فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{سأصرف عن آياتي} المنصوبات في الآفاق والأنفس كغلق السموات والأرض وما بينهما {الذين يتكبرون في الأرض} أي: أصرفها عنهم بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، وقال سفيان بن عيينة: سأمنعهم فهم القرآن، وقوله تعالى: {بغير الحق} صلة يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل فإن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر على المبطل وفي الكلام المشهور: التكبر على المتكبر صدقة {وإن يروا كل آية} أي: منزلة أو معجزة {لا يؤمنوا بها} أي: لعنادهم وتكبرهم {وإن يروا سبيل} أي: طريق {الرشد} أي: الهدى الذي جاء من عند الله: {لا يتخذوه سبيلًا} أي: طريقًا يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد بل إن سلكوه فعن غير قصد. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء والشين والباقون بضمّ الراء وسكون الشين {وإن يروا سبيل الغيّ} أي: الضلال {يتخذوه سبيلًا} أي: بغاية الشهوة والتعمد والاعتماد لسلوكه {ذلك} أي: هذا الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرسالة {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي: الدالة على وحدانيتنا {وكانوا عنها غافلين} أي: كان دأبهم وديدنهم معاملتهم إيانا بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكًا فيما يشغلهم عنها من شهواتهم، وعن الفضيل بن عياض ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عظمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت عليهم بركة الوحي».
{والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} أي: وكذبوا بلقائهم الدار الآخرة التي هي موعد الثواب فهو من إضافة المصدر إلى المفعول به ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى: ولقاء ما وعد الله في الدار الآخرة {حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: ما عملوه في الدنيا من خير كصلة رحم وصدقة فلا ثواب لهم لعدم شرطه {هل} أي: ما {يجزون إلا} جزاء {ما كانوا يعملون} أي: من التكذيب والمعاصي. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
هذا من جملة ما كرّم الله به موسى عليه السلام وشرفه.
والثلاثين هي ذو القعدة، والعشر هي عشر ذي الحجة ضرب الله هذه المدّة موعدًا لمناجاة موسى ومكالمته.
قيل: وكان التكليم في يوم النحر.
والفائدة في {فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} مع العلم بأن الثلاثين والعشر أربعون ليلًا يتوهم وأن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها، فبين أن العشر غير الثلاثين، و{أربعين ليلة} منصوب على الحال، أي فتمّ حال كونه بالغًا أربعين ليلة.
قوله: {وَقَالَ موسى لأخِيهِ هارون اخلفنى في قومي} أي: كن خليفتي فيهم.
قال موسى هذا لما أراد المضيّ إلى المناجاة {وَأَصْلِح} أمر بني إسرائيل بحسن سياستهم، والرفق بهم، وتفقد أحوالهم {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} أي: لا تسلك سبيل العاصين، ولا تكن عونًا للظالمين.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، من طرق، عن ابن عباس، في قوله: {وواعدنا موسى} الآية، قال: ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في الآية، قال: إن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه، وأخلف هارون فيكم، فلما فصل موسى إلى ربه، زاده الله عشرًا، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله، فلما مضى ثلاثون ليلة كان السامري قد أبصر جبريل، فأخذ من أثر الفرس قبضة من تراب، ثم ذكر قصة السامريّ.
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}.
اللام في {لميقاتنا} للاختصاص، أي كان مجيئه مختصًا بالميقات المذكور، بمعنى أنه جاء في الوقت الموعود {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} أي أسمعه كلامه من غير واسطة.
قوله: {أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي، أرني نفسك أنظر إليك: أي سأله النظر إليه اشتياقًا إلى رؤيته لما أسمعه كلامه.
وسؤال موسى للرؤية يدلّ على أنها جائزة عنده في الجملة.
ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها.
والجواب بقوله: {لَن تَرَانِى} يفيد أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه، أو أنه لا يرى ما دام الرائي حيًا في دار الدنيا.
وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواترًا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح.
ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه آباءه وأهل بلده، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب، والمتعصب وإن كان بصره صحيحًا فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق، وهو يظنّ أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه وجهلًا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم.
وما أقلّ المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع فإنه صار بها باب الحقّ مرتجًا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه، والهداية منه:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ** ومنهج الحق له واضح

وجملة: {قَالَ لَن تَرَانِى} مستأنفة، لكونها جوابًا لسؤال مقدّر، كأنه قيل: فما قال الله له؟ والاستدراك بقوله: {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} معناه أنك لا تثبت لرؤيتي، ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرمًا وصلابة وقوّة، وهو الجبل، فانظر إليه {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} ولم يتزلزل عند رؤيتي له {فَسَوْفَ تَرَانِى} وإن ضعف عن ذلك، فأنت منه أضعف.
فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل.
وقيل: هو من باب التعليق بالمحال.
وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدّمنا.
وقد تمسك بهذه الآية كلا طائفتين المعتزلة والأشعرية.
فالمعتزلة استدلوا بقوله: {لَن تَرَانِى}، وبأمره بأن ينظر إلى الجبل.
والأشعرية قالوا: إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدلّ على أنها جائزة غير ممتنعة.
ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله.
والخلاف بينهم هو فيها لا في الرؤية في الدنيا، فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة، وكلامهم فيها معروف.
قوله: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا} تجلى معناه: ظهر، من قولك جلوت العروس، أي أيرزتها.
وجلوت السيف: أخلصته من الصدأ، وتجلى الشيء: انكشف.
والمعنى: فلما ظهر ربه للجبل جعله دكًا.
وقيل المتجلي: هو أمره وقدرته، قاله قطرب وغيره.
والدك مصدر بمعنى المفعول، أي جعله مدكوكًا مدقوقًا فصار ترابًا، هذا على قراءة من قرأ {دكًا} بالمصدر.
وهم أهل المدينة وأهل البصرة.
وأما على قراءة أهل الكوفة {جَعَلَهُ دَكَّاء} على التأنيث، والجمع دكاوات، كحمراء وحمراوات، وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض، أو للأرض المستوية.
فالمعنى: أن الجبل صار صغيرًا كالرابية، أو أرضًا مستوية.
قال الكسائي الدك: الجبال العراض واحدها أدك.
والدكاوات جمع دكاء، وهي رواب من طين ليست بالغلاظ، والدكادك: ما التبد من الأرض فلم يرتفع، وناقة دكاء: لا سنام لها.
{وَخَرَّ موسى صَعِقًا} أي مغشيًا عليه مأخوذًا من الصاعقة.
والمعنى: أنه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له.
يقال صعق الرجل، فهو صعق ومصعوق، إذا أصابته الصاعقة {فَلَمَّا أَفَاقَ} من غشيته {قَالَ سبحانك} أي أنزهك تنزيهًا من أن أسأل شيئًا لم تأذن لي به {تُبْتُ إِلَيْكَ} عن العود إلى مثل هذا السؤال.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية، فإن الأنبياء معصومون.
وقيل: هي توبة من قتله للقبطي، ذكره القشيري.
ولا وجه له في مثل هذا المقام {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك.
وجملة {قَالَ يَا موسى} مستأنفة كالتي قبلها، متضمنة لإكرام موسى واختصاصه بما اختصه الله به.
والاصطفاء: الاجتباء والاختيار، أي اخترتك على الناس المعاصرين لك برسالتي، كذا قرأ نافع، وابن كثير، بالافراد، وقرأ الباقون بالجمع.
والرسالة مصدر، والأصل فيه الإفراد.
ومن جمع فكأنه نظر إلى أن الرسالة هي على ضروب، فجمع لاختلاف الأنواع.
والمراد بالكلام هنا: التكليم.
امتنّ الله سبحانه عليه بهذين النوعين العظيمين من أنواع الإكرام، وهما الرسالة والتكليم من غير واسطة، ثم أمره بأن يأخذ ما آتاه، أي أعطاه من هذا الشرف الكريم، وأمره بأن يكون من الشاكرين على هذا العطاء العظيم، والإكرام الجليل.
قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ في الألواح مِن كُلّ شَيْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شَيْء} من كل شيء أي من كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في دينهم ودنياهم.
وهذه الألواح: هي التوراة.
قيل: كانت من زمردة خضراء.
وقيل: من ياقوتة حمراء، وقيل: من زبرجد، وقيل: من صخرة صماء.
وقد اختلف في عدد الألواح، وفي مقدار طولها وعرضها.
والألواح: جمع لوح، وسمي لوحًا لكونه تلوح فيه المعاني.
وأسند الله سبحانه الكتابة إلى نفسه تشريفًا للمكتوب في الألواح، وهي مكتوبة بأمره سبحانه.
وقيل: هي كتابة خلقها الله في الألواح.
و{مِن كُلّ شَيْء} في محل نصب على أنه مفعول {كَتَبْنَا} و{مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا} بدل من محل كل شيء، أي موعظة لمن يتعظ بها من بني إسرائيل وغيرهم، وتفصيلًا للأحكام المحتاجة إلى التفصيل {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي: خذ الألواح بقوّة، أي بجدّ ونشاط.
وقيل الضمير عائد إلى الرسالات، أو إلى كل شيء، أو إلى التوراة.
قيل: وهذا الأمر على إضمار القول، أي فقلنا له خذها.
وقيل: إن {فَخُذْهَا} بدل من قوله: {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي بأحسن ما فيها بما أجره أكثر من غيره، وهو مثل قوله تعالى: {اتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} [الزمر: 55]، وقوله: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه، والعمل بالعزيمة دون الرخصة، وبالفريضة دون النافلة، وفعل المأمور به، وترك المنهيّ عنه.
قوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} قيل: هي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه.
وقيل منازل عاد وثمود.
وقيل هي جهنم.
وقيل منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها.