فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته، واستقرار الجبل حال حركته محال.
فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول، لا على شرط جائز الحصول، فلم يلزم صحة ما قلتموه؟ والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال: إنه حال ما جعل استقراره شرطًا لحصول الرؤية كان ساكنًا أو متحركًا، فإن كان الأول، لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط، وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقرًا، ولما لم يكن مستقرًا كان متحركًا.
فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطًا لحصول الرؤية، كان متحركًا لا ساكنًا.
فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقرًا حال كونه ساكنًا فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية، هو كون الجبل مستقرًا حال كونه متحركًا، وأنه شرط محال.
والجواب: هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودًا كان واجب الوجود، ولو أخذته بشرط كونه معدومًا كان واجب العدم، فلو أخذته من حيث هو هو مع قطع النظر عن كونه موجودًا أو كونه معدومًا كان ممكن الوجود فكذا هاهنا الذي جعل شرطًا في اللفظ هو استقرار الجبل، وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطًا أمر ممكن الوجود جائز الحصول، وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه والله أعلم.
الحجة الرابعة: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية في إثبات جواز الرؤية قوله تعالى: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا} وهذا التجلي هو الرؤية، ويدل عليه وجهان: الأول: إن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء، وإبصار الشيء أيضًا يجلي لذلك الشيء.
إلا أن الإبصار في كونه مجليًا أكمل من العلم به وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى.
الثاني: أن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود.
فثبت أن قوله تعالى: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا} هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية أقصى ما في الباب أن يقال: الجبل جماد والجماد يمتنع أن يرى شيئًا، إلا أنا نقول: لا يمتنع أن يقال: إنه تعالى خلق في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم، ثم خلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى، والدليل عليه أنه تعالى قال: {ياجبال أَوّبِى مَعَهُ والطير} [سبأ: 10] وكونه مخاطبًا بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل فيه فكذا هاهنا، فثبت بهذه الوجوه الأربعة دلالة هذه الآية على أنه تعالى جائز الرؤية.
أمنا المعتزلة فقالوا: إنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية أنه تعالى تمتنع رؤيته فوجب صرف هذه الظواهر إلى التأويلات.
أما دلائلهم العقلية فقد بينا في الكتب العقلية ضعفها وسقوطها، فلا حاجة هنا إلى ذكرها.
وأما دلائلهم السمعية فأقوى ما لهم في هذا الباب التمسك بقوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] قد سبق في سورة الأنعام ما في هذه الآية من المباحث الدقيقة واللطائف العميقة.
واعلم أن القوم تمسكوا بهذه الآية على عدم الرؤية من وجوه: الأول: التمسك بقوله تعالى: {لَن تَرَانِى} وتقرير الاستدلال أن يقال: إن هذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لا يرى الله ألبتة لا في الدنيا ولا في القيامة، ومتى ثبت هذا ثبت أن أحدًا لا يراه ألبتة ومتى ثبت هذا ثبت أنه تعالى يمتنع أن يرى، فهذه مقدمات ثلاثة.
أما المقدمة الأولى: فتقريرها من وجوه: الأول: ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة لن للتأبيد.
قال الواحدي رحمه الله: هذه دعوى باطلة على أهل اللغة، وليس يشهد بصحته كتاب معتبر، ولا نقل صحيح.
وقال أصحابنا: الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة.
والثاني: أن قوله: {لَن تَرَانِى} يتناول الأوقات كلها بدليل صحة استثناء أي وقت أريد من هذه الكلمة، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ وهذا أيضًا ضعيف، لأن تأثير الاستثناء في صرف الصحة لا في صرف الوجوب على ما هو مقرر في أصول الفقه.
الثالث: أن قوله لن أفعل كذا، يفيد تأكيد النفي، ومعناه أن فعله ينافي حالته كقوله تعالى: {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} [الحج: 73] وهذا يدل على أن الرؤية منافية للإلهية، والجواب: أن {لَنْ} لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال.
فكان قوله: {لَن تَرَانِى} نفيًا لذلك المطلوب، فأما أن يفيد النفي الدائم فلا.
فهذه جملة الكلام في تقرير هذه المسألة.
أما المقدمة الثانية: فقالوا: القائل اثنان: قائل يقول: إن المؤمنين يرون الله وموسى أيضًا يراه، وقائل ينفي الرؤية عن الكل، أما القول بإثباته لغير موسى ونفيه عن موسى فهو قول خارق للإجماع وهو باطل.
وأما المقدمة الثالثة: فهي أن كل من نفى الوقوع نفى الصحة، فالقول بثبوت الصحة مع نفي الوقوع قول على خلاف الإجماع وهو باطل.
واعلم أن بناء هذه الدلالة على صحة المقدمة الأولى، فلما ثبت ضعفها سقط هذا الاستدلال بالكلية.
