فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: الجزِع، قاله مجاهد.
والثالث: أنه الشديد الغضب، قاله ابن قتيبة، والزجاج.
وقال أبو الدرداء: الأسف: منزلة وراء الغضب أشدّ منه.
قوله تعالى: {قال} أي لقومه {بئسما خلفتموني من بعدي} فتح ياء {بعديَ} أهل الحجاز، وأبو عمرو؛ والمعنى: بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل.
{أعجِلتم أمر ربكم} قال الفراء: يقال: عَجِلْتُ الأمر والشيء: سبقتُه، ومنه هذه الآية.
وأعجلته: استحثثته.
قال ابن عباس: أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له؟! قال الحسن: يعنيَ وَعْدَ الأربعين ليلة.
قوله تعالى: {وألقى الألواح} التي فيها التوراة.
وفي سبب إلقائه إياها قولان:
أحدهما: أنه الغضب حين رآهم قد عبدوا العجل، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه لما رأى فضائل غير أُمته من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم اشتد عليه، فألقاها، قاله قتادة.
وفيه بُعد.
قال ابن عباس: لما رمى بالألواح فتحطمت، رُفع منها ستة أسباع، وبقي سُبع.
قوله تعالى: {وأخذ برأس أخيه} في ما أخذ به من رأسه ثلاثة أقوال:
أحدها: لحيته وذؤابته.
والثاني: شعر رأسه.
والثالث: أُذنه.
وقيل: إنما فعل به ذلك، لأنه توهم أنه عصى الله بمُقامه بينهم وتركِ اللحوق به، وتعريفِه ما أحدثوا بعده ليرجع إليهم فيتلافاهم ويردهم إلى الحق، وذلك قوله: {ما منعك إذ رأيتهم ضلُّوا ألاَّ تتَّبعن} [طه: 92، 93].
قوله تعالى: {ابن أُمَّ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم قال: {ابن أُمَّ} نصبًا.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر.
عن.
عاصم: بكسر الميم، وكذلك في [طه: 94] قال الزجاج: من فتح الميم، فلكثرة استعمال هذا الاسم، ومن كسر، أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسمًا واحدًا، ومن العرب من يقول: يا ابن أمي باثبات الياء.
قال الشاعر:
يَا ابْنَ أُمِّي ويَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ** أنتَ خَلَّفْتَنِي لدهرٍ شديدِ

وقال أبو علي: يحتمل أن يريد من فتح: {يا ابن أم} أُمَّا، ويحذف الألف، ومن كسر {ابن أمي} فيحذف الياء.
فإن قيل: لم قال: {يا ابن أمَّ} ولم يقل: يا ابن أب؟ فالجواب: أن ابن عباس قال: كان أخاه لأبيه وأُمه، وإنما قال له ذلك ليرفِّقه عليه.
قال أبو سليمان الدمشقي: والإِنسان عند ذكر الوالدة أرقُّ منه عند ذكر الوالد.
وقيل: كان لأمه دون أبيه، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: {إن القوم} يعني: عبدة العجل.
{استضعفوني} أي: استذلُّوني.
{فلا تُشمت بيَ الأعداء} قرأ عبد الله بن عباس، ومالك بن دينار، وابن عاصم: {فلا تَشْمَت} بتاء مفتوحة مع فتح الميم، {الاعداءُ} بالرفع.
وقرأ مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وأبو رجاء: {فلا تَشْمِتْ} بفتح التاء وكسر الميم، {الأعداءَ} بالنصب.
وقرأ أبو الجوزاء، وابن أبي عبلة مثل ذلك، إلا أنهما رفعا {الأعداء} ويعني بالأعداء: عبدة العجل.
{ولا تجعلني} في موجدتك وعقوبتك لي {مع القوم الظالمين} وهم عبدة العجل.
فلما تبين له عُذْرُ أخيه {قال رب اغفر لي}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}.
لم ينصرف {غَضْبَانَ} لأن مؤنّثه غَضْبَى، ولأن الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء.
وهو نصب على الحال.
و{أَسِفًا} شديد الغضب.
قال أبو الدَّرداء: الأسف منزلةٌ وراء الغضب أشد من ذلك.
وهو أسِف وأسِيف وأسْفان وأَسُوف.
والأسيف أيضًا الحزِين.
ابن عباس والسُّدِّي: رجع حزينًا من صنيع قومه.
وقال الطبرِيّ: أخبره الله عز وجل قبل رجوعه أنهم قد فُتِنُوا بالعجل؛ فلذلك رجع وهو غضبان.
ابن العربيّ: وكان موسى عليه السلام من أعظم الناس غضبًا، لكنه كان سريع الفَيْئة؛ فتِلك بتلك.
قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: كان موسى عليه السلام إذا غَضِب طلع الدُّخَان من قَلَنْسُوَتِه، ورفع شعرُ بدنه جُبَّتَه.
وذلك أن الغضب جَمْرة تتوقّد في القلب.
ولأجله أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم مَنْ غَضب أن يضطجع.
فإن لم يذهب غضبُه اغتسل: فيُخْمِدها اضطجاعُه ويطفئها اغتساله.
وسُرْعةُ غضبه كان سببًا لصَكّه مَلَكَ الموت ففقأ عينَه.
وقد تقدم في المائدة ما للعلماء في هذا.
وقال الترمذِيّ الحكيم: وإنما استجاز موسى عليه السلام ذلك لأنه كليم الله؛ كأنه رأى أن من اجترأ عليه أو مدّ إليه يدا بأذًى فقد عَظُم الخطب فيه.
ألا ترى أنه احتج عليه فقال: من أين تنزِع روحي؟ أمن فمِي وقد ناجيت به ربي! أَمْ مِن سمعي وقد سمعت به كلام رَبِّي! أم مِن يدي وقد قبضت منه الألواح! أم مِن قدمي وقد قمتُ بين يديه أُكلمه بالطُّور أمْ مِن عيني وقد أشرق وجهي لنوره.
فرجع إلى ربّه مُفْحَمًا.
وفي مُصَنّف أبي داود عن أبي ذرٍّ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «إذا غَضِب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فلْيضطجع» وروي أيضًا عن أبي وائل القاصّ قال: دخلنا على عروة بن محمد السّعدِيّ فكلمه رجل فأغضبه؛ فقام ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدّثني أبي عن جدّي عطيّة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الغضب من الشيطان وإنّ الشيطان خُلق من النار وإنما تُطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».
قوله تعالى: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي} ذَمٌّ منه لهم؛ أي بئس العملُ عمِلتم بعدي.
يقال: خَلَفَه؛ بما يكره.
ويقال في الخير أيضًا.
يقال منه: خَلَفَه بخير أو بشر في أهله وقومه بعد شخوصه.
{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي سبقتموه.
والعجلة: التقدّم بالشيء قبل وقته، وهي مذمومة.
والسرعة: عَمَل الشيء في أوّل أوقاته، وهي محمودة.
قال يعقوب: يقال عجلت الشيء سبقته.
وأعجلت الرجل استعجلته، أي حملته على العجلة.
ومعنى {أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي ميعاد ربكم، أي وعد أربعين ليلة.
وقيل: أي تعجّلتم سخط ربكم.
وقيل: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أَمْرٌ من ربكم.
قوله تعالى: {وَأَلْقَى الألواح} فيه مسألتان:
الأُولى قوله تعالى: {وَأَلْقَى الألواح} أي مما اعتراه من الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، وعلى أخيه في إهمال أمرهم؛ قاله سعيد بن جُبير.
ولهذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة.
ولا التفات لما رُوي عن قتادة إن صح عنه، ولا يصح: أنّ إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أُمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأُمّته.
وهذا قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدّم عن ابن عباس رضي الله عنه أن الألواح تكسّرت، وأنه رفع منها التفصيل وَبَقِيَ فيها الهدى والرحمة.
الثانية وقد استدل بعض جُهّال المتصوّفة بهذا على جواز رَمْي الثياب إذا اشتد طربُهم على المَغْنَى.
ثم منهم من يرمي بها صِحاحًا، ومنهم من يَخْرقها ثم يرمي بها.
قال: هؤلاء في غيبة فلا يُلامون؛ فإن موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجلَ، رمى الألواح فكسرها، ولم يدر ما صنع.
قال أبو الفرج الجَوْزِيّ: من يصحّح عن موسى عليه السلام أنه رماها رَمْيَ كاسر؟ والذي ذُكر في القرآن ألقاها، فمن أين لنا أنها تكسرت؟ ثم لو قيل: تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها؟ ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان في غيبة، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه.
ومَن يصحّح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغنى من غيره، ويحذرون من بئر لو كانت عندهم.
ثم كيف تقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء.
وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال: خطأ وحرام؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
فقال له قائل: فإنهم لا يعقلون ما يفعلون.
فقال: إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطَّرب يغلِب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما أدخلوه على أنفسهم من التخريق وغيره مما أفسدوا، ولا يسقط عنهم خطاب الشرع؛ لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنّب هذا الموضع الذي يُفضِي إلى ذلك.
كما هم منهِيُّون عن شرب المسكر، كذلك هذا الطَّرَب الذي يسميه أهل التصوف وَجْدًا إن صدقوا أن فيه سُكْرَ طبع، وإن كذبوا أفسدوا مع الصَّحْو، فلا سلامة فيه مع الحالين، وتجنّب مواضع الرِّيَب واجبٌ.
قوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} أي بلحيته وذؤابته.
وكان هارون أكبر من موسى صلوات الله وسلامه عليهما بثلاث سنين، وأحبّ إلى بني إسرائيل من موسى؛ لأنه كان لَيِّن الغضب.
وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربعة تأويلات:
الأوّل أن ذلك كان متعارَفًا عندهم؛ كما كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكرامًا وتعظيمًا، فلم يكن ذلك على طريق الإذلال.
الثاني أن ذلك إنما كان ليُسرّ إليه نزول الألواح عليه؛ لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يُخفيَها عن بني إسرائيل قبل التوراة.
فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي؛ لئلا يشتبه سِرارُه على بني إسرائيل بإذلاله.
الثالث إنما فعل ذلك به لأنه وقع في نفسه أن هارون مائلٌ مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل.
ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء.
الرابع ضَمّ إليه أخاه ليعلم ما لديه؛ فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه؛ فبيّن له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبَدَة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا.
فلما سمع عذره قال؛ رب اغفر لي ولأخي؛ أي اغفر لي ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، ولأخي لأنه ظنّه مقصِّرًا في الإنكار عليهم وإن لم يقع منه تقصير؛ أي اغفر لأخي إن قصّر.