فصل: فصل: ما اشتملت عليه فواتح سورة البقرة من حِكَمٍ عظيمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: ما اشتملت عليه فواتح سورة البقرة من حِكَمٍ عظيمة:

وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة، منها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة. وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه، وتصديق جازم، كان ما معه من النور كالمستعار، ومنها أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله. وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها فإذا ذهبت مادة الإيمان طفيء كما تطفأ النار بفراغ مادتها، ومنها أن الظلمة نوعان: ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه، فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة فمثلت حاله بحال المستوقد للنار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط، ومنها أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة، وأنهم يعطون نارا ظاهرا كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا، ثم يطفأ ذلك النور أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ويبقون في الظلمة على الجسر لا يستطيعون العبور، فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر؛ فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار وبحالتهم يوم القيامة عندما يقسم، ومن هاهنا يعلم السر في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل أذهب الله نورهم.
فإن أردت زيادة بيان وإيضاح فتأمل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد سئل عن الورود فقال: «نجيء نحن يوم القيامة على تل فوق الناس، قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك فيقول من تنتظرون، فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك. قال فينطلق بهم فيتبعونه.
ويعطي كل إنسان منهم- منافق أو مؤمن- نورا ثم يتبعونه. وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله تعالى ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فينجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. فيجعلون بفناء الجنة. ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء»
وذكر باقي الحديث فتأمل قوله: فينطلق فيتبعونه ويعطى كل إنسان منهم نورا المنافق والمؤمن. ثم تأمل قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} وتأمل حالهم إذا طفئت أنوارهم فبقوا في الظلمة، وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «ليتبع كل أمة ما كانت تعبد» فيتبع كل مشرك إلهه الذي كان يعبده، والموحد حقيق بأن يتبع الإله الحق الذي كان كل معبود سواه باطل. وتأمل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع، وقوله في الحديث: «فيكشف عن ساقه» وهذه الإضافة يتبين المراد بالساق المذكور في الآية، وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه بعد هذا، وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد، وفهم القرآن ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده ولم يشركوا به شيئا هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها فانطلق بها واتبعته إلى النار، وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه، فسبحان الله رب العالمين الذي قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم. ومنها أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة التي هي الضلال والحيرة التي ضدها الهدى، والمثل الثاني متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا هدى ولا أمن {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
قال ابن عباس وغيره من السلف: مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء، ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفا متحيرا، كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، قال مجاهد: إضاءة النار لهم إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة، وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا، وفسرت بالبرزخ، وفسرت بيوم القيامة والصواب أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة؛ فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم جزاء وفاقا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلا له في الدنيا، ولهذا يسمى يوم الجزاء {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً}.
ومن كان مستوحشا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد، ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عمله بعينه فينعم به ظاهرا وباطنا، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم وقوة القلب، واستبشاره وحياته وانشراحه، واغتباطه ما هو أفضل النعيم وأجله وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس، وفرح القلب وسروره وانشراحه واستبشاره، هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين؛ ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوعه فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار، تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها، وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة وألما يخصه لا يشبه أثر الآخر وجزاه. ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات. فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب. كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها. ولا ألم من ضرب في كل مسخوط لله بنصيب وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا. فرأى قنوا من حشف معلقا في المسجد للصدقة فقال: «إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة» فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها.
وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد وتفاوت الناس في أحواله وما يجري فيه من الأمور، فمنها خفة حمل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إن خف خف، وإن ثقل ثقل، ومنها استظلاله بظل العرش أو ضحاؤه للحر والشمس إن كان له من الأعمال الصالحة الخالصة والإيمان مما يظله في هذه الدار من حر الشرك والمعاصي والظلم استظل هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن، وإن كان ضاحيا هنا للمعاصي والمخالفات والبدع والفجور ضحى هناك للحر الشديد، ومنها طول وقوفه في الموقف ومشقته عليه وتهوينه عليه إن طال وقوفه في الصلاة ليلا ونهارا لله، وتحمل لأجله المشاق في مرضاته وطاعته خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه، وإن آثر الراحة هنا والدعة والبطالة والنعمة طال عليه الوقوف هناك واشتدت مشقته عليه، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} فمن سبح الله ليلا طويلا لم يكن ذلك اليوم ثقيلا عليه، بل كان أخف شيء عليه.
