فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال نَوفٌ: قال الله تعالى لموسى: أجعل لكم الأرض طهورًا ومسجدًا، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرؤها الرجل منكم، والمرأة، والحر، والعبد، والصغير، والكبير، فأخبر موسى قومه بذلك، فقالوا: لا نريد أن نصليَ إلا في الكنائس والبِيَع، ولا أن تكون السكينة إلا في التابوت، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظرًا، فقال الله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} إلى قوله: {المفلحون}.
وفي هؤلاء المذكورين في قوله: {للذين يتقون ويؤتون الزكاة} إلى قوله: {المفلحون} قولان:
أحدهما: أنهم كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتبعه، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي، وقتادة.
وفي تسميته بالأمي قولان:
أحدهما: لأنه لا يكتب.
والثاني: لأنه من أُمَّ القرى.
قوله تعالى: {الذي يجدونه مكتوبًا عندهم} أي: يجدون نعته ونبوَّته.
قوله تعالى: {يأمرهم بالمعروف} قال الزجاج: يجوز أن يكون مستأنَفًا، ويجوز أن يكون {يجدونه مكتوبًا عندهم} أنه يأمرهم بالمعروف.
قال ابن عباس: المعروف: مكارم الأخلاق، وصلة الارحام.
والمنكر: عبادة الأوثان، وقطع الأرحام.
وقال مقاتل: المعروف: الإيمان، والمنكر: الشر.
وقال غيره: المعروف: الحق، لأن العقول تعرف صحته، والمنكر: الباطل، لأن العقول تنكر صحته.
وفي الطيبات أربعة أقوال:
أحدها: أنها الحلال، والمعنى: يُحل لهم الحلال.
والثاني: أنها ما كانت العرب تستطيبه.
والثالث: أنها الشحوم المحرَّمة على بني إسرائيل.
والرابع: ما كانت العرب تحرِّمه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.
وفي الخبائث ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الحرام، والمعنى: ويحرِّم عليهم الحرام.
والثاني: أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله، كالحيات، والحشرات.
والثالث: ما كانوا يستحلُّونه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
قوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {إِصرهم}.
وقرأ ابن عامر: {آصارهم} ممدودة الألف على الجمع.
وفي هذا الإِصر قولان:
أحدهما: أنه العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة، قاله ابن عباس.
والثاني: التشديد الذي كان عليهم من تحريم السبت، وأكل الشحوم والعروق، وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة.
وقال مسروق: لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح وقد كُتب على باب بيته: إن كفارته أن تنْزِع عينيك فيْنزِعهُما.
قوله تعالى: {والأغلال التي كانت عليهم} قال الزجاج: ذِكر الأغلال: تمثيل، ألا ترى أنك تقول: جعلت هذا طوقًا في عنقك، وليس هناك طوق، إنما جعلت لزومه كالطوق.
والأغلال: أنه كان عليهم أن لا يُقبَل منهم في القتل دية، وأن لا يعملوا في السبت، وأن يَقْرِضُوا ما أصاب جلودهم من البول.
قوله تعالى: {فالذين آمنوا به} يعني: بمحمد صلى الله عليه وسلم {وعزَّروهُ} وروى أبان {وعَزَروه} بتخفيف الزاي.
وفي المعنى قولان:
أحدهما: نصروه وأعانوه، قاله مقاتل.
والثاني: عظَّموه، قاله ابن قتيبة.
والنور الذي أنزل معه: القرآن، سماه نورا، لأن بيانه في القلوب كبيان النور في العيون.
وفي قوله: {معه} قولان:
أحدهما: أنها بمعنى عليه.
والثاني: بمعنى أُنزل في زمانه، قال قتادة.
أما نصره، فقد سُبقتم إليه، ولكن خيركم من آمن به واتبع النور الذي أُنزل معه. اهـ.

.قال القرطبي:

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}.
فيه عشر مسائل:
الأولى روى يحيى بن أبي كثير عن نَوْف البِكَالِيّ الحِمْيَريّ: لما اختار موسى قومه سبعين رجلًا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى: أن أجعل لكم الأرض مسجدًا وطهورًا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مِرحاض أو حمّام أو قبر، واجعل السكِينة في قلوبكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير.
فقال ذلك موسى لقومه، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع حمل السكِينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلا نظرًا.
فقال الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله: {المفلحون}.
فجعلها لهذه الأمة.
فقال موسى: يا رب، اجعلني نبيّهم.
فقال: نبيهم منهم.
قال: رب اجعلني منهم.
قال: إنك لن تدركهم.
فقال موسى: يا رب، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وفادتنا لغيرنا.
فأنزل الله عز وجل: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159].
فرضي موسى.
قال نَوْف: فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم.
وذكر أبو نعيم أيضًا هذه القصة من حديث الأوزاعيّ قال: حدّثنا يحيى بن أبي عمرو السّيْبَاني قال حدثني نَوْف البِكالي إذا افتتح موعظة قال: ألا تحمدون ربكم الذي حفظ غيبتكم وأخذ لكم بعد سهمكم وجعل وفادة القوم لكم.
وذلك أن موسى عليه السلام وفَد ببني إسرائيل فقال الله لهم: إني قد جعلت لكم الأرض مسجدًا حيثما صليتم فيها تقبلت صلاتكم إلا في ثلاثة مواطن من صلى فيهن لم أقبل صلاته المقبرة والحمام والمرحاض.
قالوا: لا، إلا في الكنيسة.
قال: وجعلت لكم التراب طهورًا إذا لم تجدوا الماء.
قالوا: لا، إلا بالماء.
قال: وجعلت لكم حيثما صلى الرجل فكان وحده تقبلت صلاته.
قالوا: لا، إلا في جماعة.
الثانية: قوله تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي} هذه الألفاظ كما ذكرنا أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وخلصت هذه العِدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما.
و{يَتَّبِعُونَ} يعني في شرعه ودينه وما جاء به.
والرسول والنبيّ اسمان لمعنيين؛ فإن الرسول أخصُّ من النبيّ.
وقدّم الرسول اهتمامًا بمعنى الرسالة؛ وإلاّ فمعنى النبوة هو المتقدّم؛ ولذلك ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على البَرَاء حين قال: وبرسولك الذي أرسلت.
فقال له: «قل آمنت بنبيك الذي أرسلت» خرّجه في الصحيح.
وأيضًا فإن في قوله: «وبرسولك الذي أرسلت» تكرير الرسالة؛ وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه.
بخلاف قوله: «ونبيك الذي أرسلت» فإنهما لا تكرار فيهما.
وعلى هذا فكل رسول نبيّ، وليس كل نبيّ رسولا؛ لأن الرسول والنبيّ قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة.
فإذا قلت: محمد رسول من عند الله تضمّن ذلك أنه نبيّ ورسول الله.
وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
الثالثة: قوله تعالى: {الأمي} هو منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها.
لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها؛ قاله ابن عزيز.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميًا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب؛ قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنبكوت: 48].
وروي في الصحيح عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّا أمَّةٌ أميّة لا نَكتب ولا نحسُب» الحديث.
وقيل: نسب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة أمِّ القرى؛ ذكره النحاس.
الرابعة: قوله تعالى: {الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} روى البخاريّ قال: حدّثنا محمد بن سنان قال حدّثنا فُلَيْح قال حدثنا هلال عن عطاء بن يَسار لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة.
فقال: أجَلْ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] وحِرْزًا للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكِّل، ليس بفَظٍّ ولا غليظ ولا صَخَّاب في الأسواق.
ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله تعالى حتى يِقيم به الملة العَوْجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْقًا.
في غير البخاري قال عطاء: ثم لقِيت كَعْبًا فسألته عن ذلك فما اختلفا حرفًا، إلا أن كعبًا قال بِلغتِه: قلوبًا غُلُوفِيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا.
قال ابن عطية: وأظنّ هذا وهمًا أو عُجمة.
وقد روي عن كعب أنه قالها: قلوبًا غلوفًا وآذانًا صمومًا وأعينا عموميًا.
قال الطبري: هي لغة حِميَرِية.
وزاد كعب في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشأم، وأمّته الحامدون، يحمدون الله على كل حال وفي كل منزل، يُوضِئون أطرافهم ويَأَتَزِرون إلى أنصاف ساقهم، رعاة الشمس، يصلّون الصلوات حيثما أدركتهم ولو على ظهر الكناسة، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة.
ثم قرأ {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].
الخامسة: قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} قال عطاء: {يَأْمُرُهُم بالمعروف} بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام.
{وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} عبادة الأصنام، وقطع الأرحام.
السادسة: قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات} مذهب مالك أن الطيِّبات هي المحَلَّلات؛ فكأنه وصفها بالطيب؛ إذ هي لفظة تتضمن مدحًا وتشريفًا.
وبحسب هذا نقول في الخبائث: إنها المحرمات؛ ولذلك قال ابن عباس: الخبائث هي لحم الخنزير والرِّبا وغيره.