فصل: الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ الْخَاتِمَةُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



نَعَمْ إِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ قَرَّرُوا أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ لَا الْمُسْتَحِيلَاتِ، فَوَرَدَ نَظَائِرُهَا فِي أَخْبَارِ الْآخِرَةِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي الدِّينِ شَيْئًا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ بِالْبُرْهَانِ، وَلَكِنَّ جَمَاهِيرَ الْكُفَّارِ بِالرُّسُلِ لَمْ تَسْتَطِعْ عُقُولُهُمْ تَصَوُّرَهَا، وَلَا التَّصْدِيقَ بِهَا- بَلْ نَرَى ضُعَفَاءَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ يَظُنُّونَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ كِتَابِ الْوَابِلِ الصَّيِّبِ أَنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي لَا تَتَّفِقُ مَعَهُمَا إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ- لِأَجْلِ هَذَا عَلَّقْنَا عَلَيْهِ الْحَاشِيَةَ الْوَجِيزَةَ الْمُثَبَّتَةَ مَعَهُ هُنَا عِنْدَ طَبْعِ الْكِتَابِ فِي مَجْمُوعَةِ الْحَدِيثِ النَّجْدِيَّةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مُنْتَهَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا، وَيُبْطِلُ قَاعِدَةَ الْمُتَأَوِّلَةِ فِي جَعْلِ نَظَرِيَّاتِ أَفْكَارِهِمْ وَمَأْلُوفَاتِ عُقُولِهِمْ وَقَضَايَا مَعْلُومَاتِهِمُ الْكَلَامِيَّةِ الْقَلِيلَةِ أَصْلًا تَرْجِعُ إِلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ اطَّلَعُوا عَلَى هَذِهِ الْحَاشِيَةِ فِي مَجْمُوعِ الْحَدِيثِ لَمْ يَفْهَمُوهَا فَاضْطَرَبُوا فِيهَا وَلَهُمُ الْعُذْرُ، فَإِنَّهَا عَلَى غَرَابَةِ مَوْضُوعِهَا وَجِيزَةٌ لَمْ تُوَضِّحِ الْمَقَامَ لِأَمْثَالِهِمْ كَمَا كَانَ يَجِبُ، وَلَكِنْ لَهَا فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْمَبَاحِثِ فِي رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَعَالَى نَظَائِرُ تُغْنِي مَنِ اسْتَحْضَرَهَا عَنِ الْإِيضَاحِ، وَلَا بَأْسَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةٍ فِيهِ، وَإِنَّهُ لَمْ تَخْلُ مِنْ تَكْرَارٍ لِبَعْضِ الْقَضَايَا.
تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِ شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ مِنْهَا ظَوَاهِرَهَا وَبَعْضَ خَوَاصِّهَا، وَسُنَنَ الْخَالِقِ فِيهَا فَهُمْ أَوْلَى بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ سُبْحَانَهُ وَعَرَفُوا صِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي خَلْقِهِ وَآيَاتِهِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُنْزِلَةِ عَلَى رُسَلِهِ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ، فَهُوَ تَعَالَى ظَاهِرٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَبَاطِنٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَجْبِ عَبْدِهِ بِهِ عَنْهُ.
إِنَّ اشْتِغَالَ الْعَبْدِ بِشُئُونِ الْخَلْقِ يَحْجُبُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَعَنْ مُرَاقَبَتِهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ وَعَنْ شُكْرِهِ إِذَا هُوَ اشْتَغَلَ بِهَا لِذَاتِهَا، وَمَا لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْعَاجِلَةِ فِيهَا، كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ لِمَعْرِفَتِهِ وَوَسَائِلُ لِمُرَاقَبَتِهِ وَبَوَاعِثُ لِعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ إِذَا هُوَ نَظَرَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِنَّ تَجَلِّيَهُ سُبْحَانَهُ لِلْأَبْرَارِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ بِقَدْرِ هَذَا، كَمَا أَنَّ حَجْبَ الْفُجَّارِ عَنْهُ يَكُونُ بِقَدْرِ مُقَابَلَةِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُ جَزَاءًا وِفَاقًا فَسِعَةُ الْعِلْمِ بِالْكَوْنِ وَسُنَنِهِ وَنِظَامِهِ وَمَنَافِعِهِ قَدْ تَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ سِعَةِ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْكَمَالِ الَّذِي يُقَرِّبُ مِنْهُ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَسَبَابِ الْجَهْلِ بِاللهِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ عَرَفُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَضْعَافَ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَسْرَارِ هَذَا الْعَالَمِ قَدْ نَظَرُوا فِيهِ بِنُورِ اللهِ وَاهْتَدَوْا فِي مَبَاحِثِهِمْ بِهِدَايَةِ وَحْيِهِ لَوَصَلُوا إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْكَمَالِ عَلَى أَنَّ ارْتِقَاءَهُمْ فِي الْأَسْبَابِ وَنَجَاحَهُمُ الْمُتَّصِلَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِ الْعَالَمِ لابد أَنْ يَنْتَهِيَا بِهِمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِي آخِرِ كُتُبِهِ لِلْبَشَرِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ لَهُمْ، كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوْلَمَ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (41: 53، 54).
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ سَيَجِدُونَ فِي حَقَائِقِ الْعُلُومِ الَّتِي يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا بِاتِّصَالِ أَبْحَاثِهِمْ وَتَتَابُعِهَا مِصْدَاقًا لِهَذَا الْكِتَابِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِهِ الْمُقَيَّدُونَ بِنَظَرِيَّاتِ عُقُولِهِمُ الْقَاصِرَةِ وَعُلُومِهِمُ النَّاقِصَةِ، كَالْأَرْوَاحِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَتَمَثُّلِهِمْ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَجِلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ أَنْفُسِهِمْ، وَارْتِقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ الَّتِي كَانَتْ تَحْجُبُهُمْ عَنْهُ، وَأَنَّ فِيمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ الْيَوْمَ مَا يَقْرِّبُ ذَلِكَ مِنَ الْمَدَارِكِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَشْغَلُ هَؤُلَاءِ الْبَاحِثِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ مَسْأَلَةُ بَدْءِ الْخَلْقِ كَيْفَ كَانَ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ وَقَدْ سَبَقَ لَهُمْ أَنْ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ السَّابِحَةَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ كَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً سَدِيمِيَّةً تُشْبِهُ الدُّخَانَ فَانْفَتَقَتْ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَكَانَتْ أَجْرَامًا مُتَعَدِّدَةً- وَقَدْ جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ بِقُرُونٍ وَأَجْيَالٍ كَثِيرَةٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ اهْتَدَوْا فِي هَذَا الْجَبَلِ إِلَى أَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْمَادَّةِ الَّتِي انْفَتَقَ رَتْقُهَا بِمَا ذَكَرَ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ عَشَرَاتِ الْعَنَاصِرِ- قَدْ كَانَ مَصْدَرُهَا هَذِهِ الْكَهْرُبَاءَ الَّتِي دَخَلَتْ بِهَا عُلُومُ الْبَشَرِ وَأَعْمَالُهُمْ فِي طَوْرٍ غَرِيبٍ عَجِيبٍ، وَلَا تَزَالُ عَجَائِبُهَا كُلُّ يَوْمٍ فِي ازْدِيَادٍ.
وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْحَاشِيَةِ الَّتِي عَلَّقْنَاهَا عَلَى عِبَارَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي النُّورِ هِيَ مَا ذَكَرَهُ أَخِيرًا مِنْ أَنَّ لِلْكَهْرُبَائِيَّةِ دَقَائِقَ- أَوْ ذَوَاتٍ أَوْ ذُرَيْرَاتٍ أَوْ جَوَاهِرَ فَرْدَةً- مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا سُمَّوْهَا الْإِلِكْتِرُونَاتِ وَرَجَّحُوا أَنَّهَا هِيَ قَوَامُ كُلِّ جَوَاهِرِ الْمَادَّةِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا بِنَاءُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَنَّ اهْتِزَازَ هَذِهِ الذَّرَّاتِ أَوِ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ هُوَ سَبَبُ طَيْفِ النُّورِ، وَأَنَّ لَهُ اهْتِزَازَاتٍ مُخْتَلِفَةً، وَأَنَّهَا هِيَ مَنْشَأُ تَغَيُّرِ الْعَنَاصِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكِيمْائِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ قَرَّرُوا الْقَوْلَ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّ حَرَكَةَ الْمَادَّةِ هِيَ سَبَبُ جَمِيعِ التَّغَيُّرَاتِ وَالتَّطَوُّرَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، إِذْ هِيَ مَنْشَأُ النُّورِ وَالْحَرَارَةِ الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا تُحَوِّلُ الْجَوَامِدَ إِلَى مَائِعَاتٍ وَالْمَائِعَاتِ إِلَى غَازَاتٍ، فَالظَّاهِرُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَهْرُبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ لِكُلِّ الْكَائِنَاتِ الَّتِي تُقَدَّرُ مِسَاحَتُهَا بِحَسَبِ بَعْضِ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِلْيُونَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي النُّورِ، وَهُوَ يَقْطَعُ فِي الثَّانِيَةِ 186330 مِيلًا فِي أَقْرَبِ تَقْدِيرٍ وَأَحْدَثِهِ، وَفِي الدَّقِيقَةِ 7179800 وَفِي السَّاعَةِ أَيْ: أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ مِلْيُونَ مِيلٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ مِيلٍ فَكَمْ يَقْطَعُ فِي الْيَوْمِ، ثُمَّ كَمْ يَكُونُ فِي السَّنَةِ؟ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (17: 58).
إِنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ أَسْرَارِ الْقُوَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ إِلَى الْآنِ يَقْرُبُ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ كَمَا قَالُوا: مَنْشَأُ التَّكْوِينِ وَالتَّطَوُّرِ فِي عَالَمِ الْإِمْكَانِ بِسُرْعَةِ حَرَكَتِهَا وَكَوْنِهَا مَصْدَرُ النُّورِ، فَارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ بِهَا، وَانْتِظَامُهُ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا مَعْقُولٌ، وَأَمَّا تَوَلُّدُ الْعَنَاصِرِ مِنْهَا وَتَجَمُّعُهَا وَصَيْرُورَتُهَا سَدِيمًا كَالدُّخَانِ أَوِ الْغَمَامِ أَوْ بُخَارِ الْمَاءِ فَهُوَ طَوْرٌ ثَانٍ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَوَلُّدِ بَعْضِ عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ مِنْ بَعْضٍ وَارْتِقَاءِ ذَلِكَ فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى جَوَاهِرِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ الْفَرْدَةِ فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْكَهْرُبَاءَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمَادَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ آخِرَ حِجَابٍ مَادِيٍّ مِمَّا حَالَ بَيْنَ الْمَادِّيِّينَ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا انْكَشَفَ هَذَا الْحِجَابُ، وَانْتَهَى بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِالرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْمَعْرِفَةِ.
وَلَكِنَّ الْحُجُبَ كَثِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَوْنُ الْكَهْرُبَاءِ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمَادَّةِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ الْآنَ، فَهِيَ بِاعْتِرَافِهِمْ مُرَكَّبَةٌ، وَمُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُوجَبَةٍ وَسَالِبَةٍ، وَآثَارُهَا مِنْ إِثَارَةِ الْحَرَكَةِ وَتَوْلِيدِ النُّورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّمَا تَكُونُ بِاقْتِرَانِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجَبِ وَالسَّالِبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مَادِّيٍّ آخَرَ، أَوْ بِسَبَبٍ رُوحِيٍّ سَابِقٍ عَلَيْهَا فِي الْخَلْقِ وَرُؤْيَتِهِ كِفَاحًا بِدُونِ حِجَابٍ أَلْبَتَّةَ- فَهَذَا مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَاشِيَةِ مِنَ التَّقْرِيبِ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ فِي الْحُجُبِ، وَمِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، وَلَكِنْ كَانَ مِنَ السَّهْوِ جَعَلْنَا إِيَّاهَا عَلَى إِجْمَالِهَا وَإِبْهَامِهَا فِي مَجْمُوعَةِ الْحَدِيثِ النَّجْدِيَّةِ، وَأَكْثَرُ قُرَّائِهَا لَا إِلْمَامَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي يَسْتَغْنُونَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ فِيهِ بِهَدْيِ السَّلَفِ، وَتَكَرَّرَ التَّنْبِيهُ فِيهِمَا عَلَى أَنَّنَا إِنَّمَا نَذْكُرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمَنَارِ وَفِي تَفْسِيرِهِ لِتَقْرِيبِ مَعَانِي النُّصُوصِ مِنْ عُقُولِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى هَذِهِ الْعُلُومِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الْمَفْتُونِينَ بِهَا، فَإِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبْعَدَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ مَأْلُوفِ الْبَشَرِ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ يَتَّفِقُ مَعَ أَحْدَثِ مَا قَرَّرَهُ الْعِلْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّجَارِبِ وَالْبَحْثِ الْعَمَلِيِّ، فَالْمَرْجُوُّ أَنْ يَكُونَ أَجْذَبَ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا يَكْثُرُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَمِنْهُ مَا صَارَ حَقَائِقَ وَاقِعَةً، وَمِنْهُ مَا قَرُبَ مِنْهَا حَتَّى وَرَدَتِ الْأَنْبَاءُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ الْعِلَاجِ بِالْكَهْرُبَائِيَّةِ يُعِيدُ إِلَى الشُّيُوخِ قُوَّةَ الشَّبَابِ وَنَضَارَتِهِ، وَذَلِكَ بِقُرْبِ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ شَبَابٌ لَا يَهْرَمُونَ، وَسَنُقَرِّبُ مَسْأَلَةَ الرُّؤْيَةِ بِأَوْضَحِ مِثَالٍ فِي بَحْثِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَقَدْ صَرَّحْنَا مِرَارًا بِأَنَّ كُلَّ مَا نُورِدُهُ مِنْ تَقْرِيبٍ وَتَأْلِيفٍ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَمِنْ تَفْسِيرٍ أَوْ تَأْوِيلٍ لِرَدِّ شُبَهَاتِ الزَّائِغِينَ، فَإِنَّنَا لَا نَخْرُجُ بِهِ عَنْ قَاعِدَتِنَا فِي الْمُعْتَقَدِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَنَا فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْفَضَائِلِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ.
وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَحْثٌ مِثْلُ بَحْثِنَا هَذَا عَلَى قَاعِدَتِنَا هَذِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (2: 210) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي، بَعْضُهُ لَنَا وَبَعْضُهُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَيُرَاجَعْ فِي- ص 209- 213 ج2 ط الْهَيْئَةِ.
تَنْبِيهٌ:
إِنَّ إِدْخَالَ مَبَاحِثِ عُلُومِ الْكَوْنِ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ مِنْ أَهَمَّ أَرْكَانِهِ، وَالْعَمَلُ بِهُدَى الْقُرْآنِ فِيهِ، فَهُوَ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَكَانَ سَلَفُنَا مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ يَذْكُرُونَ مَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَكَذَا مَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى الَّذِينَ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمْ وَلَا رِوَايَتِهِمْ، وَهُوَ مَا يَنْتَقِدُ عَلَيْهِمْ.

.الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ الْخَاتِمَةُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ:

خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ أَنَّ رُؤْيَةَ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ، وَأَنَّهُمْ أَعْلَى وَأَكْمَلُ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الَّذِي يَرْتَقِي إِلَيْهِ الْبَشَرُ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَأَنَّهَا أَحَقُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (32: 17) وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وَأَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُهُمْ وَهِيَ أَنَّهَا رُؤْيَةٌ بِلَا كَيْفٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اضْطِرَابُ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ فِي النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي نَفْيِهَا وَإِثْبَاتِهَا، سَوَاءً مِنْهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَسَاطِينُ الْبَيَانِ، وَنُظَّارُ الْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ، وَرُوَاةُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَمُرْتَاضُو الصُّوفِيَّةِ وَأُولُو الْكَشْفِ وَالْإِلْهَامِ، فَلَمْ تَتَّفِقْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلٍ فَصْلٍ قَطْعِيٍّ تُقْنِعُ بِهِ بَقِيَّةَ الطَّوَائِفِ بِدَلِيلِهَا اللُّغَوِيِّ أَوِ الْأُصُولِيِّ أَوِ الْعَقْلِيِّ أَوْ فَهْمُ النَّصِّ النَّقْلِيِّ أَوْ تَسْلِيمِ إِلْهَامِهَا الْكَشْفِيِّ، وَلَكِنْ مَنْ نَظَرَ فِي جَمِيعِ مَا قَالُوهُ نَظْرَ اسْتِقْلَالٍ وَإِنْصَافٍ يَجْزِمُ بِأَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ إِثْبَاتِ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ بِهِ النَّقْلُ، وَتَفْوِيضِ تَأْوِيلِهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ وَيُؤَيِّدُهُ الْعِلْمُ وَالْعَقْلُ، فَهُوَ الْأَسْلَمُ وَالْأَحْكَمُ وَالْأَعْلَمُ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

.خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ:

اضْطَرَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ كَمَا اضْطَرَبُوا فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِهِ وَشُئُونِهِ فَذَهَبَ الَّذِينَ بَنَوْا قَوَاعِدَ عَقَائِدِهِمْ عَلَى اقْتِضَاءِ التَّنْزِيهِ لِلتَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَلِهَذَا قَالُوا إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَالْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَهُوَ مِثْلُهُ لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ، إِذْ مِنَ الْعُلُومِ بِدَلِيلِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ أَنَّ الْخَالِقَ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فَلَا نُعِيدُهُ وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا نَكْتُبُ شَيْئًا نُقَرِّبُ بِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْأَفْهَامِ، بَعْدَ تَفْنِيدِ تَقَالِيدِ عِلْمِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مُتَكَلِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ قَدْ عَقَّدُوهَا تَعْقِيدًا شَدِيدًا بِمَا حَاوَلُوا بِهِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ نُصُوصِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَنَظَرِيَّاتِ الْعَقْلِ بِقَوْلِهِمْ: إِنِ الْكَلَامَ نَفْسِيٌّ وَلَفْظِيٌّ، فَالْأَوَّلُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ تُؤَدَّى بِاللَّفْظِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ الَّتِي تُكْتَبُ بِالْقَلَمِ، وَكُلٌّ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي تُكَيِّفُهَا الْأَصْوَاتُ حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، قَالُوا: وَإِنَّمَا مَنَعَ السَّلَفُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُسَمَّى كَلَامَ اللهِ بِمَعْنَى دَلَالَتِهِ عَلَى صِفَةِ اللهِ الْقَدِيمَةِ، فَلِهَذَا الِاشْتِرَاكِ يُخْشَى أَنْ يُفْضِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ الْمَلْفُوظَةِ وَالْمَكْتُوبَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةِ مَخْلُوقٌ.