فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
قرأ أبو عمرو وأبيّ بن كعب وأبو رجاء وأبو جعفر وشيبة {ووعدنا} وقد تقدم في البقرة، وأخبر الله تعالى موسى عليه السلام أن يتهيأ لمناجاته {ثلاثين ليلة} ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال، فذكر أن {موسى} عليه السلام أعلم بني إسرائيل بمغيبه {ثلاثين ليلة} فلما زاده العشر في حال مغيبه دون أن تعلم بنو إسرائيل ذلك وجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم به، فقال لهم السامري: إن موسى قد هلك وليس براجع وأضلهم بالعجل فاتبعوه، قاله كله ابن جريج، وقيل: بل أخبرهم بمغيبه {أربعين} وكذلك أعلمه الله تعالى وهو المراد بهذه الآية، قاله الحسن، وهو مثل قوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] وأنهم عدوا الأيام والليالي فلما تم أربعون من الدهر قالوا قد أخلف موسى فضلوا، قال مجاهد إن الثلاثين هي شهر ذي القعدة وإن العشر هي عشر ذي الحجة، وقاله ابن عباس ومسروق.
وروي أن الثلاثين إنما وعد بأن يصومها ويتهيأ فيها للمناجاة ويستعد وأن مدة المناجاة هي العشر، وقيل بل مدة المناجاة الأربعون، وإقبال موسى على الأمر والتزامه يحسن لفظ المواعدة، وحيث ورد أن المواعدة أربعون ليلة فذلك إخبار بجملة الأمر هو في هذه الآية إخبار بتفصيله كيف وقع، و{أربعين} في هذه الآية وما بعدها في موضع الحال، ويصح أن تكون {أربعين} ظرفًا من حيث هي عدد أزمنة، وفي مصحف أبي بن كعب {وتممناها} بغير ألف وتشديد الميم، وذكر الزجاج عن بعضه قال: لما صام ثلاثين يومًا أنكر خلوف فماه فاستاك بعود خروب فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فزيدت عليه عشر ليال، و{ثلاثين} نصب على تقدير أجلناه {ثلاثين} وليست منتصبه على الظرف لأن المواعدة لم تقع في الثلاثين، ثم ردد الأمر بقوله: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} قيل ليبين أن العشر لم تكن ساعات وبالجملة فتأكيد وإيضاح.
وقوله تعالى: {وقال موسى لأخيه}.... الآية، المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها، و{اخلفني} معناه كن خليفتي وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته لا يقتضي أنه متمادٍ بعد وفاة فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية في قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليًا بقوله: «أنت مني كهارون من موسى» وقال موسى {اخلفني} فيترتب على هذا أن عليا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه يحل هذا القياس، وأمره في هذه الآية بالإصلاح ثم من الطرق الأخر في أن لا يتبع سبيل مفسد، قال ابن جريج: كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ضَرْبُ الْأَجَلِ لِلْمَوَاعِيدِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ وَمَعْنًى قَدِيمٌ أَسَّسَهُ اللَّهُ فِي الْقَضَايَا وَحَكَمَ بِهِ لِلْأُمَمِ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ مَقَادِيرَ التَّأَنِّي فِي الْأَعْمَالِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَجَلٍ ضَرَبَهُ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ الَّتِي مَدَّهَا لِجَمِيعِ الْخَلِيقَةِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ إذَا أَرَادَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونَ؛ بَيْدَ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ الْخَلْقِ التَّأَنِّي وَتَقْسِيمَ الْأَوْقَاتِ عَلَى أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِيَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ وَقْتٌ.
