فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنهم من حمل الصورة على ما به التميز والمراد بها ذاته تعالى المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال، وما ذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلدًا أملسًا والقول ما قاله تاج الدين السبكي فيهم:
عجبًا لقوم ظالمين تلقبوا ** بالعدل ما فيهم لعمري معرفة

قد جاءهم من حيث لا يدرونه ** تعطيل ذات الله مع نفي الصفة

وتلقبوا عدلية قلنا نعم ** عدلوا بربهم فحسبهم سفه

وقال ابن المنير:
وجماعة كفروا برؤية ربهم ** هذا ووعد الله ما لن يخلفه

وتلقبوا عدلية قلنا أجل ** عدلوا بربهم فحسبوهم سفه

وتنعتوا الناجين كلا إنهم ** إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه

وبعد هذا كله نقول: إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا، فذهب أكثر الجماعة إلى أنه عليه السلام لم يره لا قبل الصعق ولا بعد.
وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتًا، وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر، والآية عندي غير ظاهر في ذلك، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري، إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر بالانكشاف التام الذي لا يحصل إلا إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلًا عن وجود الغير فإنه قال: إن موسى عليه السلام لما طلب هذه المرتبة من الانكشاف وعبر عن نفسه بأنا دل على أن نظره كان باقيًا على نفسهوهي لا تكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية لا جرم منع عنه هذه المرتبة وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله: أرني ولن تراني، ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع استعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه: {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك فلما أدرك الرمز خر صعقًا مغشيًا عليه متجردًا عن العلائق فانيًا عن نفسه فحصل له المطلوب فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه.
وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي، وأيده بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجلى الله تعالى لموسى عليه السلام كان يبصر دبب النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ، وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال: مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين» وجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود» بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلى الله عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق كما أن الكلام الذي أعطاه موسى كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء.
وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال «إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت» هو أن أحدًا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما، وفسر الآية بما لا يخلو عن خفاء.
والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقًا يجيبون عما ذكره من حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى عليه السلام وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية فإنه لا تلازم بني الرؤية وأشراق النور وبأن الأول ليس نصًا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تعالى تجليات شتى غير ذلك فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها، وقد يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه عليه السلام بكلامه واصطفائه وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى، ولا يبعد أن يكون هذا سببًا لذلك الإبصار، وهذا أولى مما قيل: إن اللام في لموسى للتعليل ومتعلق تجلي محذوف أي لما تجلى الله تعالى للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب أشراق بعض أنوار تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر:
تضوع مسكًا بطن نعمان إذ مشت ** به زينب في نسوة خفرات

فالحق الذي لا ينبغي المحيص عنه أن موسى عليه السلام لم يحصل له ما سأل في هذا الميقات، والذي أقطع به أنه نال مقام قرب النوافل والفرائض الذي يذكره الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم بالمعنى الذي يذكرونه كيفما كان، وحاشا لله من أن أفضل أحدًا من أولياء هذه الأمة وأن كانوا هم هم على أحد من أنبياء بني إسرائيل فضلًا عن رسلهم مطلقًا فضلًا عن أولي العزم منهم وقد ذكر بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات: أن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الأفعال والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب، واختيرت العشرة لأنها عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها، واستعمال السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية، وجاء أنه عليه السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين، وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين، وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهوذ الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى الله تعالى ولم يبق منه شيء بل فنى بالكلية وفي العشرة الرابعة كان سلوكه في الله تعالى حتى رزق البقاء بعد الفناء بالإفاقة، قالوا: وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية في الثلاثين والإفاقة بعدها، وكان التكليم في مقام تجلي الصفات وكان السؤال عن إفراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية، و{لَن تَرَانِى} إشارة إلى استحالة الإثنينية وبقاء الأنية في مقام المشاهدة، وهذا معنى قول من قال: رأيت ربي بعين ربي، وقوله سبحانه: {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} إشارة إلى جبل الوجود، أي انظر إلى جبل وجودك {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} وهو من باب التعليق بالمحال عنده {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا} أي متلاشيًا لا وجود له {وَخَرَّ موسى} عن درجة الوجود {صَعِقًا} أي فانيًا {فَلَمَّا أَفَاقَ} بالوجود الموهوب الحقاني {قَالَ سبحانك} أن تكون مرئيًا لغيرك {تُبْتُ إِلَيْكَ} عن ذنب البقية، أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة إذ ليس في الوجود سواك {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بحسب الرتبة، أي أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة، وقد يقال: إن موسى إشارة إلى موسى الروح ارتاض أربعين ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هارون القلب {اخلفنى في قَوْمِى} من الأوصاف البشرية {وَأَصْلَحَ} ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] من القوى الطبيعية، ولما حصل الروح على بساط القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال: {رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} فقال له: هيهات ذاك وأين الثريا من يد المتناول؟ أنت بعد في بعد الإثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن أردت ذلك فخل نفسك وائتني:
وجانب جناب الولص هيهات لم يكن ** وها أنت حي أن تكن صادقًا

مت هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا ** من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي

فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ رأى عزة المطلوب ونادى:
فقلت لها: روحي لديك وقبضها ** إليك ومن لي أن تكون بقبضتي

وما أنا بالشاني الوفاة على الهوى ** وشأني الوفا تابي سواه سجيتي

فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم من عليه برؤيته وكان ما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطفىء المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم:
ولقد خلوت مع الحبيبة وبيننا ** سر أرق من النسيم إذا سرى

وأباح طرفي نظرة أملتها ** فغدوت معروفًا وكنت منكرًا

فدهشت بين جماله وجلاله ** وغدا لسان الحال عني مخبرا

هذا والكلام في الرؤية طويل، وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك على الوجه الأكمل، والذي علينا إنما هو كشف القناع عما يتعلق بالآية، والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [143].
{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} أي: حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا.
{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} أي: خاطبه من غير واسطة ملك {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي: لن تطيق رؤيتي، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، ولا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له، بل ما هو أكبر جرمًا، وأشد خلقًا وصلابة- وهو الجبل- لا يثبت لذلك، بل يندك، ولذا قال تعالى: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} أي: الذي هو أقوى منك.
{فإِنِ اسْتَقَرَّ} أي: ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل: {فَسَوْفَ تَرَانِي}، أي: تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة.
وفيه من التلطيف بموسى والتكريم له، والتنزل القدسي ما لا يخفى.
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي: ظهر له وبان- قاله الزجاج-.
{جَعَلَهُ} أي: التجلي: {دَكًّا} أي: مفتتًا، فلم يستقر مكانه. فنبه تعالى على أن الجبل، مع شدته وصلابته، إذا لم يستقر، فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى، بأن المانع من الإنكشاف الإشفاق عليه، وأما أن المانع محالية الرؤية، فليس في القرآن إشارة إليه.
{وَخَرَّ} أي: وقع: {موسَى صَعِقًا} أي: مغشيًا عليه من هول ما رأى.
{فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} أي: من الإقدام على سؤالي الرؤية {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بأنه لا يستقر لرؤيتك أحد في هذه النشأة.
قال في الانتصاف: إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العمل قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم، سبح الله، وقدس علمه وخبره عن الخلف.
وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهًا مبرأً من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل. وقد ورد: سيئات المقربين، حسنات الأبرار.
تنبيه:
قالا متكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين:
الأول: أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها، لأن العاقل، وفضلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطلب المحال، ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالإستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله، لا يصلح للنبوة، إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة، ولا ريب في نبوة موسى عيه السلام، وأنه من أولي العزم.
الثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه والمعلق على الممكن ممكن، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.