فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا}.
في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى:
الاختيار: افتعال من لفظ الخير يقال: اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره، وأصل اختار: اختير، فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفًا نحو قال وباع، ولهذا السبب استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما، مختار، والأصل مختير ومختير فقلبت الياء فيهما ألفًا فاستويا في اللفظ.
وتحقيق الكلام فيه أن نقول: إن الأعضاء السليمة بحسب سلامتها الأصلية صالحة للفعل والترك، وصالحة للفعل ولضده، وما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع أن يصير مصدرًا لأحد الجانبين دون الثاني، وإلا لزم رجحان الممكن من غير مرجح، وهو محال، فإذا حكم الإنسان بأن له في الفعل نفعًا زائدًا وصلاحًا راجحًا، فقد حكم بأن ذلك الجانب خير له من ضده.
فعند حصول هذا الاعتقاد في القلب يصير الفعل راجحًا على الترك، فلولا الحكم بكون ذلك الطرف خيرًا من الطرف الآخر امتنع أن يصير فاعلًا، فلما كان صدور الفعل عن الحيوان موقوفًا على حكمه بكون ذلك الفعل خيرًا من تركه، لا جرم سمى الفعل الحيواني فعلًا اختياريًا والله أعلم.
فإن قيل: إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يرمي نفسه من شاهق جبل مع أنه يعلم أن ذلك ليس من الخيرات بل من الشرور.
فنقول: إن الإنسان لا يقدم على قتل نفسه إلا إذا اعتقد أنه بسبب ذلك القتل يتخلص عن ضرر أعظم من ذلك القتل، والضرر الأسهل بالنسبة إلى الضرر الأعظم يكون خيرًا لا شرًا.
وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم.
المسألة الثانية:
قال جماعة النحويين: معناه واختار موسى من قومه سبعين.
فحذفت كلمة من ووصل الفعل فنسب، يقال: اخترت من الرجال زيدًا واخترت الرجال زيدًا، وأنشدوا قول الفرزدق:
ومنا الذي اختار الرجال سماحة ** وجودًا إذا هب الرياح الزعازع

قال أبو علي والأصل في هذا الباب أن من الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد، ثم يتسع فيحذف حرف الجر فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني، من ذلك قولك اخترت من الرجال زيدًا ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيدًا وقولك أستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر:
أستغفر الله ذنبًا لست أحصيه.. ويقال أمرت زيدًا بالخير وأمرت زيدًا الخير قال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به.. والله أعلم.
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقًا لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم وقوله: {سَبْعِينَ رَجُلًا} عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكروه من التكلفات.
المسألة الثالثة:
ذكروا أن موسى عليه السلام اختار من قومه اثني عشر سبطًا من كل سبط ستة، فصاروا اثنين وسبعين، فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا، فقال إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع.
وروى أنه لم يجد إلا ستين شيخًا، فأوحى الله إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخًا فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا، ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى الميقات.
المسألة الرابعة:
هذا الاختيار هل هو للخروج إلى الميقات الذي كلم الله تعالى موسى فيه وسأل موسى من الله الرؤية أو هو للخروج إلى موضع آخر؟ فيه أقوال للمفسرين:
القول الأول: إنه لميقات الكلام والرؤية قالوا: إنه عليه السلام خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام، حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى عليه السلام.
ودخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجدًا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل.
ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية وقالوا: {يا موسى لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} [البقرة: 55] وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية، فقال موسى عليه السلام: {رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} فالمراد منه قولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً}.
والقول الثاني: أن المراد من هذا الميقات ميقات مغاير لميقات الكلام وطلب الرؤية، وعلى هذا القول فقد اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أن هؤلاء السبعين وإن كانوا ما عبدوا العجل إلا أنهم ما فارقوا عبدة العجل عند اشتغالهم بعبادة العجل.
وثانيها: أنهم ما بالغوا في النهي عن عبادة العجل.
وثالثها: أنهم لما خرجوا إلى الميقات ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا أعطنا ما لم تعطه أحدًا قبلنا، ولا تعطيه أحدًا بعدنا، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك الكلام فأخذتهم الرجفة.
واحتج القائلون بهذا القول على صحة مذهبهم بأمور: الأول: أنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة، وظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة التي لا ينكر أنه يمكن أن يكون هذا عودًا إلى تتمة الكلام في القصة الأولى إلا أن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الواحدة في موضع واحد.
ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها، فأما ما ذكر بعض القصة، ثم الانتقال منها إلى قصة أخرى، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى، فإنه يوجب نوعًا من الخبط والاضطراب، والأولى صون كلام الله تعالى عنه.
الثاني: أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم يظهر هناك منكر، إلا أنهم {قَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً} فلو كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية إنما حصلت بسبب ذلك القول لوجب أن يقال: أتهلكنا بما يقوله السفهاء منا؟ فلما لم يقل موسى كذلك بل قال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بسبب إقدامهم على عبادة العجل لا بسبب إقدامهم على طلب الرؤية.
الثالث: أن الله تعالى ذكر في ميقات الكلام والرؤية أنه خر موسى صعقًا وأنه جعل الجبل دكًا، وأما الميقات المذكور في هذه الآية، فإن الله تعالى ذكر أن القوم أخذتهم الرجفة، ولم يذكر أن موسى عليه السلام أخذته الرجفة، وكيف يقال أخذته الرجفة، وهو الذي قال لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي؟ واختصاص كل واحد من هذين الميقاتين بهذه الأحكام يفيد ظن أن أحدهما غير الآخر.
واحتج القائلون بأن هذا الميقات هو ميقات الكلام وطلب الرؤية بأن قالوا إنه تعالى قال في الآية الأولى:
{وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143] فدلت هذه الآية على أن لفظ الميقات مخصوص بذلك الميقات، فلما قال في هذه الآية: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لميقاتنا} وجب أن يكون المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات.
وجوابه: أن هذا الدليل ضعيف، ولا شك أن الوجوه المذكورة في تقوية القول الأول أقوى.
والله أعلم.
والوجه الثالث: في تفسير هذا الميقات ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن موسى وهرون عليهما السلام انطلقا إلى سفح جبل، فنام هارون فتوفاه الله تعالى، فلما رجع موسى عليه السلام قالوا إنه هو الذي قتل هرون، فاختار موسى قومه سبعين رجلًا وذهبوا إلى هارون فأحياه الله تعالى وقال ما قتلني أحد، فأخذتهم الرجفة هنالك، فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
والله أعلم.
المسألة الخامسة:
اختلفوا في تلك الرجفة فقيل: إنها رجفة أوجبت الموت.
قال السدي: قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ولم يبق معي منهم واحد؟ فماذا أقول لبني إسرائيل وكيف يأمنوني على أحد منهم بعد ذلك؟ فأحياهم الله تعالى.
فمعنى قوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى} أن موسى عليه السلام خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوا أنهم ماتوا، فقال لربه: لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني.
والقول الثاني: أن تلك الرجفة ما كانت موتًا، ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم، وتنقصم ظهورهم، وخاف موسى عليه السلام الموت، فعند ذلك بكى ودعا فكشف الله عنهم تلك الرجفة.
أما قوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} فقال أهل العلم: إنه لا يجوز أن يظن موسى عليه السلام أن الله تعالى يهلك قومًا بذنوب غيرهم، فيجب تأويل الآية، وفيه بحثان: الأول: أنه استفهام بمعنى الجحد، وأراد أنك لا تفعل ذلك.
كما تقول: أتهين من يخدمك؟ أي لا تفعل ذلك.
الثاني: قال المبرد: هو استفهام استعطاف، أي لا تهلكنا.
وأما قوله: {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} فقال الواحدي رحمه الله: الكناية في قوله: {هِىَ} عائدة إلى الفتنة كما تقول: إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند.
والمعنى: أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أضللت بها قومًا فافتتنوا، وعصمت قومًا عنها فثبتوا على الحق، ثم أكد بيان أن الكل من الله تعالى، فقال: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشاءُ} ثم قال الواحدي: وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر.
قالت المعتزلة: لا تعلق للجبرية بهذه الآية لأنه تعالى لم يقل؛ تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين، ولأنه تعالى قال: {تُضِلُّ بِهَا} أي بالرجفة، ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها، فوجب حمل هذه الآية على التأويل.
فأما قوله: {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} فالمعنى: امتحانك وشدة تعبدك، لأنه لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر عليها.
وأما قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ} ففيه وجوه: الأول: تهدي بهذا الامتحان إلى الجنة والثواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ويبقى على الإيمان، وتعاقب من تشاء بشرط أن لا يؤمن، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه.
والثاني: أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك، والتقدير: تهلك من تشاء بهذه الرجفة وتصرفها عمن تشاء.
والثالث: أنه لما كان هذا الامتحان كالسبب في هداية من اهتدى، وضلال من ضل، جاز أن يضافا إليه.
واعلم أن هذه التأويلات متسعة، والدلائل العقلية دالة على أنه يجب أن يكون المراد ما ذكرناه، وتقريرها من وجوه: الأول: أن القدرة الصالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطرف الآخر، إلا لأجل داعية مرجحة، وخالق تلك الداعية هو الله تعالى، وعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أن الهداية من الله تعالى وأن الإضلال من الله تعالى.
الثاني: أن أحدًا من العقلاء لا يريد إلا الإيمان والحق والصدق، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل واحد مؤمنًا محقًا، وحيث لم يكن الأمر كذلك ثبت أن الكل من الله تعالى.
الثالث: أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل، امتنع أن يخص أحد الاعتقادين بالتحصيل والتكوين، لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل، يقتضي كونه عالمًا بذلك المعتقد أولًا كما هو عليه، فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلًا، وذلك يقتضي كون الشيء مشروطًا بنفسه وأنه محال، فثبت أنه يمتنع أن يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد، وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة والله أعلم.
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال بعد ذلك: {أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} واعلم أن قوله: {أَنتَ وَلِيُّنَا} يفيد الحصر، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت، وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ} وقوله: {فاغفر لَنَا وارحمنا} المراد منه أن إقدامه على قوله: {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} جراءة عظيمة، فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها وقوله: {وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبًا للثناء الجميل أو للثواب الجزيل، أو دفعًا للربقة الخسيسة عن القلب، وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر، أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض، بل لمحض الفضل والكرم، فوجب القطع بكونه {خَيْرُ الغافرين} والله أعلم. اهـ.