فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعدم اشتراك المأمور به والمنهي عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقًا كما في البحر مشتركًا فإن المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه والمنهي عنه حسن باعتبار الملاذ والشهوة.
وقال قطرب كما نقله عنه محيي السنة: المعنى يأخذوا بحسنها وكلها حسن، وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية، وقيل: المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة وليس له من القبول عائد.
وقال الجبائي: المراد يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ، وقيل: الأخذ بالأحسن هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها للصواب، ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما في قولك أخذ زيد يتكلم أي شرع في الكلام، والأحسن على العقائد فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة وهي لكونها أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال أحسن من غيرها من الفروع وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لا يخفى فإن أخذ بالمعنى المعنى من أفعال الشروع ليس هذا استعمالها المعهود في كلامهم على أن فيه بعد ما فيه، ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائدًا إلى قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة فكون أمرًا منه سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين فإن ذلك خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن قوة ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الاحتمالات السابقة غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك.
{سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناءً على ما روي عن قتادة.
وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر ورأى بصرية، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث محذوف أي سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا تهاونوا في امتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما حل بهم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسن موقعه قصد المبالغة في الحث وفي وضع الإراءة موضع الاعتبار إقامة السبب مقام المسبب مبالغة أيضًا كقوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ في الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} [النمل: 69] وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر الإشعار بالعلية والتنبيه على أن يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق، والسين للاستقبال لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في الكشف.
وقال الكلبي: المراد بدار الفاسقين منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا، وعن الحسن.
وعطاء أن المراد بها جهنم، وأيًا ما كان فالكلام على النهج الأول أيضًا، ويجوز أن يكون على نهج الوعد والترغيب بناءً على ما روي عن قتادة أيضًا من أن المراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها مما أبيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عز وجل: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ التي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الإيراث، ويؤيده قراءة بعضهم {سأورثكم}، وجوز على هذا أن يراد بالدار مصر، وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار تغليب لأن المعنى سأورثك وقومك أرض مصر، ولا يصح ذلك عليها إذا أريد من الدار أرض الجبابرة بناءً على أن موسى عليه السلام لم يدخلها وإنما دخلها يوشع مع القوم بعد وفاته عليه السلام، ويصح بناءً على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته، وجوز اعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضًا، وقرأ الحسن {عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ} بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة فاشية في الحجاز، والمعنى سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من أوريت الزند، واختار ابن جني في تخريج هذه القراءة ولعله الأظهر أنها على الإشباع كقوله:
من حيثما سلكوا أدنو فأنظور

. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}.
عطف على جملة {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي} [الأعراف: 144] إلى آخرها، لأن فيها: {فخذ ما آتيتك} [الأعراف: 144] والذي آتاه هو ألواح الشريعة، أو هو المقصود من قوله: {ما آتيتك}.
والتعريف في الألواح يجوز أن يكون تعريف العهد، إن كان {ما آتيتك} مرادًا به الألواح التي أُعطيها موسى في المناجاة، فساغ أن تعرّف تعريف العهد، كأنه قيل: فخذ ألواحًا آتيتُكها، ثم قيل: كتبنا له في الألواح، وإذا كان ما آتيتك مرادًا به الرسالة والكلام كان التعريف في الألواح تعريف الذهني، أي: وكتبنا له في ألواح معينة من جنس الألواح.
والألواح جمع لَوْحَ بفتح اللام، وهو قطعة مربعة من الخشب، وكانوا يكتبون على الألواح، أو لأنها ألواح معهودة للمسلمين الذين سيقت إليهم تفاصيل القصة وإن كان سوق مجمل القصة لتهديد المشركين بأن يحل بهم ما حصل بالمكذبين بموسى.
وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحًا مجاز بالصورة لأن الألواح التي أعطيها موسى كانت من حجارة، كما في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج، فتسميتها الألواح؛ لأنها على صورة الألواح، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين أن اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى، وكانا لوحين، كما في التوراة، فإطلاق الجمع عليها هنا: إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى بناء على أن أقل الجمع اثنان، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما، كما يقتضيه الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج، فكانا بمنزلة أربعة ألواح.
وأسندت الكتابة إلى الله تعالى؛ لأنها كانت مكتوبة نقشًا في الحجر من غير فعل إنسان بل بمحض قدرة الله تعالى، كما يفهم من الإصحاح الثاني والثلاثين، كما أسند الكلام إلى الله في قوله: {وبكلامي} [الأعراف: 144].
و{مِنْ} التي في قوله: {من كل شيء} تبعيضية متعلقة بـ {كتبنا} ومفعول {كتبنا} محذوف دل عليه فعل كتبنا أي مكتُوبًا، ويجوز جعل من اسما بمعنى بعض فيكون منصوبًا على المفعول به بكتبنا، أي كتبنا له بعضًا من كل شيء، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل (16): {وأوتينا من كل شيء} وكل شيء عام عمومًا عرفيًا أي كل شيء تحتاج إليه الأمة في دينها على طريقة قوله تعالى: {مَا فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 138] علئى أحد تأويلين في أن المراد من الكتاب القرآن، وعلى طريقة قوله تعالى: {اليوم أكملتُ لكم دينكم} [المائدة: 3] أي أصوله.
