فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

{وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً}.
روي أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشر بعدها هي العشر الأول من ذي الحجة، وذلك تفصيل الأربعين المذكورة في البقرة {ميقات رَبِّهِ} أي ما وقت له من الوقت لمناجاته في الطور {اخلفني} أي كن خليفتي على بني إسرائيل مدة مغيبي {قَالَ رَبِّ أرني} لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها كما قال الشاعر:
وأفرح ما يكون الشوق يومًا ** إذا دنت الديار من الديار

واستدلت الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة عقلًا، وأنها لو كانت محالًا لم يسألها موسى، فإن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل، وتأول الزمخشري طلب موسى للرؤية بوجهين: أحدهما أنه إنما سأل ذلك تبكيتا لمن خرج معه من بني إسرائيل الذين طلبوا الرؤية {فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153]؛ فقال موسى ذلك ليسمعوا الجواب بالمنع فيتأولوا، والآخر أن معنى أرني أنظر إليك: عرفني نفسك تعريفًا واضحًا جليًا وكلا الوجهين بعيد، والثاني أبعد وأضعف، فإنه لو لم يكن المراد الرؤية لم يقل له أنظر إلى الجبل الآية: {قَالَ لَن تَرَانِي} قال مجاهد وغيره: إن الله قال لموسى لن تراني، لأنك لا تطيق ذلك، ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ، فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت، وإن لم يطق الجبل فأحرى ألا تطيق أنت، فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالًالموسى، وقال قوم: المعنى سأتجلى لك على الجبل وهذا ضعيف يبطله قوله: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} فإذا تقرر هذا، فقوله تعالى: {لن تراني} نفي للرؤية، وليس فيه دليل على أنها محال، فإنه إنما جعل علة النفي عدم إطاقة موسى الرؤية لا استحالتها، ولو كانت الرؤية مستحيلة، لكان في الجواب زجر وإغلاظ كما قال الله لنوح: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46]، فهذا المنع من رؤية الله إنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك، وأما في الآخرة، فقد صرح بوقوع الرؤية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا ينكرها إلا مبتدع، وبين أهل السنة والمعتزلة في مسألة الرؤية تنازع طويل، وفي هذه القصة قصص كثيرة تركتها لعدم صحتها، ولما فيه من الأقوال الفاسدة {جَعَلَهُ دَكًّا} أي مدكوكًا فهو مصدر بمعنى مفعول كقولك: ضربت الأمير، والدك والدق: أخوان، وهو التفتت، وقرئ: {دكاء} بالمد والهمز أي أرضًا دكا وقيل ذهب أعلى الجبل وبقي أكثره، وقيل تفتت حتى صار غبارًا، وقيل ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} أي مغشيًا عليه {تُبْتُ إِلَيْكَ} معناه تبت من سؤال الرؤية في الدنيا وأنا لا أطيقها {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} أي أول قومه أو أهل زمانه، أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان {اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وبكلامي} هو عموم يراد به الخصوص، فإنّ جميع الرسل قد شاركوه في الرسالة، واختلف هل كلم الله غيره من الرسل أم لا، والصحيح: أنه كلم نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} تأديبًا أي اقنع بما أعطيتك من رسالتي وكلامي ولا تطلب غير ذلك {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح} أي ألواح التوراة وكانت سبعة، وقيل: عشرة وقيل: اثنان وقيل: كانت من زمردة وقيل: من ياقوت، وقيل: من خشب {مِن كُلِّ شَيْءٍ} عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجون إليه في دينهم، وكذلك {وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}، وموضع كل شيء نصب على أنه مفعول كتبنا، وموعظة بدل منه {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي بجدّ وعزم، والضمير للتوراة {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو، وكذلك سائر المباحات من المندوبات {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} أي دار فرعون وقومه وهو مصر، ومعنى أريكم كيف اقفرت منهم لما هلكوا، وقيل: منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدّمة ليعتبروا بها، وقيل: جهنم، وقرأ ابن عباس: سأورثكم بالثاء المثلثة من الوراثة، وهي على هذا مصدر لقوله وأورثناها بني إسرائيل.
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض} الآيات: يحتمل هنا أن يراد بها القرآن وغيره من الكتب أو العلامات والبراهين، والصرف يراد به حدّهم عن فهمها وعن الإيمان بها عقوبة لهم على تكبرهم، وقيل: الصرف منعهم من إبطالها.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}.
{وَلِقَاءِ الآخرة} يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي: ولقاؤهم الآخرة، أو من إضافة المصدر إلى الظرف. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة}.
نكلمه عند انتهائها بأن يصوم أيامها، روي أنّ موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك سأل ربه فأمر بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فصامه فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوّك فقالت الملائكة: كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، وقيل: أوحى الله تعالى إليه أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فأمره الله تعالى بعشرة أخرى ليكلمه الله بخلوف فمه كما قال تعالى: {وأتممناها بعشر} أي: من ذي الحجة {فتم ميقات ربه} أي: وقت وعده بتكليمه إياه {أربعين ليلة} وقيل: أمره أن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصلها هنا، وقرأ أبو عمرو وعدنا بغير ألف قبل العين والباقون بألف.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} مع أن كل أحد يعلم أنّ الثلاثين مع العشر تكون أربعين؟
أجيب: بأنه تعالى إنما قال: {أربعين ليلة} إزالة لتوهم أنّ ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإيهام.
تنبيه: الفرق بين الميقات والوقت:
أنّ الميقات ما قدّر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت للشيء قدره مقدّر أم لا وقوله تعالى: {أربعين} نصب على الحال أي: تمّ بالغًا هذا العدد وليلة نصب على التمييز {وقال موسى لأخيه} وقوله: {هرون} عطف بيان لأخيه أي: قال له عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة: {اخلفني} أي: كن خيلفتي {في قومي وأصلح} أي: ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحًا {ولا تتبع سبيل المفسدين} أي: ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
فإن قيل: إنّ هارون كان شريك موسى عليهما السلام في النبوّة فكيف جعله خليفة لنفسه فإنّ شريك الإنسان أعلى حالًا من خليفته، وردّ الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدون يكون إهانة له؟
أجيب: بأنّ الأمر وإن كان كما ذكر إلا أنّ موسى عليه السلام كان هو الأصل في تلك النبوّة.
فإن قيل: لما كان هارون نبيًا والنبيّ لا يفعل إلا الإصلاح فكيف وصى إليه بالإصلاح؟
أجيب: بأنّ المقصود من هذا الأمر التأكيد كقول الخليل: {ولكن ليطمئن قلبي} البقرة.
{ولما جاء موسى لميقاتنا} أي: للوقت الذي وعدناه للكلام فيه {وكلمه ربه} دلت الآية الكريمة على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى، قال الزمخشريّ في كشافه: وكلمه ربه من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقًا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطًا في اللوح، اه. وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأنّ ذلك الجرم كالشجرة لا يقول: أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهب بعض الحنابلة والحشوية إلى أنّ كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، قال الإمام الرازي: وهذا القول أخس من أن يلتفت إليه العقل والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنّ كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأنّ موسى سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية، قالوا: كما أنه لا يبعد رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسمًا ولا عرضًا كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنّ كلامه لا يكون حرفًا ولا صوتًا.
وفيما روي أنّ موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أنّ سماع كلامه تعالى القديم ليس من جنس كلام المحدثين وهل كان سبحانه وتعالى كلم موسى وحده أو مع أقوام آخرين؟ ظاهر الآية يدل للأوّل لأنّ قوله تعالى: {وكلمه ربه} يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عمن عداه، وقال القاضي: بل السبعون المختارون سمعوا أيضًا كلام الله تعالى، قال: لأنّ الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكل وأيضًا فإنّ تكليم الله تعالى على هذا الوجه معجز وقد تقدّمت نبوّة موسى عليه السلام فلابد من ظهور هذا المعنى لغيره، ولما سمع عليه السلام كلام ربه اشتاق إلى رؤيته سبحانه وتعالى: {قال رب أرني أنظر إليك} قال في الكشاف: ثاني مفعولي أرني محذوف أي: أرني نفسك أنظر إليك.
فإن قيل: الرؤية عين النظر فكيف قيل: أرني أنظر إليك؟
أجيب: بأنّ معنى أرني نفسك اجعلني متمكنًا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك وفي هذا دليل على أنّ رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأنّ طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصًا ما يقتضي الجهل بالله تعالى ولذلك ردّه بأن {قال} له {لن تراني} دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إليّ تنبيهًا على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على بعد في الرائي لم يوجد فيه بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين: قالوا: {أرنا الله جهرة} النساء.