فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأمّا ما تصوَّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وآيات أُخرى دليل على أن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلو القرآن على الناس من شيء مكتوب، فهو خطأ بالغ، لأنّ التلاوة تطلق على التلاوة من مكتوب على شيء، كما تطلق على القراءة حفظًا ومن ظهر القلب، واستعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرأون الأشعار أو الأدعية حفظًا ومن على ظهر القلب كثير.
من مجموع ما قلناه نستنتج:
1- أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتلق القراءة والكتابة من أحد حتمًا، وبهذا تكون إحدى صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ.
2- أنّنا لا نملك أي دليل معتبر على أن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ أو كتب شيئًا قبل النبوة، أو بعدها.
3- إنّ هذا الموضوع لا يتنافى مع تعليم الله تعالى القراءة أو الكتابة لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.
3- البشارات بظهور النّبي في العهدين:
إنّ الشواهد التأريخية القطعية، وكذا محتويات كتب اليهود والنصارى المقدسة التوراة والإِنجيل تفيد أن هذه الكتب ليست هي الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسى عليهما السلام وأن يد التحريف قد طالتهما، بل إنّ بعضها اندرس واندثر، وأن ما هو موجود الآن باسم الكتب المقدسة بينهم ما هي إلاّ خليط من نسائج الأفكار والأدمغة البشرية وشيء من التعاليم التي نزلت على موسى وعيسى عليهما السلام ممّا بقي في أيدي تلامذتهم.
وعلى هذا الأساس لا غرور ولا عجب إذا لم نقف على عبارات صريحة حول البشارة بظهور النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن مع هذا فإنّه يلحظ في ثنايا هذه الكتب المحرفة عبارات تتضمّن اشارات معتدّ بها حول ظهور هذا النّبي العظيم، وقد جمعها ثلّة من علمائنا في كتب ومؤلفات مستقلة، أو مقالات تتحدث في هذا المجال. وحيث أن ذكر كل تلك البشائر وما حولها من حديث وكلام ممّا يطول به المقام، فإنّنا نكتفي بذكر بعض منها على سبيل المثال لا الحصر.
1- جاء في سفر التكوين الإصطلاح 17 العبارة 17 إلى 20: وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله... وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه-أي دعاءك في حق- ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جيدًا. اثني عشر رئيسًا يلد وأجعله أُمّة كبيرة.
2- لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجيله حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب.
والجدير بالإِنتباه أن أحد معاني شيلون- حسب تصريح المسترهاكس في كتاب قاموس الكتاب المقدس- هو الإِرسال، وهو يوافق كلمة رسول أو رسول الله.
3- وفي إنجيل يوحنا الباب 15 العبارة رقم 16 جاء ما يلي: وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.
4- وكذا جاء في إنجيل يوحنا ذاته الإصحاح 16 العبارة رقم7: لكنّي أقول لكم الحق: إنّه خير لكم أن أنطلق. لأنّه إن لَم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك هو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية.
والنقطة الجديرة بالإِهتمام أنّه جاءت الكلمة في إنجيل يوحنا باللغة الفارسية المسلّي ولكنّها في الإِنجيل العربي طبعة لندن (مطبعة وليام وطس عام 1857) جاء مكانها: فارقليطا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)}.
وقوله: {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد ذهابه لميقات ربه بعد أن قال لهارون: {اخلفني فِي قَوْمِي}.
بعد ذلك اتخذ قوم موسى من حليهم عجلًا جسدًا له خُوار، ونعرف أن الحلي هو ما يُتَزين به من الذهب، والجواهر والأشياء الثمينة، وسيد هذه الحلي هو الذهب دائمًا، ونعلم أن الصائغ الماهر يشكل الذهب كما يريد، وإن انكسر يسهل إصلاحه، كما أن كسر الذهب بطيء، ولذلك يقال: إن الذهب كالإِنسان الطيب، كسره بطيء، واجباره سهل.
وساعة نسمع كلمة {زينة} قد يدخل فيها الماس والزمرد، والياقوت، لكن الذهب سيد هذه الحلي. ونعلم أن العالم مهما ارتقى، فلن يكون هناك رصيد لأمواله إلا الذهب، ولذلك لم يأت سبحانه بالياقوت، أو بالجواهر، أو بالماس. ولذلك إذا أطلقت كلمة الحلي فالمراد بها الذهب.
