فصل: من فوائد أبي حيان في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
يا أيها الناس: خطاب لجميع من يعقل، قاله ابن عباس، أو اليهود خاصة، قاله الحسن ومجاهد، أو لهم وللمنافقين، قاله مقاتل، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم، قاله السّدي، والظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل.
ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤول إليه حال كل منهم، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء، وهو التفات شبيه بقوله: {إياك نعبد} بعد قوله: {الحمد لله رب العالمين} وهو من أنواع البلاغة كما تقدم، إذ فيه هز للسامع وتحريك له، إذ هو خروج من صنف إلى صنف، وليس هذا انتقالًا من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام، كما زعم بعض المفسرين، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزًا في الخطاب بأن يعني به الكلام، فكأنه قال: انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام، قال هذا المفسر، وهذا من أساليب الفصاحة، فإنهم يخصون ثم يعمون.
ولهذا لما نزل: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخص وعم، فقال: «يا عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئًا» وقال الشاعر:
يا بني اندبوا ويا أهل بيتي ** وقبيلي عليّ عامًا فعاما

انتهى كلامه.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا: كل شيء نزل فيه: {يا أيها الناس} فهو مكي، و{يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني.
أما في {يا أيها الذين آمنوا} فصحيح، وأما في {يا أيها الناس} فيحمل على الغالب، لأن هذه السورة مدنية، وقد جاء فيها يا أيها الناس.
وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافًا للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادي توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافًا لأبي عثمان.
وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: يا أيها الرجل، فتقديره: يا من هو الرجل.
والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.
اعبدوا ربكم: ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: {إياك نعبد} والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين.
لا يقال: المؤمنون عابدون، فيكف يصح الأمر بما هم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة، فصح مواجهة الكل بالعبادة، وانظر لحسن مجيء الرب هنا، فإنه السيد والمصلح، وجدير بمن كان مالكًا أو مصلحًا أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها.
والخطاب، إن كان عامًا، كان قوله: {الذي خلقكم} صفة مدح، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره، {أفمن يخلق كم لا يخلق} أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، والتمييز عن غيرهم بالعقل، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب.
وقالوا: المحبة ثلاث، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده، وأدغم أبو عمر وخلقكم، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى.
وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله تعالى، وإذا كان بمعنى التقدير، فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير الله تعالى، كبيت زهير.
وقال تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} {وإذ تخلق من الطين} وقال أبو عبد الله البصري، أستاذ القاضي عبد الجبار: إطلاق اسم الخالق على الله تعالى محال، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال.
وكأنّ أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ} إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله، وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه.
وعطف قوله: {والذين من قبلكم} على الضمير المنصوب في خلقكم، والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان متأخرًا في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة، فتنبيههم أولًا على أحوال أنفسهم آكد وأهم، وبدأ أولًا بصفة الخلق، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها، وهم المخاطبون، والناس تبع لهم، إذ نزل القرآن بلسانهم.
وقرأ ابن السميفع: وخلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل.
وقرأ زيد بن علي: {والذين من قبلكم} بفتح ميم من، قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة ووجهها على أشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدًا، كما أقحم جرير في قوله:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم

تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه.
وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله:
من النفر اللائي الذين أذاهم ** يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا

فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد.
قال أصحابنا: وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه.
وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذا هم، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم.
وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله: {من قبلكم} وفي ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبرًا نحو: نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم.
وهذا نظير قوله تعالى: {كالذين من قبلكم} وإنما ذكر {والذين من قبلكم} وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم، فخلق أصولهم يجري مجرى الأنعام على فروعهم، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد.
وليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والأطماع، وهو بالنسبة إلى المخاطبين، لأن الترجي لا يقع من الله تعالى إذ {هو عالم الغيب والشهادة} وهي متعلقة بقوله: {اعبدوا ربكم} فكأنه قال: إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة.
قال ابن عطية: ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقيًا.
ولم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم، قال: لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة، لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، وهم مختارون بين الطاعة، والعصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، انتهى كلامه.
وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين.
والذي يظهر ترجيحه أن يكون: {لعلكم تتقون} متعلقًا بقوله: {اعبدوا ربكم}.
فالذي نُودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة.
وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها.
وإذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره، بخلاف قوله: {اعبدوا} فإنها الجملة المفتتح بها أولًا والمطلوبة من المخاطبين.
وإذا تعلق بقوله: {اعبدوا} كان ذلك موافقًا، إذ قوله: {اعبدوا} خطاب، ولعلكم تتقون خطاب.
ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال: فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبهلم، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم، قلت: لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعًا، انتهى كلامه.
وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله: {اعبدوا} فيسقط هذا السؤال.
وقال المهدوي: لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من درأه الله عز وجل لجهنم لم يخلقه ليتقي.
والمعنى عند سيبويه: افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا، انتهى كلامه.
ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقًا بالخلق قال: فإن قلت: فهلا قيل: تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم؟ قلت: ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده، فإذا قال: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزامًا لها وأثبت لها في النفوس، انتهى كلامه.
وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى، وقد تقدم ذلك.
وأما قوله: ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى: اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى، إذ هو مثل: اضرب زيدًا لعلك تضربه، واقصد خالدًا لعلك تقصده.
ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى، والقرآن متنزه عن ذلك.
والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم، لأن التقوى مصدر اتقى، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة.
فعلى هذا، العبادة ليست نفس التقوى، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار، والعبادة فعل المأمور به، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز، فكأنه قال: اعبدوه فتحترزوا عن عقابه، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز، ومفعول يتقون محذوف.
قال ابن عباس: الشرك، وقال الضحاك: النار، أو معناه تطيعون، قاله مجاهد: ومن قال المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى.
قال بعض المفسرين: فيه بعد من حيث إنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها، والواقع خلاف ذلك، انتهى كلامه.
ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجون للتقوى لكان ذلك مركوزًا في جبلتهم، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك، بل المعاصي هي الواقعة كثيرًا، وهذا ليس كما ذكر، وقد يخلق الإنسان راجيًا لشيء فلا يقع ما يرجوه، لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيار فيما يفعله أو يتركه، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله، ولقد صدق الشاعر في قوله:
علمي بقبح المعاصي حين أركبها ** يقضي بأني محمول على القدر

فلا يلزم من رجاء الإنسان لشيء وقوع ما يرتجي، وإنما امتنع ذلك التقدير، أعني تقدير الحال، من حيث إن لعل للإ نشاء، فهي وما دخلت عليه ليست جملة خبرية فيصح وقوعها حالًا.
قال الطبري: هذه الآية، يريد: {يا أيها الناس اعبدوا} من أدلّ دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، وذلك أن الله عز وجل أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} إثرَ ما ذكر الله تعالى من علو طبقة كتابه الكريم وتحزُّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرقٍ: مؤمنةٍ به محافظةٍ على ما فيه من الشرائع والأحكام. وكافرةٍ قد نبذتْه وراءَ ظهرِها بالمجاهرة والشقاق، وأخرى مذبذبةٍ بينهما بالمخادعة والنفاق، ونعْتِ كل فرقةٍ منها بما لَها من النعوت والأحوال وبين ما لهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزًا لهم إلى الإصغاء وتوجيهًا لقلوبهم نحو التلقي، وجبرًا لما في العبادة من الكُلفة بلذة الخطاب، فأمرهم كافةً بعبادته ونهاهم عن الإشراك به، ويا: حرفٌ وضع لنداء البعيد، وقد ينادى به القريبُ تنزيلًا له منزلةَ البعيد إما إجلالًا كما في قول الداعي: يا ألله ويا ربِّ، وهو أقربُ إليه من حبل الوريد استقصارًا لنفسه واستبعادًا لها من محافل الزلفى ومنازلِ المقربين، وإما تنبيهًا على غفلته وسوءِ فهمِه وقد يُقصد به التنبيهُ على أن ما يعقبُه أمرٌ خطير يعتنى بشأنه، وأي اسمٌ مبهمٌ جعل وصلُه إلى نداء المعرف باللام لا على أنه المنادى أصالةً بل على أنه صفةٌ موضحة له مُزيلة لإبهامه، والتُزم رفعُه مع انتصاب موصوفه محلًا إشعارًا بأنه المقصود بالنداء. وأُقحمَتْ بينهما كلمةُ التنبيه تأكيدًا لمعنى النداء وتعويضًا عما يستحقه أي من المضاف إليه، ولِما ترى من استقلالِ هذه الطريقة بضروبٍ من أسباب المبالغةِ والتأكيد كثُر سلوكُها في التنزيل المجيد، كيف لا وكلُّ ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوبٌ جليلةٌ حقيقةٌ بأن تقشعِرَّ منها الجلودُ وتطمئنَّ بها القلوبُ الأبية، ويتلَقَّوْها بآذانٍ واعية، وأكثرهم عنها غافلون، فاقتضى الحالُ المبالغةَ والتأكيدَ في الإيقاظ والتنبيه والمرادُ بالناس كافةُ المكلفين الموجودين في ذلك العصر، لما أن الجموعَ وأسماءَها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناءِ منها والتأكيدِ بما يفيد العمومَ كما في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} واستدلالِ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعًا ذائعًا، وأما مَنْ عداهم ممن سيوجد منهم فغيرُ داخلين في خطاب المشافهة، وإنما دخولُهم تحت حُكْمِه لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم، ضرورةَ أن مقتضى خطابه وأحكامِه شاملٌ للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة، ولا يَقدح في العموم ما رُوي عن علقمةَ والحسنِ البصري من أن كلَّ ما نزل فيه {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} فهو مكي، إذ ليس من ضرورة نزولِه بمكة شرفها الله تعالى اختصاصُ حُكمِه بأهلها ولا من قضية اختصاصِه بهم اختصاصُه بالكفار، إذ لم يكن كلُّ أهلها حينئذٍ كفرةً، ولا ضيرَ في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمورَ به القدرُ المشترك الشاملُ لإنشاء العبادةِ والثباتِ عليها والزيادةِ فيها، مع أنها متكررة حسب تكررِ أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعني الإيمان لأن الأمرَ بها منتظِمٌ للأمر بما لا تتم إلا به وقد عُلم من الدين ضرورةً اشتراطُها به فإن أمرَ المحْدِث بالصلاة مستتبع للأمرِ بالتوضّي لا محالة.
وقد قيل: المراد بالعبادة ما يعُمّ أفعالَ القلبِ أيضًا لما أنها عبارةٌ عن غاية التذلُّلِ والخضوعِ. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كل ما ورد في القرآن من العبادات فمعناها التوحيد، وقيل معنى اعبدوا: وحِّدوا وأطيعوا، ولا شك في كون بعضٍ من الفِرْقتين الأخيرتين ممن لا يُجدي فيهم الإنذارُ بموجب النصِّ القاطعِ، لما أن الأمرَ لقطع الأعذار ليس فيه تكليفُهم بما ليس في وُسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلًا، إذ لا قطعَ لأحدٍ منهم بدخوله في حكم النص قطعًا، وورد النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا أن كونَهم كذلك لورود النص بذلك، فلا جبر أصلًا.
نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجهٌ لطيفٌ ستقف عليه عند قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الأمرِ بالإشعار بعلّيتها للعبادة {الذى خَلَقَكُمْ} صفة أُجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل إثرَ التعليل وقد جُوِّز كونُها للتقييد والتوضيح بناءً على تخصيص الخطاب بالمشركين، وحملِ الربِّ على ما هو أعمُّ من الرب الحقيقي، والآلهة التي يسمونها أربابًا، والخلق إيجاد الشيء على تقديرٍ واستواءٍ، وأصله التقدير، يقال: خلق النعلَ أي قدَّرها وسواها بالمقياس، وقرئ خلقكم بإدغام القاف في الكاف {والذين مِن قَبْلِكُمْ} عطفٌ على الضمير المنصوب ومتممٌ لما قصد من التعظيم والتعليل، فإن خلقَ أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم، ومن ابتدائية متعلقةٌ بمحذوف أي كانوا من زمان قبلَ زمانكم، وقيل: خلقَهم من قبلِ خلقِكم فحُذف الخلقُ وأقيم الضميرُ مُقامَه، والمرادُ بهم مَنْ تقدّمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عمومِ الخطابِ بيانُ شمولِ خلقِه تعالى للكل، وتخصيصُه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرضِ لخلقِ مَنْ عداهم من معاصريهم، وإخراجُ الجملةُ مُخرجَ الصلةِ التي حقُها أن تكون معلومةَ الانتساب إلى الموصول عندهم أيضًا مع أنهم غيرُ معترفين بغاية الخلق وإن اعترفوا بنفسه كما ينطِق به قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} للإيذان بأن خلقهم للتقوى من الظهور بحيث لا يتأتى لأحدٍ إنكارُه، وقرئ وخلق مَنْ قبلَكم، وقرئ والذين مَنْ قبلكم بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته توكيدًا كإقحام اللام بين المضافين في لا أبا لك، أو بجعله موصوفًا بالظرف خبرًا لمبتدأ محذوف، أي الذين هم أناس كائنون من قبلكم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاءُ توقع أمرٍ مترددٍ بين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول إما محبوبٍ فيسمى ترجيًا، أو مكروهٍ فيسمَّى إشفاقًا، وذلك المعنى قد يعتبر تحققُه بالفعل إما من جهة المتكلم كما في قولك: لعل الله يرحمني وهو الأصلُ الشائعُ في الاستعمال.