الحجة الثانية للقوم: أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه خر صعقًا، ولو كانت الرؤية جائزة، فلم خر عند سؤالها صعقًا؟
والحجة الثالثة: أنه عليه السلام لما أفاق قال سبحانك، وهذه الكلمة للتنزيه، فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى، فكان قوله: {سبحانك} تنزيهًا له عن الرؤية فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه الله تعالى وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات، فوجب كون الرؤية من النقائص والآفات، وذلك على الله محال.
فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة.
والحجة الرابعة: قوله تعالى حكاية عن موسى لما أفاق أنه قال: {تُبْتُ إِلَيْكَ} ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه، ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين}.
واعلم أن أصحابنا قالوا: الرؤية كانت جائزة، إلا أنه عليه السلام سألها بغير الإذن وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكانت التوبة توبة عن هذا المعنى لا عما ذكروه، فهذا جملة الكلام في هذه الآية.
والله أعلم بالصواب.
المسألة الرابعة:
في البحث عن هذه الآية.
نقل عن ابن عباس أنه قال: جاء موسى عليه السلام ومعه السبعون وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل، وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتابًا وقربه نجيًا، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه، فقال: {رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} قال صاحب الكشاف: ثاني مفعولي {أَرِنِى} محذوف، أي {أَرِنِى} نفسك {أَنظُرْ إِلَيْكَ} وفي لفظ الآية سؤالات:
السؤال الأول: النظر: إما أن يكون عبارة عن الرؤية أو عن مقدمتها وهي تقليب الحدقة السليمة إلى جانب المرئي التماسًا لرؤيته، وعلى التقدير الأول: يكون المعنى أرني حتى أراك، وهذا فاسد، وعلى التقدير الثاني: يكون المعنى أرني حتى أقلب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين: أحدهما: أنه يقتضي إثبات الجهة لله تعالى.
والثاني: أن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية فجعله كالنتيجة عن الرؤية وذلك فاسد.
والجواب: أن قوله: {أَرِنِى} معناه اجعلني متمكنًا من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك.
السؤال الثاني: كيف قال: {لَن تَرَانِى} ولم يقل لن تنظر إلي، حتى يكون مطابقًا لقوله: {أَنظُرْ إِلَيْكَ}.
والجواب: أن النظر لما كان مقدمة للرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه.
والسؤال الثالث: كيف اتصل الاستدراك في قوله: {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} بما قبله؟
والجواب: المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحدًا لا يقوى على رؤية الله تعالى إلا إذا قواه الله تعالى بمعونته وتأييده، ألا ترى أنه لما ظهر أثر التجلي والرؤية للجبل اندك وتفرق، فهذا من هذا الوجه يدل على تعظيم أمر الرؤية.
أما قوله: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} فقال الزجاج: {تجلى} أي ظهر وبان، ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها، وجلوت المرآة والسيف إذا أزلت ما عليهما من الصدأ، وقوله: {جَعَلَهُ دَكّا} قال الزجاج: يجوز {دَكًّا} بالتنوين و{دَكَّاء} بغير تنوين أي جعله مدقوقًا مع الأرض يقال: دككت الشيء إذا دققته أدكه دكًا، والدكاء والدكاوات: الروابي التي تكون مع الأرض ناشزة.
فعلى هذا، الدك مصدر، والدكاء اسم.
ثم روى الواحدي بإسناده عن الأخفش في قوله: {جَعَلَهُ دَكّا} أنه قال: دكه دكًا مصدر مؤكد، ويجوز جعله ذا دك.
قال ومن قرأ {دَكَّاء} ممدودًا أراد جعله دكاء أي أرضًا مرتفعة، وهو موافق لما روي عن ابن عباس أنه قال: جعله ترابًا.
وقوله: {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} قال الليث: الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان، والصعقة الغشية.
يقال: صعق الرجل وصعق، فمن قال صعق فهو صعق.
ومن قال صعق فهو مصعوق.
ويقال أيضًا: صعق إذا مات، ومنه قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض} [الزمر: 68] فسروه بالموت.
ومنه قوله: {يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} أي يموتون.
قال صاحب الكشاف: صعق أصله من الصاعقة، ويقال لها: الصاقعة من صقعه إذا ضربه على رأسه.
إذا عرفت هذا فنقول: فسر ابن عباس قوله تعالى: {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} بالغشي، وفسره قتادة بالموت، والأول أقوى، لقوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ} قال الزجاج: ولا يكاد يقال للميت: قد أفاق من موته، ولكن يقال للذي يغشى عليه: أنه أفاق من غشيه، لأن الله تعالى قال في الذين ماتوا: {ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56].
أما قوله: {قَالَ سبحانك} أي تنزيهًا لك عن أن يسألك غيرك شيئًا بغير إذنك، {تُبْتُ إِلَيْكَ} وفيه وجهان: الأول: {تُبْتُ إِلَيْكَ} من سؤال الرؤية في الدنيا.
الثاني: {تُبْتُ إِلَيْكَ} من سؤال الرؤية بغير إذنك {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بأنك لا ترى في الدنيا، أو يقال: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا} يعني لميعادنا لتمام أربعين يومًا.
ويقال: لميقاتنا أي للوقت الذي وقّتنا له.