فصل: المبحث الرابع: أصول مقررة للرد على نفاة الرؤية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المبحث الرابع: أصول مقررة للرد على نفاة الرؤية:

وقد ذكر أئمة الأصول والتفسير قواعد مقررة، متفق عليها بين الأمة، يستطيع المستوعب لها الرد على نفاة الرؤية، وقد ذكرتها في ثلاثة مطالب:

.المطلب الأول: الأصل في فهم النص الأخذ بالظاهر:

ذكر علماء أصول الفقه في دلالات الألفاظ، أن النص إذا دل على معنى ظاهر، متبادر من اللفظ أنه لا يجوز العدول عن الأخذ بظاهره إلا بقرينة فقول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} لا يجوز أن يقال منتظرة أو ناظرة إلى ثواب ربها ولا غير ذلك لماذا؟
لأنه عدول عن ظاهر الآية بدون قرينة، ولا يصح أن يكون العقل هنا قرينة صارفة عن الأخذ بالظاهر، لأنه لا مجال له في معرفة الغيبيات، إنما تعرف من النص القرآني أو اللفظ النبوي.
تأمل في تفسير الإمام اللالكائي قال: معنى قوله: {إلى ربها ناظرة} أنها رائية ترى الله عز وجل ولا يجوز أن يكون معناه إلى ثواب ربها ناظرة لأن ثواب الله غير الله وإنما قال الله عز وجل: {إلى ربها} ولم يقل إلى غير ربها ناظرة والقرآن على ظاهره وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة ألا ترى أنه لما قال: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي} لم يجز أن يقال أراد ملائكتي ورسلي ثم نقول إن جاز لكم أن تدعوا هذا في قوله إلى ربها ناظرة جاز لغيركم أن يدعيه في قوله: {لا تدركه الأبصار} فيقول أراد بها لا تدرك غيره ولم يرد أنها لا تدركه الأبصار وإذا لم يجز ذلك لم يجز هذا. وهكذا يقال في سائر النصوص الظاهرة من القرآن والسنة.

.المطلب الثاني: الأصل حمل الكلام على الحقيقة:

إذا استخدمت العرب معنى فيما وضعوه له كقوله: {إلى ربها ناظرة} فإن النظر هنا يحمل على الحقيقة ولا يجوز العدول عنه إلى منتظرة أو غيرها إلا بقرينة صارفة إلى المعنى المجازي، هذا على من يقول بوجود المجاز في لغة العرب، ولا قرينة هنا، ولا تصح دلالة العقل لما قلناه في الكلام السابق، وهذا على جهة المثال.
وينبغي هنا أن يتنبه لمسألة وهي أنه إذا جاء لفظ يدل على الحقيقة في نص، وجاء ذلك اللفظ في نص آخر يدل على المعنى المجازي، فأنه لا يُعدل اللفظ من دلالته على الحقيقة إلى المجاز لمجرد أنه جاء مجازًا في نص آخر، فمثلا: {وجوه إلى ربها ناظرة} في الآية هي اسم فاعل من الفعل نظر وقد جاء ناظر في قوله تعالى على لسان بلقيس: {فناظرة بما يرجع المرسلون} بمعنى منتظرة على قول عند أهل التفسير، ومجرد أن {ناظرة} جاءت بمعنى منتظرة لا يُجوز صرفها إلى الانتظار بدون قرينة، فأين القرينة هنا؟ والعقل لا مجال له في الغيب، وعلى ذلك فقس في سائر دلائل النصوص في القرآن والسنة.

.المطلب الثالث: التواتر حجة قاطعة:

قال الإمام النووي في شرح مسلم 3/ 15: اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا وأجمعوا أيضا على وقوعها في الآخرة وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين...وقال: وقد تظاهرت أدله الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين ورواها نحو عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فيها مشهورة.
قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد: إن المؤمنين لم يختلفوا أن المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد ومن أنكر ذلك فليس بمؤمن عند المؤمنين.
والأحاديث النبوية في ذلك نصوص متواترة في محل النزاع ولذا قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء بعد الكلام على مسألة الرؤية 10/ 455:
قلنا وللكل موقف بين يدي الله تعالى، يا سبحان الله أحاديث رؤية الله في الآخرة متواترة والقرآن مصدق لها، فأين الإنصاف؟
أخي القارئ العزيز، الأحاديث كما رأيت، قد جاءت من ست وثلاثين طريقًا عن ثلاثين صحابيًا وما جاء هكذا فإنه يسمى متواتر عند أهل مصطلح الحديث وأصول الفقه باتفاق وهو حجة قاطعة في المسألة لا يجوز مخالفته عند جميع أهل الإسلام.
فهل تترك هذا النصوص الجلية لقول فلان أو علان كائنا من كان؟

.المطلب الرابع: من أعلى درجات التفسير:

إن من مهام النبي صلى الله عليه وسلم وتمام بلاغه، بيانه للقرآن، وهو من أعلى درجات التفسير لأن الله تعالى قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} وهذا أمر مقرر عند من لديه أدنى درجات العلم لا ينكره أحد.
وأنت ترى أخي الحبيب، أنه قد ثبت بالتواتر عنه صلى الله عليه وأله وسلم القول بالرؤية عن ست وثلاثين صحابيا فهل يا ترى يمتري بعد هذا ذو لب.

.خاتمة البحث:

وقبل أن أنتهي من البحث أود أن أقول أمور وهي:
1ـ أخي الحبيب إذا تأملت في كلام النفاة للرؤية فستجده هذا مش معقول؟
يلزم من إثبات أن يكون جسمًا، والله ليس بجسم....الخ.
فالجواب:
يقال له: الذي لم يسعه عقلك الضيق، قد وسعه عقول خير القرون، الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والأئمة المتبوعين، فماذا يعني عقلك القاصر؟
ولم يفهموا من إثبات الرؤية الجسم، إلا أن تقول أنه لا عقول لهم.
وهل أنت أعلم بمراد الله أم الله أعلم؟
وهل أنت أفهم أم رسول الله أفهم؟ وكذا يقال في فهم الصحابة فمن بعدهم.
ومن أين جئت بلفظ الجسم؟ وأن معناه أنه ذات له أجزاء، مع أنه في اللغة البدن كما قال الجوهري في الصحاح وغيره؟
ومن قال أن إثبات الرؤية يلزم منه أن الله مخلوق؟ أو جسم كما تزعم؟
2ـ من كان له أدنى معرفة، بعلوم المنطق والفلسفة، مع معرفته بعلوم الشريعة، يتأكد أن هذا المصطلحات المذكورة، فيها حق وباطل، وقد نهينا عن ذلك، في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا …} لأن في {راعنا} معنى باطل، وإن كان عند العرب له معنى صحيح، وكذلك لفظة الجسم لما تضمنت معنى آخر لا تعرفه العرب، فلا يجوز أن يفسر القرآن بها، لأنها تضمنت معنى باطلا.
3ـ لو كان علم الفلسفة والمنطق، يهدي إلى الحق؛ لهدى اليونان الذي أصلوه، ورتبوا قواعده، ونظموا مسائله.
4ـ لو كان علم الفلسفة والمنطق ضروريًا، لمعرفة أصول الدين ومسائل العقائد، لكان من الواجب على النبي صلى الله عليه وأله وسلم أن يعلم أمته ذلك، ولو لم يفعل لأدى إلى القول بأن الدين غير كامل، كيف وقد قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}؟
5ـ هل يقال أن القرون الأولى الصحابة والتابعين فمن بعدهم، لم يعرفوا أصول الدين لأنهم يجهلون علم المنطق والفلسفة أو أنه لم يصل إليهم؟
فاتق الله يا أخا الإسلام، وسر على نهج النبي صلى الله عليه وسلم وأله الأطهار، وصحابة الكرام، إن كنت تريد النجاة والفلاح، فبهداهم اقتد، وعلى نهجهم امض، {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين والله أعلم.
(1) قال الإمام اللالكائي في شرح الاعتقاد (1/ 122):
أي: أن لفظة {لا تدركه...} لو لم نحملها على الإحاطة وحملناها على الرؤية وأنه يدل عمومها على عدم الرؤية في الدنيا والآخرة لكان الواجب جمعا بين الأدلة تخصيصها بقوله تعالى: {وجوه إلى ربها ناظرة} فيكون المعنى: لا تدركه الأبصار في الدنيا وقوله تعالى: {وجوه إلى ربها ناظرة} تدل على الرؤية في الآخرة وعموم {لا تدركه} في عدم الرؤية في الآخرة قد عارضه خصوص قوله تعالى: {وجوه إلى ربها ناظرة} وإذا تعارض خاص وعام فإنه يقضى بالخاص على العام وعندها لا تدل آية: {لا تدركه} على عدم الرؤية يوم القيامة، قال الطبري: وصح أن قوله لا تدركه الأبصار على الخصوص لا على العموم وأن معناه لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (144):

قوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما منعه الرؤية بعد طلبه إياها، وقابل ذلك بمحاسن الأفعال والأقوال، تشوف السامع إلى ما قوبل به من الإكرام، فاستأنف سبحانه الإخبار بما منحه به تسلية له عما منعه وأمرًا بشكره بقوله: {قال يا موسى} مذكرًا له نعمه في سياق دال على عظيم قدرها وإيجاب شكرها مسقطًا عنه مظهر العظمة تأنيسًا له ورفقًا به- {إني اصطفيتك} أي اخترتك اختيارًا بالغًا كما يختار ما يصفى من الشيء عن كل دنس {على الناس} أي الذين في زمانك {رسالاتي} أي الآيات المستكثرة التي أظهرتها وأظهرها على يديك من أسفار التوارة وغيرها {وبكلامي} أي من غير واسطة وكأنه أعاد حرف الجر للتنبيه على ذلك، كما اصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم على الناس عامة في كل زمان برسالته العامة وبكلامه المعجز وبتكليمه من غير واسطة في السماء التي قدست دائمًا ونزهت عن التدنيس بمعصية.
ولما كان ذلك مقتضيًا لغاية الإقبال والنشاط، سبب عنه قوله: {فخذ ما آتيتك} آي مخصصًا لك به {وكن من الشاكرين} أي العريقين في صفة الشكر المجبولين عليها. اهـ.

.قال الفخر:

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي}.
اعلم أن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها، عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه، وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية، وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها.
والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية، وهذا أيضًا أحد ما يدل على أن الرؤيا جائزة على الله تعالى، إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أن الاصطفاء استخلاص الصفوة فقوله: {اصطفيتك} أي اتخذتك صفوة على الناس قال ابن عباس: يريد فضلتك على الناس، ولما ذكر أنه تعالى اصطفاه ذكر الأمر الذي به حصل هذا الاصطفاء فقال: {برسالاتي وبكلامي} قرأ ابن كثير ونافع {برسالتي} على الواحد والباقون {برسالاتي} على الجمع، وذلك أنه تعالى أوحى إليه مرة بعد أخرى، ومن قرأ {برسالتي} فلأن الرسالة تجري مجرى المصدر، فيجوز إفرادها في موضع الجمع، وإنما قال: {اصطفيتك عَلَى الناس} ولم يقل على الخلق، لأن الملائكة قد تسمع كلام الله من غير واسطة كما سمعه موسى عليه السلام.
فإن قيل: كيف اصطفاه على الناس برسالاته مع أن كثيرًا من الناس قد ساواه في الرسالة؟
قلنا: إنه تعالى بين أنه خصه من دون الناس بمجموع الأمرين، وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة، وهذا المجموع ما حصل لغيره، فثبت أنه إنما حصل التخصيص هاهنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة، وإنما كان الكلام بغير واسطة سببًا لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر، لأن من سمع كلام الملك العظيم من فلق فيه كان أعلى حالًا وأشرف مرتبة ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب، ولما ذكر هذين النوعين من النعمة العظيمة.
قال: {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشاكرين} يعني فخذ هذه النعمة، ولا يضيق قلبك بسبب منعك الرؤية، واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علمًا وعملًا والله أعلم. اهـ.