ خَيَالِيٍّ أَوْ مُذَكِّرًا بِهِ لِيُعَظَّمَ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ، وَاتَّخَذَ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَنَمًا مِنْ عَجْوَةِ التَّمْرِ فَعَبَدُوهُ ثُمَّ جَاعُوا فَأَكَلُوهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّمْثَالِ: أَنَّ هَذَا لابد أَنْ يَكُونَ مِثَالًا لِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْعِبَادَةِ، وَحِينَئِذٍ يُسَمَّى صَنَمًا، وَقَدْ يَكُونُ لِلزِّينَةِ كَالَّذِي نَرَاهُ عَلَى جُدْرَانِ بَعْضِ الْقُصُورِ الْمُشَيَّدَةِ أَوْ أَبْوَابِهَا أَوْ فِي حَدَائِقِهَا، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ غَيْرِ الدِّينِيِّ كَالتَّمَاثِيلِ الَّتِي تُنْصَبُ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ، وَكِبَارِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا أَوِ الْقُوَّادِ وَالزُّعَمَاءِ؛ لِلتَّذْكِيرِ بِتَارِيخِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَيَكْثُرُ هَذَا فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ، وَقَلَّدَهُمْ بَعْضُ بِلَادِ الشَّرْقِ كَمِصْرَ، فَنَصَبَتْ حُكُومَتُهَا تَمَاثِيلَ لِبَعْضِ أُمَرَاءِ بَيْتِ الْمَلِكِ الْحَاضِرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا التَّعْظِيمِ السِّيَاسِيِّ أَوِ الْعِلْمِيِّ، وَبَيْنَ تَعْظِيمِ الْعِبَادَةِ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْأَوَّلِ إِمَّا رِفْعَةُ شَأْنِ الدَّوْلَةِ، وَتَمْكِينُ سُلْطَانِهَا عَلَى أَنْفُسِ الْأُمَّةِ بِمُشَاهِدَةِ صُوَرِ مُلُوكِهَا، وَكُبَرَاءِ رِجَالِهَا وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَهُوَ قَصْدٌ سِيَاسِيٌّ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِهِ- وَإِمَّا بَعْثُ شُعُورِ حُبِّ الْعِلْمِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الَّذِينَ نَفَعُوا أُمَّتَهُمْ، عَسَى أَنْ يُوجَدَ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ مَنْ يَكُونُ مِثْلَهُمْ أَوْ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَهُوَ قَصْدٌ اجْتِمَاعِيٌّ صَحِيحٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّرْبِيَةِ، وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْعِبَادَةِ فَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّقَرُّبُ مِنَ الْمَعْبُودِ، وَطَلَبُ ثَوَابِهِ بِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبِ لَا الْكَسْبِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ، فَتَعْظِيمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُعْتَقَدُ أَنَّ لَهُ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً أَوْ تَعْظِيمُ مَا يُذَكَرُ بِهِ مِنْ صُورَةٍ أَوْ تِمْثَالٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِهِ؛ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَقَصْدِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُنَالُ بِالْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ-، وَهِيَ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِجَاهِهِ- كُلُّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنْ قَصَدَ الْمُعَظِّمُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ، أَوْ لِمَا يَذْكَرُ بِهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ نَفْسِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ التَّعْظِيمِ بِالْقَوْلِ كَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَالطَّوَافِ بِتِمْثَالِهِ أَوْ قَبْرِهِ، وَتَقْبِيلِهِ وَالتَّمَرُّغِ بِأَرْضِهِ- كَانَتِ الْعِبَادَةُ خَالِصَةً لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِنْ قَصَدَ التَّقَرُّبَ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِيَحْمِلَهُ بِجَاهِهِ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا يُرِيدُ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَهُ، وَلِلَّهِ تَعَالَى بِالِاشْتِرَاكِ، وَهَذَا مِنْ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ الَّتِي لَا يُخْرِجُهَا تَغْيِيرُ التَّسْمِيَةِ عَنْ كَوْنِهَا كُفْرًا أَوْ شِرْكًا.