فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}.
بعد أن حدثنا الله سبحانه وتعالى عن صفات المنافقين في ثلاث عشرة آية وأعطانا أوصافهم الظاهرة. وأعطانا أمثلة لما يحدث في قلوبهم كي يعرفهم المؤمنون ظاهرا وباطنا. ويحذروهم ولا يأمنوا لهم. بين لنا كيف أن المنافقين لم يكفروا بالله كإله فقط. ويستروا وجوده، ولكن كفروا به كرب. والرب عطاؤه مكفول لكل من خلق مؤمنهم وكافرهم، فهو سبحانه وتعالى الذي استدعاهم للوجود وخلقهم. ولذلك فإنه سبحانه يضمن لهم رزقهم وحياتهم.
والله سبحانه وتعالى لا يحرم خلقا من خلقه من عطاء ربوبيته في الدنيا. فالشمس تشرق على المؤمن والكافر. والمطر ينزل على من قال لا إله إلا الله ومن ستر وجوده تعالى والهواء يتنفس به ذلك الذي يقيم الصلاة والذي لم يركع ركعة في حياته.. والطعام يأكله الذي يحب الله والذي يكفر بنعم الله.. ذلك أن هذه عطاءات ربوبية يعطيها الله تعالى لكل خلقه في الدنيا.
أما عطاءات الألوهية، فهي للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
فالله سبحانه وتعالى يلفت انتباه خلقه إلى أن عطاء الربوبية من الله سبحانه وتعالى لهم يكفي ليؤمنوا بالله ويعبدوه.
والحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب الناس في القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلابد أن يكون الخطاب للناس في كل زمان ومكان. منذ نزول القرآن الكريم إلى يوم القيامة.
وخطاب الله سبحانه وتعالى خاص بقضية الإيمان في القمة، وهي الخضوع لإله واحد لا شريك له.
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} معناه أن من مقتضيات العبادة. أن الله هو خالق الناس جميعا. وليس في قضية الخلق كما قلنا شبهة؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق نفسه، أو خلق هذا الكون، بل إن الحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم السببية المباشرة في وجودنا؛ فالأب والأم هنا سبب في وجود الإنسان. فنجد الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
وهكذا نرى أن الحق قد احترم السببية في الموجد، مع أنه سبحانه وتعالى الموجد الذي خلق كل شيء. ولكن الله يحترم عمل الإنسان. مع أنه سبب فقط، فالمال هو مال الله، يعطيه لمن يشاء. لكننا نجد الحق سبحانه وتعالى هو يحث على الصدقة يقول: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245].
فكأنه سبحانه احترم عمل الإنسان في الحصول على المال، رغم أن المال مال الله. فقال وهو الخالق الأعظم: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وهكذا تتجلى رحمة الحق بالخلق.
الله يقول: و{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} نتقي ماذا؟ نتقي صفات الجلال في الله. فالله سبحانه وتعالى له صفات جلال وصفات جمال، صفات الجلال هي الجبار والقهار والمتكبر والقوي والقادر والمقتدر والضار وغيرها من صفات الجلال.
فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية حتى لا نغضب الله، فيعاملنا بمتعلقات صفات جلاله، وأن نتمسك بصفات جمال الله: الرحيم الودود، الغفار، التواب، فإذا نجحنا في ذلك كان لنا نجاة من النار التي هي أحد جنود الله، ومتعلقات جلاله.
على أننا لابد أن نتنبه إلى أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول: {يا أيها الناس} إنما يخاطب كل الناس، فإذا أراد الحق سبحانه وتعالى مخاطبة المؤمنين قال: {يا أيها الذين آمنوا} أي يا أيها الذين آمنتم بالله إلها، ودخلتم معه في عقد إيماني. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}.
أخرج البزار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: ما كان {يا أيها الذين آمنوا} أنزل بالمدينة، وما كان {يا أيها الناس} فبمكة.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: قرأنا المفصل ونحن بمكة حجيجًا، ليس فيها {يا أيها الذين آمنوا}.
وأخرج أبو عبيد وابن شيبة وعبد بن حميد وابن الضريس وابن المنذر وأبو الشيخ بن حبان في التفسير عن علقمة قال: كل شيء في القرآن {يا أيها الناس} فهو مكي، وكل شيء في القرآن {يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه وعبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك. مثله.
وأخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران قال: ما كان في القرآن {يا أيها الناس ويا بني آدم} فإنه مكي. وما كان {يا أيها الذين آمنوا} فإنه مدني.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة قال: ما كان {يا أيها الناس} بمكة، وما كان {يا أيها الذين آمنوا} بالمدينة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة قال: ما كان من حج، أو فريضة، فإنه نزل بالمدينة، أو حد، أو جهاد، فإنه نزل بالمدينة. وما كان من ذكر الأمم، والقرون، وضرب الأمثال، فإنه نزل بمكة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: كل سورة فيها {يا أيها الذين آمنوا} فهي مدنيه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يا أيها الناس} فهي للفريقين جميعًا من الكفار والمؤمنين {اعبدوا} قال: وحدوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} يقول: خلقكم، وخلق الذين من قبلكم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قوله: {لعلكم} يعني كي غير آية في الشعراء {لعلكم تخلدون} [الشعراء: 129] يعني كأنكم تخلدون.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبدالله بن غنية قال: {لعل} من الله واجب.
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {لعلكم تتقون} قال: تطيعون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {لعلكم تتقون} قال: تتقون النار. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

يا حرف نداء وهي أم الباب.
وزعم بعضهم أنها اسم فعل، وقد تحذف نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29].
وينادي بها المندوب والمستغاث.
قال أبو حيان: وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ بها.
وزعم بعضهم أن قراءة: {أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء، وهو غريب، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية، قال تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} [النمل: 25] بتخفيف أَلاَ؛ وقال الشاعر: الطويل:
أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ

وقال آخر: البسيط:
يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلُّهِمُ ** وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ

وأي اسم منادى في محلّ نصب، ولكنه بني على الضم؛ لأنه مفرد معرفة، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلةٌ، والتقدير: يا الَّذِين هُمُ النَّاس، والصحيح الأول، والمرفوع بعدها صفة لها، والمشهور: يلزم رفعه، ولا يجوز نصبه على المحلّ خلافًا للمازني.
وها زائدة للتنبيه لازمة لها، والمشهور فتح هَائِهَا، ويجوز ضمُّها إتباعًا للياء، وقد قرأ ابن عامر بذلك في بعض المواضع نحو {أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ} [النور: 31] والمرسوم يساعده.
ولا توصف أي هذه إلا بما فيه الألف واللام، أو بموصول هما فيه، أو باسم إشارة نحو: {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} [الحجر: 6] وقال الشاعر: الطويل:
ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي ** عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا

وفسر بعضهم يا زيد: أنادي زيدًا، وأخاطب زيدًا، وهو خطأ من وجوه:
أحدهما: أن قوله: أنادي زيدًا خبر يحتمل الصدق والكذب، وقوله: يا زيد لا يحتملهما.
وثانيها: أن قولنا: يا زيد يقتضي أن زيدًا منادى في الحال، وأنادي زيدًا لا يقتضي ذلك.
وثالثها: أن قولنا: يا زيد يقتضي صيرورة زيد خاطبًا هذا الخطاب، وأنادي زيدًا لا يقتضي ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنسانًا آخر بأن أنادي زيدًا.
ورابعها: أن قولنا: أنادي زيدًا إخبار عن النداء، والإخبار عن النداء غير النداء.
واعلم أن يا حرف وضع في أصله لنداء البعيد، وإن كان لنداء القريب، لكن بسبب أمر مهم جدًّا، وأما نداء القريب فله: أي والهمزة ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب، تنزيلًا له منزلة البعيد.
فإن قيل: فلم يقول الداعي: يا رب، يا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟
قلنا: هو استبعاد لنفسه من مَظَانّ الزُّلْفَى، إقرارًا على نفسه بالتقصير.
وأي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن ذو الذي وصلة إلى وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم، فافتقر إلى ما يزيل إبهامه، فلابد وأن يردفه اسم جنس، أو ما جرى مجراه، ويتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء.
ولأي معانٍ أخر كالاستفهام، والشرط، وكونها موصولة، ونكرة موصوفة لنكرة، وحالًا لمعرفة.
و{النَّاس} صفة أي، أو خبر محذوف حسب ما تقدم من الخلاف.
و{اعبدوا ربكم} جملة أمرية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية.
{الَّذي خَلَقَكُمْ} فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: نصبه على النَّعت ل {ربكم}.
الثَّاني: نصبه على القطع.
الثالث: رفعه على القطع أيضًا.
وقد تقدّم معناه.
قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} محلّه العطف على المنصوب في {خلقكم} و{من قبلكم} صلة {الذين} فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر.
و{من} لابتداء الغاية، واستشكل بعضهم وقوع {من قبلكم} صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة، و{من قبلكم} ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل، فكذلك الصّلة.
قال: وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول: نحن في يوم طيب، فيكون التقدير هنا- والله أعلم-{والَّذِينَ مِنْ قَبْلَكُمْ}- بفتح الميم-.
قال الزمخشري: ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وَصِلَتِهِ تأكيدًا، كما أقحم جرير في قوله: البسيط:
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيِّ لاَ أَبَا لَكُمُ

تيْمًا الثاني بين الأوَّل، وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضَافةِ بين المضاف والمضاف إلَيْه في نَحْو: لاَ أَبَا لَكَ قيل: هذا الذي قاله مذْهَبٌ لبعضهم؛ ومنه قوله: الطويل:
مِنَ النَّفَرِ اللاَّءِ الَّذِينَ إذَا هُمُ ** يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا

ف إذا وجوبها صلةُ اللاَّء، ولا صلةَ للذين؛ لأنه توكيد للأول، إلا أن بعضهم يرد هذا القول، ويجعله فاسدًا من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتّصل به، فالموصول أولى بذلك، وخرج الآية والبيت على أن {مَنْ قَبْلَكُمْ} صلةٌ للموصول الثَّاني، والموصول الثَّاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف، والمبتدأ وخبره صلة الأول، والتقدير: والَّذين هُمْ مِنْ قَبْلِكُم، وكذا البيت فجعل إذا وجوابها صلةً للَّذِينَ، واللَّذِينَ خبر لمبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة لاللاء، ولا يخفَى ما في هذا التعسُّف.
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
لعل واسمها وخبرها، وإذا ورد في كلام الله- تعالى- فللناس فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن لَعَلّ على بابها من الترجّي والإطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين، أي: لعلَّكم تتقون على رجائكم وطمعكم؛ وكذا قاتل سيبويه في قوله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44]: أي: اذْهَبَا على رجائِكُمَا.
والثَّاني: أنها للتعْليل: أي: اعْبُدُوا ربَّكُم؛ لِكَيْ تَتَّقُوا، وبه قال قُطْرُبٌ، والطبريُّ وغيرُهُما؛ وأنشدوا: الطويل:
وقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا ** نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ

فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ** كَلَمْعِ سَرَابٍ في المَلاَ مُتَأَلِّقِ

أي: لنكُفَّ الحَرْبَ، ولو كانت لَعَلّ للترجِّي، لم يقل: وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ.
والثَّالث: أنها للتعَرُّض للشيْءِ؛ كأنه قيل: افْعَلُوا ذلك متعرضِّين لأن تَتَّقُوا.
وقال القَفَّال: لعل مأخوذةٌ من تكرير الشيء لقولهم: عللًا بعد نَهَلِ، واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في لقد، فأصل لعل: طعل؛ لأنهم يقولون: علك أن تفعل كذا: أي لعلك.
وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد، كان قول القائل: افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك.
معناه: افعله؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه، وهذه الجملة على كل قول متعلّقة من جهة المعنى ب {اعبدوا} أي: اعبدوا على رجائكم التَّقوى، أو لتتقوا، أو متعرّضين للتقوى، وإليه مال المهدوي، وأبو البقاء.
وقال ابن عطيّة: يتجه تعلّقها بخلقكم، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة، فهو بحيث يرجى أن يكون متقيًا، إلاَّ أن المهدوي منع من ذلك.
قال: لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي، ولم يذكر الزمخشري غير تعلّقها ب {خلقكم} ثم رتب على ذلك سؤالين:
أحدهما: أنه كما خلق المُخاطبين لعلّهم يتقون، كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك فلم خصّ المخاطبين بذلك دون من قبلهم؟
وأجاب عن ذلك بأنه لم يقصر عليهم، بل غَلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادة الجميع.
السُّؤال الثاني: هلا قيل: تعبدون لأجل {اعبدوا} أو اتقوا لمكان {تتقون} ليتجاوب طرفا النظم؟
وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النَّظْم، وإنَّما التقوى قصارى أمر العابد، وأقصى جهده.
قال أبو حَيَّان: وأما قوله: ليتجاوب طرفا النَّظم، فليس بشيء؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم، إذ يصير اللفظ: اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى؛ إذ هو مثل: اضرب زيدًا لعلك تضربه، واقصد خالدًا لصحّته أن يكون {لعلكم تتقون} متعلّقًا بقوله: {اعبدوا} فالَّذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلّق بها ذلك، وأتى بالموصول وصلته في سبيل التوضيح، أو المدح الذي تعلقت به العبادة، فلم يُجَأْ بالموصول ليحدّث عنه، بل جاء في ضمن المقصود بالعيادة، فلم يكن يتعلّق به دون المقصود، وأجاب بعضهم عن كلام الزمخشري بأنه جعل لعل متعلّقة ب {خلقكم} لا ب {اعبدوا} فلا يصير التقدير: اعبدوا لعلكم تعبدون، وإنما التقدير: اعبدوا الذي خلقكم لعلكم تعبدون؛ أي خلقكم لأجل العبادة، يوضِّحه: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وفي لَعَلّ لغاتٌ كثيرةٌ، وقد يُجَرُّ بها؛ قال: الوافر:
لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا ** بِشَيْءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ

ولا تنصب الاسمين على الصحيح، وقد تدخل أن في خبرها؛ حملًا على عَسَى؛ قال: الطويل:
لَعَلَّكَ يَوْمًا أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ

وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات كعسى، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى.
و{تَتَّقَونَ} أصله توتقيون؛ لأنه من الوقاية، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال، وأدغمت فيها، وقد تقدم ذلك في المتقين، ثم استثقلت الضّمة على الياء فقدرت، فسكنت الياء والواو بعدها، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين، وضمت القاف لتجانسها، فوزنه الآن تفتعون، وهذه الجملة أعني {لعلكم تتقون} لا يجوز أن تكون حالًا؛ لأنها طلبية، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك، ومفعول {تتقون} محذوف أي: تتقون الشرك، أو النار. اهـ. باختصار.