لأن معانيَ الانشاءاتِ قائمةٌ به وإما من جهة المخاطب تنزيلًا له منزلةَ المتكلم في التلبّس التام بالكلام الجاري بينهما، كما في قوله سبحانه: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} وقد يعتبر تحققُه بالقوة بضربٍ من التجوز إيذانًا بأن ذلك الأمرَ في نفسه مَئنّةٌ للتوقع متصفٌ بحيثية مصححةٍ له من غير أن يعتبر هناك توقعٌ بالفعل من متوقَعٍ أصلًا.
فإن روعِيَتْ في الآية الكريمة جهةُ المتكلم يستحيلُ إرادةُ ذلك المعنى لامتناع التوقعِ من علاّم الغيوب عز وجل فيُصار إما إلى الاستعارة بأن يُشبَّه طلبُه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنةً لها لتعاضُد أسبابها برجاء الراجي من المرجوَّ منه أمرًا هيِّنَ الحصول في كون متعلَّقِ كلَ منهما مترددًا بين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول، فيستعار له كلمةُ لعل استعارةً تبعية حرفيةً للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقُربِ المطلوب من الوقوع، وإما إلى التمثيل بأن يلاحَظَ خلقُه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبُه إياها منهم وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها، ويُنتزَعُ من ذلك هيئةٌ فتُشبَّه بهيئةٍ منتزعة من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئًا سهلَ المنال، فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية، فيكون هناك استعارةٌ تمثيلية قد صُرِّح من ألفاظها بما هو العُمدة في انتزاع الهيئةِ المشبَّه بها أعني كلمةَ الترجي، والباقي منويٌّ بألفاظٍ متخيَّلة بها يحصُل التركيبُ المعتبرُ في التمثيل كما مر مرارًا، وأما جعلُ المشبهِ إرادتَه تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمرٌ مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزال القائلة بجواز تخلّفِ المراد عن إرادتِه تعالى، فالجملةُ حالٌ إما من فاعل خلقكم أي طالبًا منكم التقوى أو من مفعوله، وما عُطف عليه بطريق تغليبِ المخاطبين على الغائبين، لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوبًا منكم التقوى، أو علةٌ له، فإن خلقَهم على تلك الحال في معنى خلقِهم لأجل التقوى، كأنه قيل: خلقكم لتتقوا، أو كي تتقوا، إما بناءً على تجويز تعليلِ أفعاله تعالى بأغراضٍ راجعةٍ إلى العباد كما ذهب إليه كثيرٌ من أهل السنة، وإما تنزيلًا لترتُّب الغاية على ما هي ثمرةٌ له منزلةَ ترتبِ الغرض على ما هو غرضٌ له، فإن استتباعَ أفعاله تعالى لغاياتِ ومصالحَ متقنةٍ جليلة من غير أن تكون هي علةٌ غائيةٌ لها بحيث لولاها لما أَقدَم عليها مما لا نزاع فيه، وتقييدُ خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عِلّيته للمأمورِ به وتأكيدِها، فإن إتيانَهم بما خُلقوا له أدخَلُ في الوجوب، وإيثارُ تتقون على تعبُدون مع موافقته لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} للمبالغة في إيجابِ العبادةِ والتشديدِ في إلزامها، لما أن التقوى قُصارى أمرِ العابد ومنتهى جُهده، فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزمَ، والإتيانُ به أهونَ.
وإن روعيت جهةُ المخاطبِ فلعل في معناها الحقيقي، والجملة حالٌ من ضمير اعبدوا، كأنه قيل: اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زُمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح.