فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني في شأن جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ باتخاذ العجل والملاحة والافتراق من لوازم النظم، وتعقب ما ذكر فيه ثانيًا بأن قول السدي وحده لا يصلح ردًا كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في قوله سبحانه: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم} إنهم كانوا له وزراء مطيعين فاشتد عليه عليه السلام فقدهم فرحمهم وخاف عليهم الفوت وأين {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] من الطاعة وحسن الاستئزار قال: ثم الظاهر من قوله تعالى: {فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل} [النساء: 153] إن اتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما نقل عن السدي والحمل على تراخي الرتبة لابد له من سند كيف ولا ينافي التراخي الزماني فلابد من دليل يخصه به، هذا وقد اعترف المفسرون في سورة طه بأنه اختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يا موسى موسى} [طه: 83] وما اعتذر عنه الطيبي بأن اختيار السبعين كان مرتين وليس في النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية فظاهر للمنصف سقوطه انتهى.
وذكر القطب في توهين ما نقل عن السدي بأن الخروج للاعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار، وإن كان قبل قتلهم فالعجب من اعتذار ثمرته قتل الأنفس، ثم قال: ولا ريب أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها، وفي أخرى بعض أخر وليس ذلك إلا لتكرار اعتبار المعتبرين بشيء من تلك القصة فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الاعتبار. اهـ، وهو ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون، وأنا أقول: إن القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع كما أشرنا إليه، وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الإنصاف أن ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لا يقتضي أنه ظاهر في خلافه، وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين.
فقد أخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد أن موسى عليه السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون الله تعالى ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم فعلم موسى أنهم أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم، قال أبو سعد: فحدثني محمد بن كعب القرظي أنه لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف.
وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى بن أخي الرقاشي أن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام ألست ابن عمنا ومنا وتزعم أنك كلمت رب العزة؟ فإنا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فلما أبوا إلا ذلك أوحى الله تعالى إلى موسى أن اختر من قومك سبعين رجلًا فاختار سبعين خيرة ثم قال لهم: اخرجوا فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به الخبر.
وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول.
نعم إنه مخالف لما روي عن السدي لكنهما متفقان على القول بالغيرية ويوافق السدي في ذلك الحسن أيضًا فليس هو متفردًا بذلك كما ظنه صاحب الكشف، وما ذكره من مخالفة كلام السدي لما نقله محيي السنة في حيز المنع، وقوله: فإنا لن نؤمن لك إلخ يظهر جوابه مما ذكرناه في البقرة عند هذه الآية من الاحتمالات، والقول بأن الاختيار كان مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم، وما ذكره القطب من الترديد في الخروج للاعتذار ظاهر بعض الروايات عن السدي يقتض تعين الشق الأول منه.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال: {مَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يا موسى موسى} [طه: 83] فأجابه موسى بما أجابه فقال سبحانه: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} [طه: 85] الآية فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا فأبى الله تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا ففعلوا ثم أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعدًا فاختار موسى سبعين رجلًا إلخ وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه، والقول بأنه لا معنى للاعتذار بعد قل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن المعنى يحتمل أن يكون طلبًا لزيادة الرضى واستنزال مزيد الرحمة، ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيدًا للإيذان بعظم الجناية وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغًا في السوء لا يكفي في العفو عنه قتل الأنفس بل لابد فيه مع ذلك الاعتذار، ويمكن أن يقال إنه كان قبل قتلهم أنفسهم: والسر في أنهم أمروا به أن يعلموا أيضًا عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله والله تعالى أعلم {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها والكثير على أنهم ماتوا جميعًا ثم أحياهم الله تعالى، وقيل: غشي عليهم ثم أفاقوا وذلك لأنهم قالوا:
{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] على ما في بعض الروايات أو ليتحقق عند القائلين ذلك من قومهم مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر منها، أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي، والظاهر أن قولهم: لن نؤمن إلخ صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما قيل: ونقلناه في البقرة وحينئذٍ يبعد على ما قيل القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية بعد كلام الله تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فكون هذا الطلب بعده، وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى عليه السلام.
وما أخرجه ابن أبي الدنيا: وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لما حضر أجل هارون أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل فإنا قابضو روحه فانطلقوا جميعًا فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال: ما أحسن هذا المكان يا هارون فاضطجع عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى وابن أخه إلى بني إسرائيل حزينين فقالوا له: أين هارون: قال مات؟ قالوا: بل قتلته كنت تعلم إنا نحبه فقال لهم: ويلكم أقتل أخي وقد سألته الله تعالى وزيرًا ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني.
قالوا بلى: قتلته حسدًا، قال: فاختاروا سبعين رجلًا فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطًا فانطلق هو وابن هارون.
وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال: يا هارون من فتلك؟ قال: لم يقتلني أحد ولكني مت قالوا: ما تعصى يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى عليه السلام يدعو ربه فأحياهم الله تعالى فرجعوا إلى قومهم أنبياء لا يكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات عنه.
{قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ} عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريًا على مقتضى كرمك وإنما قال: {وإياي} تسليمًا منه وتواضعًا، وقيل: أراد بقوله: {أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ} حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها أي لو شئت إهلاكهم بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضًا حين طلبت منك الرؤية، وقيل: حين قتل القبطي لأهلكتنا، وقيل: هو تمن منه عليه السلام للإهلاك جميعًا بسبب محبته أن لا يرى ما يرى من مخالفتهم له مثلًا أو بسبب آخر وفيه دغدغة {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل، والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عز وجل كما قال ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قال المبرد أي لا تهلكنا، وإيا ما كان فهو من مقول موسى عليه السلام كالذب قبله، وقول بعضهم: كان ذلك قاله بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه، والقول بأن الداعي ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفى ما فيه، ولعل مراد القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد السبعين فكأنه قاله على لسانهم لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا به دوه فافهم {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} استئناف مقرر لما قبله واعتذار عما وقع منهم وإن نافية وهي للفتنة المعلومة للسياق أي ما الفتنة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله أو أوجدت في العجل خوارًا فزاغوا به.
أخرج ابن أبي حاتم عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام: إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا قال: فأنت أضببتهم يا رب قال: يا رأس النبيين يا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم، ولعل هذا اشارة إلى الاستعداد الأزلي الغير المجعول.
وقيل: الضمير راجع على الرجفة أي ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا، وروي هذا عن الربيع.
وابن جبير.
وأبي العالية، وقيل: الضمير لمسألة الإراءة وإن لم تذكر.
{تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء} استئناف مبين لحكم الفتنة، وقيل: حال من المضاف إليه أو المضاف أي تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو باتباع المخايل أو بنحو ذلك وتهدي من تشاء هداه فيقوى بها إيمانه، وقيل: المعنى تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن تشاء، وقيل: تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من تشاء وهو كما ترى {أَنتَ وَلِيُّنَا} أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية لا غيرك {فاغفر لَنَا} ما يترتب عليه مؤاخذتك {وارحمنا} بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا، والفاء لترتيب الدعاء على ما قبله من الولاية لأن من شأن من يلى الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع، وقدم طلب المغفرة على طلب الرحمة لأن التخلية أهم من التحلية، وسؤال المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لا ضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لا يخفى، والقول بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول: {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} جرأة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق، ولا أظن أن الله تعالى عد ذلك ذنبًا منه ليستغفره عنه، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك.
{وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} إذا كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفساني كحب الثناء ودفع الضرر وأنت تغفر لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبل، وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم.
وفسر بعضهم ما ذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون تذييلًا لأغفر وارحم معا. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [155].
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا}.
روى محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام، لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل، وذراه في اليم، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلًا، الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله، فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون- فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه، لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل.
فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا، فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة} وهي الصاعقة التي يحصل منها الإضطراب الشديد، فماتوا جميعًا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} قد سفهوا، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل؟