فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {واختار موسى قومه} الآية، معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء ليكون منه ومنهم اعتذار إلى الله عز وجل من خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل وطلب لكمال العفو عمن بقي منهم، وروي عن علي بن أبي طالب أن اختيارهم إنما كان بسبب قول بني إسرائيل أن موسى قتل هارون حين ذهب معه ولم يرجع، فاختار هؤلاء ليذهبوا فيكلمهم هارون بأنه مات بأجله، وقوله: {لميقاتنا} يؤيد القول الأول وينافر هذا القول لأنها تقتضي أن ذلك كان عن توقيت من الله عز وجل وعدة في الوقت الموضع، وتقدير الكلام: واختار موسى من قومه، فلما انحذف الخافض تعدى الفعل فنصب، وهذا كثير في كلام العرب.
واختلف العلماء في سبب {الرجفة} التي حلت بهم، فقيل كانت عقوبة لهم على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل، وقيل: كانت على عبادتهم العجل بأنفسهم وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله، قاله السدي، وقيل: كانت عقوبة لهم لأنهم لما دنوا وعلموا أن موسى يسمع كلام الله قالوا له: أرنا ربك فأخذتهم الرجفة، وقيل: كانت عقوبة لتشططهم في الدعاء بأن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدًا قبلنا ولا تعطيه أحدًا بعدنًا، فأخذتهم الرجفة، وقيل: إنما أخذتهم لما سمعوا كلام هارون وهو ميت، وذلك أن موسى وهارون ذهبا إلى التعبد أو نحوه فمات هارون فدفنه موسى وجاء فقالت له بنو إسرائيل: أين هارون؟ فقال: مات، فقالوا بل أنت قتلته لأنك حسدتنا على حسن خلقه وعشرته، فاختار السبعين ليمضوا معه حتى يروا برهان ما قال لهم، فلما وصلوا قال له موسى يا هارون أقتلت أم مت؟ فناداه من القبر بل مت فأخذت القوم الرجفة.
قال القاضي أبو محمد: وروي أنهم ماتوا في رجفتهم هذه، ويحتمل أن كانت كالإغماء ونحوه، و{الرجفة} الاهتزاز والتقلقل للهول العظيم، فلما رأى موسى ذلك أسف عليه وعلم أن أمر بني إسرائيل سيتشعب عليه إذا لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أي رب لو أهلكتهم قبل هذه الحال إياي لكان أحق عليّ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسد على مؤذٍ لي، ثم استفهم على جهة الرغبة والتضرع والتذلل، ويحتمل قوله: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} أن يريد وقت إغضائهم على عبادة العجل أي وقت عبادتهم على القول بذلك وفي نفسه هو وقت قتله القبطي، أي فأنت قد سترت وعفوت حينئذ فكيف الآن إذا رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل، فمنحى الكلام على هذا محض استعطاف، وعلى التأويل الأول منحاه الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف، وإذا قلنا إن سبب الرجفة كان عبادة العجل كان الضمير في قوله: {اتهلكنا} له وللسبعين، و{السفهاء} إشارة إلى العبدة من بني إسرائيل، وكذلك إذا كان سببها قول بني إسرائيل له قتلت هارون، وإذا كان سبب الرجفة طلبهم الرؤية وتشطههم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل فالضمير في قوله: {أتهلكنا} يريد به نفسه وبني إسرائيل، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم، ويكون قوله: {السفهاء} إشارة إلى السبعين، وروي أن السبعين لم يكن فيهم من زاد على الأربعين ولا من قصر عن العشرين، وروي عن علي بن أبي طالب أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم، وقالت فرقة: إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله عز وجل أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء} أي الأمور بيدك تفعل ما تريد، وقيل: إن الله تعالى لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال موسى: أي رب ومن أخاره؟ قال أنا، قال موسى: فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ويحتمل أن يشير بها إلى قولهم: أرنا الله إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة، وفي هذه الآية رد على المعتزلة، و{اغفر} معناه ستر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ}.
المعنى: اختار من قومه فحُذف من، تقول العرب: اخترتك القوم، أي: اخترتك من القوم، وأنشدوا:
مِنَّا الذي اخِتيرَ الرِّجَالَ سَمَاحةً ** وجُودًا إذا هبَّ الرِّياح الزَّعازعُ

هذا قول ابن قتيبة، والفراء، والزجاج.
وفي هذا الميقات أربعة أقوال:
أحدها: أنه الميقات الذي وَقَّتَهُ الله لموسى ليأخذ التوراة، أُمر أن يأتيَ معه بسبعين، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال نوف البِكَاليُّ.
والثاني: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله تعالى لموسى، وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلًا ليدعو ربهم، فدعَوْا فقالوا: اللهم أعطنا مالم تعط أحدًا قبلنا، ولا تعطيه أحدًا بعدنا، فكره الله ذلك، وأخذتهم الرجفة؛ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى، لأن بني إسرائيل قالوا له: إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك، فخذ معك طائفة منا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التهمة، فأوحى الله اليه ان أختر من خيارهم سبعين، ثم ارتقِ بهم على الجبل أنت وهارون، واستخلف يوشع بن نون، ففعل ذلك، قاله وهب بن منبه.
والرابع: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل، فيعتذر إليه من فِعْل عبدة العجل، قاله السدي.
وقال ابن السائب: كان موسى لا يأتي إلا بإذن منه.
فأما الرجفة فهي: الحركة الشديدة.
وفي سبب أخذها إياهم أربعة أقوال:
أحدها: أنه ادعاؤهم على موسى قتل هارون؛ قاله علي بن أبي طالب.
والثاني: اعتداؤهم في الدعاء وقد ذكرناه في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنهم لم ينهَوْا عبدة العجل ولم يرضَوْا؛ نُقل عن ابن عباس.
وقال قتادة، وابن جريج: لم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهَوْهم عن المنكر، ولم يزايلوهم.
والرابع: أنهم طلبوا استماع الكلام من الله تعالى، فلما سمعوه قالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] قاله السدي، وابن إسحاق.
قوله تعالى: {قال رب لو شئت أهلكتَهم من قبلُ وإيَّاي} قال السدي: قام موسى يبكي ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم {لو شئتَ أهلكتهم من قبلُ وإياي} قال الزجاج: لو شئت أمتَّهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة.
وقيل: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.
قوله تعالى: {أتُهْلِكُنا بما فعل السفهاء منا} قال المبرِّد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا تُهلكْنا.
وقال ابن الأنباري: هذا استفهام على تأويل الجحد، أراد: لست تفعلُ ذلك.
{والسفهاء} هاهنا: عبدة العجل.
وقال الفراء: ظن موسى أنهم أُهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل.
وإنما أُهلكوا بقولهم: {أرنا الله جهرة}.
قوله تعالى: {إن هي إلا فتنتك} فيها قولان:
أحدهما: أنها الابتلاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية.
والثاني: العذاب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
قوله تعالى: {أنت ولِّيُنَا} أي: ناصرنا وحافظنا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا}.
مفعولان، أحدهما حذفت منه مِن؛ وأنشد سيبوية:
مِنّا الذي اختير الرجالَ سَماحةً ** وبِرًّا إذا هَبّ الرِّياح الزَّعازِع

وقال الراعي يمدح رجلًا:
اخترتك الناسَ إذ رَثّت خلائقُهُم ** واختل مَن كان يرجى عنده السُّولُ

يريد: اخترتك من الناس.
وأصل اختار اختير؛ فلما تحرّكت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفًا، نحو قال وباع.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي ماتوا.
والرجفة في اللغة الزلزلة الشديدة.
ويروى أنهم زلزلوا حتى ماتوا.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} أي أمَتّهم؛ كما قال عز وجل: {إِن امرؤ هَلَكَ} [النساء: 176].
{وإياي} عطف.
والمعنى: لو شئت أمتَّنَا من قبل أن نخرج إلى الميقات بمحضر بني إسرائيل حتى لا يتهموني.
أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا يحيى بن سعيد القَطّان عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد عن عليّ رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون صلى الله عليهما وانطلق شَبّر وشَبير هما ابنا هارون فانتهوا إلى جبل فيه سرير، فقام عليه هارون فقُبض روحه.
فرجع موسى إلى قومه، فقالوا: أنت قتلته، حسدتنا على لِينه وعلى خُلُقه، أو كلمة نحوها.
الشك من سفيان، فقال: كيف أقتله ومعي ابناه! قال: فاختاروا من شئتم؛ فاختاروا من كل سِبْط عشرة.
قال: فذلك قوله: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لميقاتنا} فانتهوا إليه؛ فقالوا: مَن قتلك يا هارون؟ قال: ما قتلني أحد ولكن الله توفّاني.
قالوا: يا موسى، ما تُعْصَى.
فأخذتهم الرجفة، فجعلوا يتردّدون يمينًا وشمالًا، ويقول: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ}.
قال: فدعا الله فأحياهم وجعلهم أنبياء كلَّهم.
وقيل: أخذتهم الرجفة لقولهم: أرنا الله جهرة؛ كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} [البقرة: 55].
على ما تقدّم بيانه في البقرة.
وقال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينَهْوا من عبد العجل، ولم يرضَوْا عبادته.
وقيل: هؤلاء السبعون غيرُ من قالوا أرنا الله جهرة.
وقال وهب: ما ماتوا، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تَبِين مفاصلُهم، وخاف موسى عليهم الموت.
وقد تقدّم في البقرة عن وهب أنهم ماتوا يومًا وليلة.
وقيل غير هذا في معنى سبب أخذهم بالرجفة.
والله أعلم بصحة ذلك.
ومقصود الاستفهام في قوله: {أَتُهْلِكُنَا} الجَحْد؛ أي لست تفعل ذلك.
وهو كثير في كلام العرب.
وإذا كان نفيًا كان بمعنى الإيجاب؛ كما قال:
ألستمْ خيرَ مَنْ ركب المطايا ** وأندى العالمين بُطون راحِ

وقيل: معناه الدعاء والطلب، أي لا تهلكنا؛ وأضاف إلى نفسه.
والمراد القوم الذين ماتوا من الرجفة.
وقال المبرّد: المراد بالاستفهام استفهامُ استعظامٍ؛ كأنه يقول: لا تهلكنا، وقد علم موسى أن الله لا يهلك أحدًا بذنب غيره؛ ولكنه كقول عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118].
وقيل: المراد بالسفهاء السبعون.
والمعنى: أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً}.
{إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي ما هذا إلا اختبارك وامتحانك.
وأضاف الفتنة إلى الله عز وجل ولم يضفها إلى نفسه؛ كما قال إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى.
وقال يُوشع: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} [الكهف: 63].
وإنما استفاد ذلك موسى عليه السلام من قوله تعالى له: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} [طه: 85].
فلما رجع إلى قومه ورأى العجل منصوبًا للعبادة وله خُوار قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا} أي بالفتنة.
{مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ} وهذا رَدٌّ على القدرية. اهـ.