وهذه الزينة هي التي صنع منها موسى السامري تمثال العجل، وبطبيعة الحال أخذ الحلي الذهبية لأن الماس والجواهر لا يمكن صهرها. لكن من أين جاء قوم موسى بالحلي وقد كانوا مستضعفين، ومستذلين؟ لقد احتالوا على أهل مصر وأخذوا منهم الحلي كسلفة سيردونها من بعد ذلك. ثم جاء رحيلهم فأخذوا الحلي معهم!
وغرق قوم فرعون وبقيت الحلي مع قوم موسى، وصنع موسى السامري من ذهب هذه الحلي عجلًا، والعجل هو الذكر من ولد البقر، وساعة تسمع قوله: {عِجْلًا جَسَدًا} أي أنه مُحَجَّم، أي له حجم واضح. وأخذ أهل التفسير من كلمة {جسدًا} أن ذلك العجل هو بدن لا روح له، مثلما نقول: فلان هذا مجرد جثة. أي كأنه جثة بلا روح.
وقوله الحق: {عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ}، هذا القول يدل على أن جسدية العجل لم تكن لها حياة؛ لأنه لو كان جسدًا فيه روح لما احتاج إلى أن يقول عجلًا جسدًا له خوار، ولاكتفي بالقول بأنه عجل. لكن قوله سبحانه: {لَّهُ خُوَارٌ} دليل على أن الجسدية في العجل لا تعطي له الحياة. وجاء بالوصف في قوله: {لَّهُ خُوَارٌ} والخُوار هو صوت البقر. وقد صنعه من الذهب وكأنه يريد أن يتميز عن الآلهة التي كانت من الأحجار، وحاول أن يجعله إلهًا نفيسًا، فصنعه- كما نعرف- من الحلي المسروقة، وصنعه بطريقة أن هذا العجل الجسد إذا ما استقبل من دبره هبة الهواء؛ صنعت وأحدثت في جوفه صوتًا يشبه صوت وخوار البقر الذي يخرج من فمه، وهذه المسألة نراها في الناي وهو أنبوبة من القصب مما يسمى الغاب البلدي وتصنع به ثقوب، ويعزف عليه العازف ليخرج منه النغمة التي يريدها.
وحين صنع موسى السامري العجل بهذه الحيلة، حدث هذا الصوت مشابها لخوار البقر.
وقصة هذا العجل تأتي في سورة طه بوضوح وسنتعرض لها حين نتعرض بخواطرنا الإِيمانية لسورة طه بإذن الله: {... عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148].
ولماذا اختار السامري العجل؟ لأنهم حين خروجهم من مصر، رأوا قدماء المصريين وهم يعبدون العجل لمزية فيه، فقد كانوا يرون فيه مظهر قوة، كما عبد الآخرون الشمس حين رأوا فيها مظهر قوة، وكذلك من عبدوا القمر، والنجوم. وقدماء المصريين عبدوا العجل لأن فيضان النيل كان يغمر الأرض بالمياه، وكانوا يستخدمون العجل. حين يريدون حرث الأرض. وكان أَيِّدًا، أي قويًّا وشديدًا في حرث الأرض وهذا مظهر من مظاهر القوة، ولكن كيف اتخذ قوم موسى من بعده عجلًا يعبدونه بعد أن أتم عليهم الله المنة العظيمة حين أنجاهم وأغرق فرعون وآله؟. وهنا أوضح لنا الله أنه جاوز ببني إسرائيل البحر ومروا على قوم يعبدون الأصنام؛ فقالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة.
ويأتي القول من الحق: {... أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148].