والذي كتب الله لموسى في الألواح هو أصول كليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام وهي ما في الإصحاح (20) من سفر الخروج ونصها: أنا الرب إلاهك الذي اخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك ءالهة أخرى أمامي، لا تصنع تمثالًا منحوتًا، ولا صورة مّا مما في السماء، من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبُدْهن لأني أنا الرب إلاهك غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ واصنع إحسانًا إلى ألوف من محِبّيّ وحافظي وصاياي، لا تنطق باسم الرب إلاهك باطلًا لأن الرب لا يبرىء من نطق باسمه باطلًا، اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلاهك لا تصنع عملًا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك واختك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك؛ لأن في ستة أيام صنع الرب السما والأرض والبحر، وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه، أكرم أباك وأمك؛ لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلاهك، لا تقتلْ، لا تزْننِ لا تسرق، لا تشهد، على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئًا مما لقريبك أ هـ، واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر، وبالكلمات العشر أي لجمل العشر.
وقد فصلت في من الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر الخروج، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سينا ووقع في الإصحاح الرابع والثلاثين إن الألواح لم تكتب فيها إلاّ الكلمات العشر، التي بالفقرات السبع عشرة منه، وقوله هنا {موعظة وتفصيلًا} يقتضي الاعتماد على ما في الأصاحيح الثلاثة عشر.
والموعظة اسم مصدر الوعظ وهو نصح بإرشاد مشوب بتحذير من لحاق ضر في العاقبة أو بتحريض على جلب نفع، مغفول عنه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} في سورة البقرة (275)، وقوله: {فأعرض عنهم وعظْهم} في سورة النساء (63)، وسيجيء قوله: {والموعظة الحسنة} في آخر سورة النحل (125).
والتفصيل التبيين للمجملات ولعل الموعظة هي الكلمات العشر والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات التي ذكرناها.
وانتصب {موعظة} على الحال من كل شيء، أو على البدل من من إذا كانت اسمًا إذا كان ابتداء التفصيل قد عَقِبَ كتابة الألواح بما كلمه الله به في المناجاة مما تضمنه سفر الخروج من الإصحاح الحادي والعشرين إلى الإصحاح الثاني والثلاثين ولما أوحي إليه إثر ذلك.
ولك أن تجعل {موعظة وتفصيلًا} حالين من الضمير المرفوع في قوله: {وكتبنا له} أي واعظينَ ومفصلين، فموعظة حال مقارنة وتفصيلًا حال مقدّرة، وأما جعلهما بدلين من قوله: {من كل شيء} فلا يستقيم بالنسبة لقوله: {وتفصيلًا}.
وقوله: {فخذها} يتعين أن الفاء دالة على شيء من معنى ما خاطب الله به موسى، ولما لم يقع فيما وَليتْه ما يصلح لأن يتقرع عنه الأمر بأخذها بقوة.
تعين أن يكون قوله: {فخذها} بدلًا من قوله: {فخذ ما آتيتك} [الأعراف: 144] بدلَ اشتمال لأن الأخذ بقوة يشتمل عليه الأخذ المطلق، وقد اقتضاه العود، إلى ما خاطب الله به موسى إثر صعقته إتمامًا لذلك الخطاب فأعيد مضمون ما سبق ليتصل ببقيته، فيكون بمنزلة أن يقول فخذ ما آتيتك بقوة وكن من الشاكرين، ويكون ما بينهما بمنزلة اعتراض، ولولا إعادة {فخذها} لكان ما بين قوله: {من الشاكرين} [الأعراف: 144] وقوله: {وأمرْ قومك يأخذوا} اعتراضًا على بابه ولمّا اقتضى المقام هذا الفصلَ، وإعادة الأمر بالأخذ، اقتضى حسن ذلك أن يكون في الإعادة زيادة، فأخر مقيّد الأخذ، وهو كونه بقوة، عن التعلق بالأمر الأول، وعلق بالأمر الثاني الرابط للأمر الأول، فليس قوله: {فخذها} بتأكيد، وعلى هذا الوجه يكون نظم حكاية الخطاب لموسى على هذا الأسلوب من نظم القرآن.
ويجوز أن يكون في أصل الخطاب المحكي إعادة ما يدل على الأمر بالأخذ لقصد تأكيد هذا الأخذ، فيكون توكيدًا لفظيًا، ويكون تأخيرُ القيد تحسينًا للتوكيد اللفظي ليكون معه زيادة فائدة، ويكون الاعتراض قد وقع بيْن التوكيد والموكّد وعلى هذا الوجه يكون نظم الخطاب على هذا الأسلوب من نظم الكلام الذي كلّم الله به موسى حكي في القرآن على أسلوبه الصادر به.
والضمير المؤنث في قوله: {فخذها} عائِد إلى الألواح باعتبار تقدم ذكرها في قوله: {وكتبنا له في الألواح}.
والمقول لموسى هو مرجع الضمير، وفي هذا الضمير تفسير للإجمال في قوله: {ما آتيتك} [الأعراف: 144] وفي هذا ترجْيح كون ما صْدَق {ما آتيتك} هو الألواح، وَمن جَعلوا ما صْدَق {ما آتيتك} الرسالةَ والكلامَ جعلوا الفاءَ عاطفة لقول محذوف على جملة {وكتبنا} والتقدير عندهم: وكتبنا فقلنا خُذها بقوة، وما اخترناه أحسن وأوفق بالنظم.
والأخذُ: تناول الشيء، وهو هنا مجاز في التلقي والحفظ.
والباء في قوله: {بقوة} للمصاحبة.
والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتّى له بها أن يعمل ما يشُق عمله في المعتاد فتكون في الأعضاء الظاهرة مثل قُوة اليدين على الصنع الشديد، والرجلْين على المشي الطويل، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة.