فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
انْتَهَى بِالْآيَةِ قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ اسْتِئْنَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْهَا، بَيَّنَ اللهُ فِيهِ بِخَاتَمِ رُسُلِهِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا سُنَنَهُ فِي ضَلَالِ الْبَشَرِ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْغَابِرِينَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَيَنْطَبِقُ عَلَى رُؤَسَاءِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ الْمُعَانِدِينَ لَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ جَزَاءَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، قَالَ: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هَذَا بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِ الْبَشَرِ لِدُعَاةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مِنَ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ، وَسَبَبُهُ الْأَوَّلُ الْكِبْرُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْكِبْرِ أَنْ يَصْرِفَ أَهْلَهُ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى لِأَجْلِ اتِّبَاعِهِ، فَهُمْ يَكُونُونَ دَائِمًا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ الْغَافِلِينَ عَنْهَا، وَتِلْكَ حَالُ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الضَّالِّينَ كَفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَامَّةً مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِإِعْلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الطَّاغِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ مَشْيَخَةِ قَوْمِهِ لَنْ يَنْظُرُوا فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بَيَّنَّاهَا مِرَارًا، وَالدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى بِمَا أَقَامَتْهُ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينُ الْكَثِيرَةُ، وَلَا فِي غَيْرِهَا مِمَّا أَيَّدَهُ وَيُؤَيِّدُهُ بِهِ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، لِتَكَبُّرِهُمْ فِي الْأَرْضِ بِالْبَاطِلِ، فَوُجْهَةِ نَظَرِهِمْ تَنْحَصِرُ فِي تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُمْ سَادَةُ قُرَيْشٍ وَكُبَرَاؤُهَا وَأَغْنِيَاؤُهَا وَأَقْوِيَاؤُهَا، فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ سِنًّا وَقُوَّةً وَثَرْوَةً وَعَصَبِيَّةً، وَالْمَعْنَى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِنْ قَوَّمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَمَا صَرَفْتُ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ عَنْ آيَاتِي الَّتِي آتَيْتُهَا رَسُولِي مُوسَى- وَالتَّكَبُّرُ صِيغَةُ تَكَلُّفٍ أَوْ تَكَثُّرٍ مِنَ الْكِبْرِ الَّذِي هُوَ غَمْطُ الْحَقِّ بِعَدَمِ الْخُضُوعِ لَهُ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ، فَهُوَ شَأْنُ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَخْضَعَ لِحَقٍّ، أَوْ يُسَاوِيَ نَفْسَهُ بِشَخْصٍ، وَالْأَصْلُ الْغَالِبُ فِي التَّكَبُّرِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ إِعْلَاءَ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ إِكْثَارَهُ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ بِحَقٍّ كَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْمُبْطِلِينَ، وَإِهَانَةِ الْجَبَّارِينَ، وَاحْتِقَارِ الْمُحَارِبِينَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} يَكُونُ عَلَى هَذَا صِلَةً لِلتَّكَبُّرِ، وَهُوَ قَيْدٌ لَهُ، وَإِلَّا كَانَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَكَبَّرُونَ حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُتَلَبِّسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ مُنْغَمِسِينَ فِي الْبَاطِلِ، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا قِيمَةَ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ عِنْدَهُمْ، فَهُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْهُ، وَقَدْ تَظْهَرُ لَهُمْ آيَاتُهُ وَيَجْحَدُونَهَا وَهُمْ بِهَا مُوقِنُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (27: 14) وَقَالَ فِي طُغَاةِ قُرَيْشٍ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (6: 33).
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا هَذَا إِمَّا عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ {سَأَصْرِفُ} أَيْ: سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي الْمُنَزَّلَةِ وَالْكَوْنِيَّةِ فَيَنْصَرِفُونَ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا- وَإِمَّا عَطْفٌ عَلَى {يَتَكَبَّرُونَ} فَيَكُونُ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ بَيَانًا لِصِفَاتِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَأَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ وَتُثْبِتُ وُجُودَهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْآيَاتِ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَأَفْرَادِهَا إِنَّمَا تُفِيدُ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ جَاهِلٌ أَوْ شَاكٌّ أَوْ سَيِّءُ الْفَهْمِ، فَإِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ دَلَالَةُ بَعْضِهَا فَقَدْ تَظْهَرُ لَهُ دَلَالَةُ غَيْرِهِ، وَفِي هَذَا إِعْلَامٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ التَّعْجِيزَ، لَا اسْتِبَانَةَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ، فَهُمْ إِنْ أُجِيبُوا إِلَى طَلَبِهِمْ لَا يُؤَمِنُونَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا.
وَإِنْ يَرَوْا سَيَبُلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا الرُّشْدُ: الصَّلَاحُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَضِدَّهُ الْغَيُّ؛ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ لُغَاتٍ: ضَمُّ أَوَّلِهِ وَسُكُونُ ثَانِيهِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ هُنَا- وَفَتْحُهُمَا؛ وَبِهَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ- وَالرَّشَادُ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ- غَافِرٍ- حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (40: 29) وَمِثْلُهَا السُّقْمُ وَالسَّقَمُ وَالسِّقَامُ- الْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ صِفَةٍ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَرَنُوا عَلَى الضَّلَالِ وَاسْتَمْرَءُوا مَرْعَى الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، أَنْ يَنْفِرُوا مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُهُمْ سَبِيلَهُ وَاضِحَةً جَلِيَّةً لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ، جَعَلَهَا سَبِيلًا لَهُ بِإِيثَارِهَا وَتَفْضِيلِهَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْغَيِّ؛ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْلُكُ الْغَيَّ عَلَى جَهْلٍ، فَإِذَا عَلِمَ بِمَا تَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَرَأَى لِنَفْسِهِ مَخْرَجًا مِنْهَا، تَرَكَهَا وَاخْتَارَ سَبِيلَ الرُّشْدِ عَلَيْهَا.
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَهَذِهِ الْحَالَةُ شَرٌّ مِمَّا قَبْلَهَا فَإِنَّ هَذِهِ إِيجَابِيَّةٌ وَتِلْكَ سِلْبِيَّةٌ، وَبَيْنَهُمَا حَالٌ أُخْرَى وَهِيَ حَالُ مَنْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ وَزَكَاءِ النَّفْسِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى سُلُوكِ الرُّشْدِ إِذَا رَآهُ لِضَعْفِ هِمَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَكْرَهُ الْغَيَّ وَالْفَسَادَ وَإِذَا لَمْ يَصِلْ مِنِ اعْتِلَالِ الْفِطْرَةِ وَظُلْمَةِ الْبَصِيرَةِ إِلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى الرُّشْدِ، وَإِيثَارِ سَبِيلِهِ وَاخْتِيَارِهَا لِنَفْسِهِ إِذَا رَآهَا، بِحَيْثُ لَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْفَسَادِ إِلَّا جَهْلُ سَبِيلِهِ أَوِ الْعَجْزُ عَنْ سُلُوكِهَا.
فَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ أَوِ الصِّفَاتُ، فَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ، فَلَمْ تَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ يَسْلُكُهَا، وَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} يَعْنِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْهُمْ مَطْبُوعِينَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ طَبْعًا، وَلَمْ يَجْبُرْهُمْ وَيُكْرِهْهُمْ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِكَسْبِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ لِلتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالصُّدُودِ عَنْ سَبِيلِهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الرُّشْدِ، وَكَانُوا غَافِلِينَ عَنْهَا دُونَ أَهْوَائِهِمْ لَا يُعْطُونَهَا حَقَّهَا مِنَ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ، لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَهْوَائِهِمْ وَعُصْبَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِآبَائِهِمْ، وَبِذَلِكَ قَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْهُدَى، فَالْغَفْلَةُ هُنَا: هِيَ الْغَفْلَةُ الْمَطْبُوعَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَالْفِطْنَةِ، لَا أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَفْلَةِ، بَلْ هِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: {وَلَقَدْ ذَرَأَنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الضَّالُّونَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْغَافِلِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا تَهْدِي إِلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى الْبَاقِيَةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (14: 3) وَيَقُولُ: {قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} (4: 167) إِذْ كَانَ لَهُمْ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَالْغُرُورِ بِهِ، وَاحْتِقَارِهِمْ مَا سِوَاهُ مَا يَصُدُّهُمْ عَنْ تَوْجِيهِ عُقُولِهِمْ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مُتَفَرْنِجَةُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، يَحْتَقِرُونَ هِدَايَةَ الدِّينِ الرُّوحِيَّةِ، وَلَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْعَظِيمِ فِي تَهْذِيبِ النَّفْسِ، وَحَمْلِهَا عَلَى الْخَيْرِ، وَصَدِّهَا عَنِ الشُّرُورِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ وَأَضَلَّهُمْ أَنَّهُمْ فِي عَصْرٍ وَصَلَ فِيهِ الْغَرْبِيُّونَ إِلَى غَايَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ عَاشَ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُمْ عَبْدًا لِشَهَوَاتِهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الْأَفْضَلُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا يَتَّبِعُوا مُوسَى عليه السلام؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَقُوَّتِهَا وَصِنَاعَاتِهَا وَفُنُونِهَا مَا كَانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (59: 2).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الْآيَاتِ، فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ بِمَعْنَى الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ مِنْ بَرَاهِينَ عَقْلِيَّةٍ نَظَرِيَّةً كَانَتْ أَوْ عِلْمِيَّةً أَوْ كَوْنِيَّةً، كَآيَاتِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَمِنْهَا مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَظْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا؛ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، مِنْ حَيْثُ هُوَ دَالٌّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهَا الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْهِدَايَةِ وَالْإِصْلَاحِ بِتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَمُنْكِرَاتِ الْأَعْمَالِ، وَاللِّقِاءُ مَصْدَرُ لَقِيَ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ، وَلَاقَاهُ كَالْمُلَاقَاةِ إِذَا صَادَفَهُ أَوْ قَابَلَهُ أَوِ انْتَهَى إِلَيْهِ، يُقَالُ: لَقِيَ زَيَدًا وَلَاقَاهُ وَلَقِيَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصْبًا} (18: 62) وَمَنْ يُلْقِ خَيْرًا يَحْمِدِ النَّاسُ أَمَرَهُ، وَلَقِيَ جَزَاءَهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَمُلَاقَاةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَارَةٌ عَنِ الْقِيَامَةِ وَعَنِ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} (2: 223) {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ} (2: 249).
وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ بِالْحَقِّ وَالْهُدَى عَلَى رُسُلِنَا فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ وَلَا اهْتَدَوْا بِهَا، وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ- عَلَى الْخَيْرِ بِالثَّوَابِ، وَعَلَى الشَّرِّ بِالْعِقَابِ- فَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، لَا يُجْزَوْنَ هُنَالِكَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ مَعًا أَوِ النَّفْسِيَّةِ فَقَطْ كَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ مِنْ حَقٍّ وَخَيْرٍ زَكَّاهَا وَأَصْلَحَهَا، أَوْ مِنْ بَاطِلٍ وَشَرٍّ دَسَّاهَا وَأَفْسَدَهَا- إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ فِي الْجَزَاءِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنَّمَا مَضَّتْ سُنَّتُهُ بِجَعْلِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ أَثَرًا لِلْعَمَلِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، كَأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا تُرَاجَعْ كَلِمَةُ جَزَاءٍ فِي فَهَارِسِ التَّفْسِيرِ.
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

.قِصَّةُ اتِّخَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْعِجْلِ:

فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاةِ مُوسَى عليه السلام لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَبَلِ الطُّورِ، اتَّخَذَ قَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِجْلًا مَصُوغًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَبَدُوهُ مَنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، لَمَّا كَانَ رُسِخَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ فَخَامَةِ مَظَاهِرِ الْوَثَنِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ فِي مِصْرَ، ذُكِرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ هُنَا مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ خَبَرِ الْمُنَاجَاةِ وَأَلْوَاحِ الشَّرِيعَةِ لِمَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ الْعَلَاقَةِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الزَّمَنِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ الْحُلِيُّ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ جَمْعِ حَلْيٍ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ فَهُوَ كَثُدِيٍّ جَمْعًا لِثَدْيٍ، وَهَذَا الْحُلِيُّ اسْتَعَارَهُ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ نِسَاءِ الْمِصْرِيِّينَ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ فَمَلَكُوهُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْعِرَابِ أَوِ الْجَوَامِيسِ، فَهُوَ كَالْحُوَارِ لِوَلَدِ النَّاقَةِ، وَالْمُهْرِ لِوَلَدِ الْفَرَسِ، وَالْحَمَلِ لِوَلَدِ الشَّاةِ، وَالْجَدْيِ لِوَلَدِ الْعَنْزِ، إِلَخْ، وَالْجَسَدُ الْجُثَّةُ وَبَدَنُ الْإِنْسَانِ حَقِيقَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ مَجَازًا، وَالْأَحْمَرُ كَالذَّهَبِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالدَّمِ الْجَافِّ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْجَسَدُ جِسْمُ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَجْسَامِ الْمُتَغَذِّيَةِ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِ الْإِنْسَانِ جَسَدٌ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَالْجَسَدُ: الْبَدَنُ، نَقُولُ مِنْهُ تَجَسَّدَ كَمَا تَقُولُ مِنَ الْجِسْمِ تَجَسَّمَ.
ابْنُ سِيدَهْ: وَقَدْ يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ جَسَدٌ. غَيْرُهُ: وَكُلُّ خَلْقٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَعْقِلُ فَهُوَ جَسَدٌ. وَكَانَ عِجْلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَسَدًا يَصِيحُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَكَذَا طَبِيعَةُ الْجِنِّ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} (20: 88) {جَسَدًا} بَدَلٌ مِنْ عِجْلٍ؛ لِأَنَّ الْعِجْلَ هُنَا هُوَ الْجَسَدُ، وَإِنْ شِئْتَ حَمَلْتَهُ عَلَى الْحَذْفِ؛ أَيْ: ذَا جَسَدٍ، وَقَوْلُهُ: {لَهُ خُوَارٌ} يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ رَاجِعَةً إِلَى الْعِجْلِ، وَأَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً إِلَى الْجَسَدِ، وَجَمْعُهُ أَجْسَادٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {عِجْلًا جَسَدًا} قَالَ: أَحْمَرُ مَنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: الْجَسَدُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ إِنَّمَا مَعْنَى الْجَسَدِ مَعْنَى الْجُثَّةِ فَقَطْ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} (21: 8) قَالَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ يَعْنِي عَلَى جَمَاعَةٍ، قَالَ وَمَعْنَاهُ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي أَجْسَادٍ إِلَّا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} (25: 7) فَأُعْلِمُوا أَنَّ الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ، الْمُبِرِّدُ وَثَعْلَبٌ: الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ كَلَامَيْنِ بِجَحْدَيْنِ كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا، قَالَا وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لِيَأْكُلُوا، قَالَا وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ: مَا سَمِعْتُ مِنْكَ، وَمَا أَقْبَلُ مِنْكَ مَعْنَاهُ إِنَّمَا سَمِعْتُ مِنْكَ لِأَقْبَلُ مِنْكَ قَالَا: وَإِنْ كَانَ الْجَحْدُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ الْكَلَامُ مَجْحُودًا جَحْدًا حَقِيقِيًّا قَالَا وَهُوَ كَقَوْلِكَ: مَا زِيدٌ بِخَارِجٍ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَ اللَّيْثُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} كَالْمَلَائِكَةِ، قَالَ وَهُوَ غَلَطٌ، وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ، كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْأَجْسَادِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَلَيْسُوا جَسَدًا فَإِنَّ ذَوِي الْأَجْسَادِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ. انْتَهَى، وَقَوْلُهُمْ: مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ؛ أَيِ: الْإِثْبَاتُ.