ومنها أن ثقل ميزانه هناك بحسب تحمل ثقل عمل الحق في هذه الدار لا بحسب مجرد كثرة الأعمال، وإنما يثقل الميزان باتباع الحق والصبر عليه وبذله إذا سئل وأخذه إذا بذل كما قال الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما: واعلم أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وله حق بالنهار لا يقبله بالليل. واعلم أنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقل ذلك عليهم ولا يستضيء به غيره ولا يمشي أحد إلا في نور نفسه إن كان له نور مشى في نوره، وإن لم يكن له نور أصلا لم ينفعه نور غيره، ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه ولا له مادة من الإيمان أعطي في الآخرة نورا ظاهرا لا مادة له ثم يطفأ عنه أحوج ما كان إليه. ومنها أن مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا، فأسرع سيرا هنا أسرعهم هناك وأبطأهم هنا أبطأهم هناك، وأشدهم ثباتا على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك، ومن خطفته كلاليب الشهوات والشبهات والبدع المضلة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك، ويكون تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هاهنا، فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومخردل أي مقطع بالكلاليب مكردس في النار، كما أثر فيهم تلك الكلاليب في الدنيا جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد، والمقصود أن الله تبارك وتعالى ضرب لعباده المثلين المائي والناري في سورة البقرة وفي سورة الرعد وفي سورة النور لما تضمن المثلان من الحياة والإضاءة، فالمؤمن حي القلب مستنيره، والكافر والمنافق ميت القلب مظلمه، وقال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس} الآية، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
فجعل من اهتدى بهداه واستنار بنوره بصيرا حيا في ظل يقيه من حر الشبهات والضلال والبدع والشرك، مستنيرا بنوره، والآخر أعمى ميتا في حر الكفر والشرك والضلال منغمسا في الظلمات.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} الآية، وقد اختلفوا في مفسر الضمير من قوله تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} فقيل هو الإيمان لكونه أقرب المذكورين، وقيل هو الكتاب فإنه النور الذي هدى به عباده.
قال شيخنا: والصواب أنه عائد على الروح المذكور في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الآية، فسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة، ومن عدمها فهو ميت لا حي، والحياة الأبدية السرمدية في دار النعيم هي ثمرة حياة القلب بهذا الروح الذي أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فمن لم يحيا به في الدنيا فهو ممن له جهنم لا يموت فيها ولا يحي، وأعظم الناس حياة في الدور الثلاث دار الدنيا، ودار البرزخ ودار الجزاء، أعظمهم نصيبا من الحياة بهذا الروح. وسماه روحا في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ}.
وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وسماه نورا لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها.
وكمال الروح بهاتين الصفتين، بالحياة والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والاهتداء بما بعثوا به وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروح ميتة مظلمة، وإن كان العبد مشارا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام في البحوث، فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله، فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال. ويميز النقد الذي عليه سكة أهل المدينة النبوية الذي لا يقبل الله عز وجل ثمنا لجنته سواه. من النقد الذي عليه سكة جنكسخان ونوابه من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة وكل من اتخذ لنفسه سكة وضربا ونقدا يروجه بين العالم؛ فهذه الأثمان كلها زيوف لا يقبل الله سبحانه وتعالى في ثمن جنته شيئا منها، بل ترد على عاملها أحوج ما يكون إليها وتكون من الأعمال التي قدم الله تعالى عليها فجعلها هباء منثورا، ولصاحبها نصيب وافر من قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة؛ ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم فاتبعوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال والانتصار لهم وفهم ما قالوه، وبثه في المجالس والمحاضر. وأعرضوا عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم صفحا. ومن به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلبا للفضيلة.
وأما تجريد أتباعه وتحكيمه وتفريغ قوى النفس في طلبه وفهمه، وعرض آراء الرجال عليه ورد ما يخالفه منها، وقبول ما وافقه، ولا يلتفت إلى شيء من آرائهم وأقوالهم إلا إذا أشرقت عليها شمس الوحي وشهد لها بالصحة، فهذا أمر لا تكاد ترى أحدا منهم يحدث به نفسه فضلا عن أن يكون أخيته ومطلوبه، وهذا الذي لا ينجي سواه.
فوارحمتا لعبد شقي في طلب العلم واستفرغ قواه واستعد فيه أوقاته وآثره على ما الناس فيه. والطريق بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسدود وقلبه عن المرسل سبحانه وتعالى وتوحيده والإنابة إليه والتوكل عليه والتنعم بحبه والسرور بقربه مطرود ومصدود، وقد طاف عمره كله على أبواب المذاهب، فلم يفز إلا بأخس المطالب.
سبحان الله إن هي والله إلا فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرق قصدها، تربى فيه الصغير وهرم عليه الكبير، فظنت خفافيش الأبصار أنها الغاية التي تسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تتنافس فيها المتنافسون وهيهات أين الظلام من الضياء، وأين الثرى من كواكب الجوزاء، وأين الحرور من الظلال، وأين طريقة أصحاب اليمين من طريقة أصحاب الشمال، وأين القول الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم وأين العلم الذي سنده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين سبحانه، من الخوض الخرص الذي سنده شيوخ الضلال من الجهمية والمعتزلة وفلاسفة المشائين، بل أين الآراء التي أعلى درجاتها أن تكون عند الضرورة سائغة الاتباع إلى النصوص النبوية الواجب على كل مسلم تحكيمها والتحاكم إليها في موارد النزاع، وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحض على النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر. وأين الأقوال والآراء التي إذا مات أنصارها والقائمون بها فهي من جملة الأموات، إلى النصوص التي لا تزول إلا إذا زالت الأرض والسماوات.
لقد استبان والله الصبح لمن له عينان ناظرتان؛ وتبين الرشد من الغي لمن له أذنان واعيتان، لكن عصفت على القلوب أهوية البدع والشبهات والآراء المختلفات، فأطفأت مصابيحها وتحكمت فيها أيدي الشهوات فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها وتقليدها لآراء الرجال، فلم تجد حقائق القرآن والسنة فيها منقذا وتمكنت فيها أسقام الجهل والتخليط فلم تنتفع معها بصالح الغذاء، واعجبا جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تقبل الاغتذاء بكلام الله تعالى ونص نبيه المرفوع، واعجبا كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ فيها والصواب، وعجزت عن الاهتداء بمطالع الأنوار ومشارقها من السنة والكتاب، فأقرت بالعجز عن تلقي الهدى من مشكاة السنة والقرآن، ثم تلقته من رأي فلان ورأي فلان.
سبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس الهدى من مشكاتها من الكنوز والذخائر، وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر، قنعوا بأقوال استنبطوها بمعاول الآراء فكرا، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ووقعت أعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها، وأفلت كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يثبتونها، خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز. وقالوا مالك عندنا من عبور وإن كان لابد فعلى سبيل المجاز. أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان، حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي وتضييع الأصول، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابهم أحوج ما كانوا إليها، حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه؛ وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.
فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا، ويا عظم المصيبة عندما تبين بوارق آماله وأمانيه خلبا وغرورا، فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى يوم تبلى السرائر، وما عذر من نبذ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره في يوم لا ينفع فيه الظالمين المعاذر. أفيظن المعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينجو غدا بآراء الرجال ويتخلص من مطالبة الله تعالى له بكثرة البحوث والجدال أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالشطحات والمشارات وأنواع الخيال، هيهات. والله لقد ظن أكذب الظن ومنّى نفسه أبين المحال، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله تعالى على غيره وتزود التقوى وائتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم. اهـ.