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِمَعْنًى يُحَاوِلُ فِيهِ تَحْصِيلَ الْمُؤَجَّلِ لِأَجَلِهِ، فَجَاءَ الْأَجَلُ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ زِيدَ فِيهِ تَبْصِرَةً وَمَعْذِرَةً؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ لَهُ أَجَلًا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، فَخَرَجَ لِوَعْدِ رَبِّهِ، فَزَادَ اللَّهُ عَشْرًا تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَبْطَأَ مُوسَى فِي هَذِهِ الْعَشْرِ عَلَى قَوْمِهِ، فَمَا عَقَلُوا جَوَازَ التَّأَخُّرِ لِعُذْرٍ حَتَّى قَالُوا: إنَّ مُوسَى ضَلَّ أَوْ نَسِيَ، وَنَكَثُوا عَهْدَهُ، وَبَدَّلُوا بَعْدَهُ، وَعَبَدُوا إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الزِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ عَلَى الْأَجَلِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ؟ مِنْ وَقْتٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَيَكُونُ الْأَجَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ فَإِذَا قَدَّرَ الزِّيَادَةَ بِاجْتِهَادِهِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِثْلَ ثُلُثِ الْمُدَّةِ السَّالِفَةِ، كَمَا أَجَّلَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي الزِّيَادَةِ ثُلُثَ مَا ضَرَبَهُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ الْأَصْلَ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ، وَلَكِنْ لابد مِنْ التَّرَبُّصِ بَعْدَهَا لِمَا يَطْرَأُ مِنْ الْعُذْرِ عَلَى الْبَشَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التَّارِيخُ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيَالِيِ دُونَ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ أَوَائِلُ الشُّهُورِ، وَبِهَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تُخْبِرُ عَنْ الْأَيَّامِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: «صُمْنَا خَمْسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وَالْعَجَمُ تُخَالِفُنَا ذَلِكَ فَتَحْسِبُ بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ مُعَوَّلَهَا عَلَى الشَّمْسِ، وَحِسَابُ الشَّمْسِ لِلْمَنَافِعِ، وَحِسَابُ الْقَمَرِ لِلْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً هِيَ ذُو الْقَعْدَة وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ كَلَامُ اللَّهِ لِمُوسَى غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ حِينَ فَدَى إسْمَاعِيلَ مِنْ الذَّبْحِ، وَأَكْمَلَ لِمُحَمَّدٍ الْحَجَّ، وَجَعَلَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
وَهَذَا إنْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فَالْأَيَّامُ الْعَشْرُ ذَاتُ فَضْلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْوَقْتُ مَعْنًى غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَالْمِيقَاتُ: هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِعَمَلٍ. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة}.
المعنى: وعدناه انقضاء الثلاثين ليلة.
قال ابن عباس: قال موسى لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة، فلما فصل إلى ربه زاده عشرًا، فكانت فتنتهم في ذلك العشر.
فإن قيل: لم زيد هذا العشر؟ فالجواب: أن ابن عباس قال: صام تلك الثلاثين ليلهن ونهارهن، فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول شيئًا من نبات الأرض فمضغه، فأوحى الله تعالى إليه: لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه، أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إليَّ من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة أيام.
وقال أبو العالية: مكث موسى على الطور أربعين ليلة.
فبلغَنا أنه لم يُحدث حتى هبط منه.
فإن قيل: ما معنى {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} وقد عُلم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين؟!.
فالجواب من وجوه: أحدها: أنه للتأكيد.
والثاني: ليدل أن العشر، ليالٍ، لا ساعات.
والثالث: لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين، لأنه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأُتمت بعشر وقد بينا في سورة [البقرة: 51] لماذا كان هذا الوعد.
قوله تعالى: {وأصلحْ} قال ابن عباس: مُرهُم بالإصلاح.
وقال مقاتل: ارفق. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} ذكر أن مما كرّم الله به موسى صلى الله عليه وسلم هذا.
فكان وعده المناجاة إكرامًا له.
{وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} قال ابن عباس ومجاهد ومسروق رضي الله عنهم: هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
أمره أن يصوم الشهر وينفرد فيه بالعبادة؛ فلما صامه أنكر خُلُوف فَمِه فاستاك.
قيل: بعود خَرْنُوب؛ فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسِّواك.
فزيد عليه عشرُ ليال من ذي الحجة.
وقيل: إن الله تعالى أوحى إليه لما استاك: «يا موسى لا أكلمك حتى يعود فُوك إلى ما كان عليه قبلُ، أما علمت أن رائحة الصائم أحبّ إليّ من ريح المسك».
وأمره بصيام عشرة أيام.
وكان كلام الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم غداة النحر حين فدى إسماعيل من الذبح، وأكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم الحج.
وحذفت الهاء من عشر لأن المعدود مؤنث.
والفائدة في قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وقد علم أن ثلاثين وعشرة أربعون، لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها؛ فبين أن العشر سوى الثلاثين.
فإن قيل: فقد قال في البقرة أربعين وقال هنا ثلاثين؛ فيكون ذلك من البداء.
قيل: ليس كذلك؛ فقد قال: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} والأربعون، والثلاثون والعشرة قول واحد ليس بمختلف.
وإنما قال القولين على تفصيل وتأليف؛ قال أربعين في قولٍ مؤلف، وقال ثلاثين، يعني شهرًا متتابعًا وعشرًا.
وكل ذلك أربعون؛ كما قال الشاعر:
عشر وأربع

يعني أربع عشرة، ليلة البدر.
وهذا جائز في كلام العرب.
الثانية قال علماؤنا: دلّت هذه الآية على أن ضَرْب الأجل للمواعَدة سُنَّة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله تعالى في القضايا، وحكم به للأمم، وعرّفهم به مقادير التأنِّي في الأعمال.
وأوّل أجل ضربه الله تعالى الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].
وقد بينا معناه فيما تقدّم في هذه السورة من قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54].