وهذه قضية تهدم كل عبادة دون عبادة الله؛ لأن العبد لابد أن يتلقى من المعبود أوامر، وأن يكون عند المعبود منهج يريد من العبد أن ينفذه، وأن يأتي المنهج بواسطة رسل يبلغون رسالات الله وكلام الله للبشر. أما الذين يعبدون الشمس- مثلًا- فنسألهم: لماذا تعبدونها؟ وما المنهج الذي أرسلته الشمس لكم؟. إن العبادة هي طاعة العابد للمعبود في افعل ولا تفعل فهل قالت لكم الشمس افعلوا ولا تفعلوا؟ لا؛ لأنه لا توجد واسطة كلامية تقول لكم المنهج، وكيف يوجد- إذن- معبود بدون منهج للعابد؟ وهل قالت: إن من يعبدني سأشرق عليه، وأعطيه الضوء والحرارة، ومن لا يعبدني فلن أعطيه شيئًا من ذلك؟ لم تقل الشمس ذلك فهي تعطي من آمن بها ومن كفر، ولم ترسل خبرًا عن الآخرة وقيام القيامة.
وهكذا يبطل أمامنا كل عبادة لغير الله من ناحية أن العبادة تقتضي أمرًا ونهيا، في افعل ولا تفعل ولم يقل معبود من هؤلاء ما الذي نطيعه وما الذي نعصاه. والأصل في المعبود أنه يهدي العابد السبيل الموصل إلى خيره في الدنيا وفي الآخرة. لذلك يقول الحق: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ}. و{وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} لأنهم أعطوا حقًّا لمن ليس له الحق، والحق سبحانه أعلى قمة في الحق، ولذلك قال عن الشرك به: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)}.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلًا جسدًا} قال: حين دفنوها ألقي عليها السامري قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {من حليهم عجلًا جسدًا له خوار} قال: استعاروا حليًا من آل فرعون، فجمعه السامري فصاغ منه عجلًا فجعله الله جسدًا لحمًا ودمًا له خوار.
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {عجلًا جسدًا له خوار} قال: يعني له صياح. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت الشاعر وهو يقول:
كان بني معاوية بن بكر ** إلى الإِسلام ضاحية تخور

وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: خار العجل خورة لم يثن، ألم تر أن الله قال: {ألم يروا أنه لا يكلمهم}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {له خوار} قال: الصوت. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ} الآية.
أي: من بعد مُضيِّة وذهابه إلى الميقات والجارَّان متعلِّقان بـ {اتَّخَذَ}، وجَازَ أن يتعلَّق بعاملٍ حرفا جَرّ متحدَا اللَّفْظِ، لاختلافِ مَعْنيْهما لأنَّ الأولى لابتداء الغايةِ، والثَّانية للتَّبعيضِ، ويجوزُ أن يكون {مِن حُلِيِّهِمْ} متعلّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من عِجْلًا لأنَّهُ لو تأخَّر عنه لكان صفةً فكان يقال عِجْلًا من حليهم.
وقرأ الأخوان مِنْ حِليِّهم بكسر الحاء وَوجْهُهَا الإتباع لكسرة اللاَّم، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش.
والباقون بضمِّ اللاَّم، وهي قراءةُ الحسنِ وأبي جعفرٍ وشيبة بن نصاح، وهو في القراءتين جمع حَلْيِ كطَيٍّ، فجمع على فُعُول كفَلْس وفُلُوس فأصله، حُلُويٌّ كثُدِي في ثُدُوي، فاجتمعت الياء والواوُ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون، فقلبت الواوُ ياء، وأدغمت، وكُسرت عين الكلمة، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحَّ الياء، ثُمَّ لك فيه بعد ذلك وجهانِ: تركُ الفاءِ على ضَمِّهَا، أو إتباعُها للعين في الكسرةِ، وهذا مُطَّردٌ في كل جمعٍ على فُعُول من المعتلِّ اللاَّم، سواء كان الاعتلال بالياء كحُلِيّ وثُدِي أم بالواو نحو: عُصِيّ، ودُلِيّ جمع عَصَا ودَلْو.
وقرأ يعقوبُ {من حَلِيِّهم} بفتح الحاءِ وسكون اللاَّمِ، وهي محتملةٌ لأن يكون الحَلْي مفردًا أريد به الجمعُ، أو اسمُ جنسٍ مفرده حَلْيَة على حدِّ قَمْحٍ وقَمْحَةٍ، و{عِجْلًا} مفعولُ {اتَّخَذَ} و{مِنْ حُلِيِّهم} تقدَّم حكمه.