فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل الدار: الهلاك.
والمعنى: سأريكم هلاك الفاسقين.
وقد تقدّم تحقيق معنى الفسق.
قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} قيل: معنى {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ} سأمنعهم فهم كتابي.
وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها.
وقيل: سأصرفهم عن نفعها مجازاة على تكبرهم كما في قوله: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
وقيل: سأطبع على قلوبهم حتى لا يتفكروا فيها ولا يعتبروا بها.
واختلف في تفسير الآيات، فقيل هي المعجزات.
وقيل: الكتب المنزلة.
وقيل: هي خلق السموات والأرض، وصرفهم عنها أن لا يعتبروا بها.
ولا مانع من حمل الآيات على جميع ذلك حمل الصرف على جميع المعاني المذكورة.
و{بِغَيْرِ الحق} إما متعلق بقوله: {يَتَكَبَّرُونَ} أي يتكبرون بما ليس بحق، أو بمحذوف وقع حالًا، أي يتكبرون متلبسين بغير الحق.
قوله: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} معطوف على {يتكبرون} منتظم معه في حكم الصفة.
والمعنى: سأصرف عن آياتي المتكبرين التاركين للإيمان بما يرونه من الآيات.
ويدخل تحت كل آية الآيات المنزلة، والآيات التكوينية، والمعجزات، أي لا يؤمنون بآية من الآيات كائنة ما كانت.
وقرأ مالك بن دينار {يروا} بضم الياء في الموضعين.
وجملة: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} معطوفة على ما قبلها داخلة في حكمها.
وكذلك جملة: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} والمعنى: أنهم إذا وجدوا سبيلًا من سبل الرشد تركوه وتجنبوه، وإن رأوا سبيلًا من سبل الغيّ سلكوه واختاروه لأنفسهم.
قرأ أهل المدينة وأهل البصرة {الرشد} بضم الراء وإسكان الشين.
وقرأ أهل الكوفة إلا عاصمًا بفتح الراء والشين.
قال أبو عبيدة: فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال: الرُّشد الصلاح والرُّشد في الدين.
قال النحاس: سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد، كالسخط والسخط.
قال الكسائي: والصحيح عن أبي عمرو، وغيره، ما قال أبو عبيدة.
وأصل الرشد في اللغة: أن يظفر الإنسان بما يريد، وهو ضدّ الخيبة، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الصرف، أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم، أو الإشارة إلى التكبر وعدم الإيمان بالآيات، وتجنب سبيل الرشد، وسلوك سبيل الغيّ، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره جملة: {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} أي بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها.
والموصول في {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الآخرة} مبتدأ.
وخبره {حَبِطَتْ أعمالهم}، والمراد بلقاء الآخرة لقاء الدار الآخرة: أي لقائهم لها، أو لقائهم ما وعدوا به فيها على أن الإضافة إلى الظرف، وحباط الأعمال بطلانها، أي بطلان ما عملوه مما صورته صورة الطاعة، كالصدقة والصلة، وإن كانوا في حال كفرهم لا طاعات لهم.
ويحتمل أن يراد أنها تبطل بعدما كانت مرجوّة النفع على تقدير إسلامهم، لما في الحديث الصحيح: «أسلمت على ما أسفلت من خير» {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الكفر بالله، والتكذيب بآياته، وتنكب سبيل الحق، وسلوك سبيل الغيّ.
وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن كعب قال: لما كلم الله موسى قال: يا ربّ أهكذا كلامك؟ قال: يا موسى إنما أكلمك بقوّة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها، ولو كلمتك بكنه كلامي لم تك شيئًا.
وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الأسماء والصفات، من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كلم الله موسى يوم الطور، كلمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه، فقال له موسى: يا ربّ، أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال: يا موسى إنما كلمتك بقوّة عشرة آلاف لسان، ولي قوّة الألسن كلها، وأقوى من ذلك.
فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن، فقال: لا تستطيعونه، ألم تروا إلى أصوات الصواعق التي تقتل، في أحلا حلاوة سمعتموه، فذاك قريب منه وليس به»
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، قال: إنما كلم الله موسى بقدر ما يطيق من كلامه، ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء، فمكث موسى أربعين ليلة لا يراه أحد، إلا مات من نور ربّ العالمين.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} يقول: أعطني أنظر إليك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، في الآية، قال: لما سمع الكلام طمع في الرؤية.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: حين قال موسى لربه تبارك وتعالى: {رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} قال الله: يا موسى إنك لن تراني، قال يقول: ليس تراني ولا يكون ذلك أبدًا، يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا، قال موسى ربّ إني أراك ثم أموت، أحبّ إليّ من أن لا أراك ثم أحيا، فقال الله لموسى: يا موسى انظر إلى الجبل العظيم الطويل الشديد {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} يقول: فإن ثبت مكانه لم يتضعضع، ولم ينهد لبعض ما يرى من عظمتي {فَسَوْفَ تَرَانِى} أنت لضعفك وذلتك، وإن الجبل انهدّ بقوّته وشدته وعظمته، فأنت أضعف وأذلّ.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي في الكامل، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الرؤية من طرق، عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا} قال هكذا، وأشار بأصبعيه ووضع إبهامه على أنملة الخنصر.
وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر.
فساخ الجبل {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} وفي لفظ، فساخ الجبل في الأرض، فهو يهوى فيها إلى يوم القيامة، وهذا الحديث حديث صحيح على شرط مسلم.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: الجبل الذي أمره الله أن ينظر إليه الطور.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في كتاب الرؤية، عن ابن عباس {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر {جَعَلَهُ دَكّا} قال: ترابًا {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} قال: مغشيًا عليه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والديلمي، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة بالمدينة: أحد وورقان ورضوى، وبمكة: حراء وثبير وثور» وأخرج الطبراني في الأوسط، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لما تجلى الله لموسى، تطايرت سبعة أجبل، ففي الحجاز خمسة منها، وفي اليمن اثنان، في الحجاز: أحد وثبير وحراء وورقان، وفي اليمن: حضور وصبر» وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس، أن موسى لما كلمه ربه أحبّ أن ينظر إليه فسأله فقال: {لَن تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} قال: فحفّ حول الجبل الملائكة، وحفّ حول الملائكة بنار، وحف حول النار بملائكة، وحفّ حولهم بنار، ثم تجلى ربه للجبل تجلى منه مثل الخنصر، فجعل الجبل دكًا وخرّ موسى صعقًا، فلم يزل صعقًا ما شاء الله، ثم أفاق فقال: سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ عن عليّ ابن أبي طالب، قال: كتب الله الألواح لموسى، وهو يسمع صريف الأقلام في لوح.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة، كان طول اللوح اثنى عشر ذراعًا» وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن جبير، قال كانوا يقولون كانت الألواح من ياقوتة.
وأنا أقول: إنما كانت من زمرّد وكتابها الذهب، كتبها الله بيده، فسمع أهل السموات صريف الأقلام.
أقول: رحم الله سعيدًا، ما كان أغناه عن هذا الذي قاله من جهة نفسه، فمثله لا يقال بالرأي ولا بالحدس، والذي يغلب به الظن أن كثيرًا من السلف رحمهم الله كانوا يسألون اليهود عن هذه الأمور.
فلهذا اختلفت واضطربت، فهذا يقول من خشب، وهذا يقول من ياقوت.
وهذا يقول من زمرّد، وهذا يقول من زبرجد، وهذا يقول من برد، وهذا يقول من حجر.
وأخرج أبو الشيخ، عن السدي {وَكَتَبْنَا لَهُ في الألواح مِن كُلّ شَيْء} كل شيء أمروا به ونهوا عنه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، مثله.
وقد اختلف السلف في المكتوب في الألواح اختلافًا كثيرًا.
ولا مانع من حمل المكتوب على جميع ذلك لعدم التنافي.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} قال بجدّ وحزم {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} قال: دار الكفار.
وأخرج ابن جرير عنه {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} قال: أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} قال: بطاعة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} يعني: بجدّ واجتهاد {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} قال: بأحسن ما يجدون منها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} قال: مصيرهم في الآخرة.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: منازلهم في الدنيا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: جهنم.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، قال: مصر.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي} قال: عن أن يتفكروا في آياتي.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج {عَنْ ءاياتي} قال: عن خلق السموات والأرض، والآيات التي فيها، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها أو يعتبروا.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سفيان بن عيينة في الآية قال: أنزع عنهم فهم القرآن. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)}.
في هذا الدرس تمضي قصة موسى عليه السلام في حلقة أخرى.. مع قومه بني إسرائيل؛ بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم؛ وأغرق فرعون وملأه؛ ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون.. إن موسى عليه السلام لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه؛ فقد انتهت المعركة مع الطاغوت.. ولكنه يواجه معركة أخرى- لعلها أشد وأقسى وأطول أمدًا- إنه يواجه المعركة مع النفس البشرية! يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس؛ ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل؛ وملأها بالالتواء من ناحية؛ وبالقسوة من ناحية؛ وبالجبن من ناحية؛ وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعًا.. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلًا؛ ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء!