فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعلى هذا حلّل مالك المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها.
ومذهب الشافعيّ رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم؛ إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها؛ لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير، بل يراها مختصة فيما حَلَّله الشرع.
ويرى الخبائث لفظًا عامًا في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات؛ فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى.
والناس على هذين القولين، وقد تقدّم في البقرة هذا المعنى.
السابعة: قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} الإصر: الثقل؛ قاله مجاهد وقتادة وابن جبير.
والإصر أيضًا: العهد؛ قاله ابن عباس والضحاك والحسن.
وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال؛ فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال؛ كغسل البول، وتحليل الغنائم ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها؛ فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه.
وروي: جلد أحدهم.
وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، إلى غير ذلك مما ثبت في الحديث الصحيح وغيره.
الثامنة: قوله تعالى: {والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فالأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال.
ومن الأثقال ترك الاشتغال يوم السبت؛ فإنه يروى أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلًا يحمل قصبًا فضرب عنقه.
هذا قول جمهور المفسرين.
ولم يكن فيهم الدّية، وإنما كان القصاص.
وأمِروا بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم، إلى غير ذلك.
فشبه ذلك بالأغلال؛ كما قال الشاعر:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ** لكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعادَ الفتى كالكَهْل ليس بقائل ** سوى العدل شيئًا فاستراح العواذلُ

فشبه حدود الإسلام وموانِعه عن التخطي إلى المحظورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب.
ومن هذا المعنى قول أبي أحمد بن جحش لأبي سفيان:
إذهب بها إذهب بها ** طُوِّقتَها طوقَ الحمامة

أي لزمك عارها.
يقال: طوّق فلان كذا إذا لزمه.
التاسعة: إن قيل: كيف عطف الأغلال وهو جمع على الإصر وهو مفرد؛ فالجواب أن الإصر مصدر يقع على الكثرة.
وقرأ ابن عامر {آصارهم} بالجمع: مثل أعمالهم.
فجمعه لاختلاف ضروب المآثم.
والباقون بالتوحيد؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه مع إفراد لفظه.
وقد أجمعوا على التوحيد في قوله: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} [البقرة: 286].
وهكذا كلما يرد عليك من هذا المعنى؛ مثل {وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7].
{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43].
و{مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45].
كله بمعنى الجمع.
العاشرة: قوله تعالى: {فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ} أي وقروه ونصروه.
قال الأخفش: وقرأ الجحدريّ وعيسى {وعَزرُوه} بالتخفيف.
وكذا {وَعَزَرْتُمُوهُمْ}.
يقال: عَزَره يَعْزِره ويعزِّرُهُ.
و{النور} القرآن والفَلاَحُ الظفر بالمطلوب.
وقد تقدّم هذا. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله سبحانه: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي...} الآية: هذه ألفاظٌ أخرجَت اليهودَ والنصارى مِنَ الاشتراك الذي يظهر في قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، وخلُصَتْ هذه العِدَةُ لأُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وغيره. قلْتُ: وهذه الآيةُ الكريمة مُعْلِمَةٌ بشَرَف هذه الأمَّة على العُمُوم في كلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه تعالى، وأقرَّ برسَالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم هم يتفاوتون بعدُ في الشرف؛ بحَسَب تفاوتهم في حقيقة الاتباعية للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في الإِحياء: وإِنما أُمَّتُه صلى الله عليه وسلم مَنِ اتبعه، وما اتبعه إِلاَّ مَنْ أعرض عن الدنيا، وأَقْبَلَ على الآخرةِ، فإِنه عليه السلام ما دَعَا إِلاَّ إِلى اللَّهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، وما صَرَفَ إِلاَّ عن الدنيا والحظوظِ العاجلةِ، فبقدْرِ ما تُعْرِضُ عن الدنيا، وتُقْبِلُ على الآخرة، تَسْلُكُ سبيله الذي سَلَكَهُ صلى الله عليه وسلم، وبقَدْرِ ما سَلَكْتَ سبيله، فقد اتبعته، وبقَدْر ما اتبعتَهُ، صِرْتَ من أمته، وبقَدْرِ ما أَقبلْتَ على الدنيا، عَدَلْتَ عن سبيله، ورغبْتَ عَنْ متابعته، والتحقت بالذين قال اللَّه تعالى فيهم: {فَأَمَّا مَن طغى * وَءَاثَرَ الحياة الدنيا * فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} [النازعات: 37، 38، 39]. انتهى، فإن أردتَّ اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، واقتفاء أثره، فابحث عن سيرته وخُلُقه في كتب الحديث والتفسير.
قال ابنُ القَطَّان في تصنيفه الذي صنَّفه في الآيات والمعجزات: والقول الوجيز في زُهْدِهِ وعبادتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وسائرِ حُلاَه وَمعَاليه صلى الله عليه وسلم: أنه مَلَكَ مِنْ أقْصَى اليمن إلى صحراء عمان إِلى أقصى الحجاز، ثم تُوُفِّيَ عليه السلام، وعليه دَيْنٌ، ودِرْعُهِ مَرْهونةٌ في طَعَام لأهله، ولم يتركْ دينارًا ولا درهمًا، ولا شَيَّد قَصْرًا، ولا غَرَس نَخْلًا، ولا شَقَّقَ نَهْرًا، وكان يأكل على الأرْضِ ويجلسُ على الأرض، ويَلْبَسُ العَبَاءة، ويجالسُ المَساكين، ويَمْشِي في الأسواق، ويتوسَّد يَدُه، ويلعقُ أصابعه، ويُرقِّع ثوبه، ويَخْصِفُ نَعْلَه، ويُصْلِح خُصَّه، ويمهنُ لأهله، ولا يأكل متْكِئًا، ويقول: «أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْد»، ويقتصُّ من نفْسه، ولا يرى ضاحكًا مِلْء فِيهِ ولو دُعِيَ إِلى ذراعٍ، لأجاب، ولو أُهْدِيَ إِليه كُرَاعٌ لَقِبل، لا يأكلُ وحده، ولا يَضْرِبُ عبده، ولا يمنعُ رفْده ولا ضَرَبَ قطُّ بيدِهِ إِلاَّ في سَبِيل اللَّه، وقام للَّه حتَّى تَوَرَّمَتْ قدماه، فقيل له: أتَفْعَلُ هذا وقد غَفَرَ اللَّه لك مَا تَقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ؟ فقال: «أفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»، وكان يُسْمَعُ لِجَوْفه أَزِيزٌ؛ كأزيز المِرْجَلِ من البكاءِ؛ إِذا قام بالليل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأتباعه صلاةً دائمةً إلى يوم القيامة. انتهى.
وقال الفَخْر: قوله تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول...} الآية، قال بعضهم: الإِشارة بذلك إِلى مَنْ تقدَّم ذكْرُه من بني إِسرائيل، والمعنى: يتبعونه باعتقاد نبوَّته؛ من حيث وَجَدُوا صفتَهُ في التوراة، وسيجدونه مكتوبًا في الإِنجيل.
وقال بعضهم: بل المرادُ مَنْ لحق مِنْ بني إِسرائيل أيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبيَّن تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا تكتب لهم رحمةُ الآخرة إِلاّ إذا اتبعوا النبيَّ الأُميُّ.
قال الفخْر: وهذا القول أقربُ. انتهى. وقوله: {يَجِدُونَهُ}، أي: يجدون صفة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ونعته؛ ففي البخاريِّ وغيره، عن عبد اللَّه بن عمرو؛ أنَّ في التوراة مِنْ صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يَأيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلأُمِيِّيِّن، أنْتَ عَبْدِي وَرَسُولي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سخَّاب في الأَسْوَاق، وَلاَ يَجْزي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو، وَيَصْفَحُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حتى أُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاء؛ بأنْ يَقُولُوا: لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، فَنُقِيمُ بِهِ قُلُوبًا غُلْفًا، وأَذَانًا صُمًّا، وَأَعْيُنًا عُمْيًا»، وفي البخاريِّ: «فَيَفْتَحُ بِهِ عُيُونًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلُوبًا غُلْفًا»، ونصَّ كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إِلاَّ أنه قال: «قُلُوبًا غُلُوفًا، وآذنًا صُمُومًا».
وقوله سبحانه: {يَأْمُرُهُم بالمعروف...} الآية: يحتملُ أن يكون ابتداء كلامٍ وُصِفَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أن يكون متعلِّقًا ب {يجدونه} في موضع الحال على تجوُّزٍ، أي: يجدونه في التوراةِ آمرًا؛ بشرط وجوده، والمعروف: ما عُرِفَ بالشرع، وكلُّ معروف من جهة المروءة، فهو معروفٌ بالشرع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَحَاسِنَ الأَخْلاَقِ» و{المنكر}: مقابله، و{الطيبات}؛ عند مالك: هي المحلَّلات، و{الخبائث} هي المحرَّمات، وكذلك قال ابن عباس، والإِصْرُ الثَّقْل، وبه فَسَّرَ هنا قتادةُ وغيره، والإِصْر أيضًا: العَهْد، وبه فسر ابنُ عباس وغيره، وقد جَمَعَتْ هذه الآيةُ المعنيين؛ فإِن بني إِسرائيل قد كان أخذ عليهم العَهْدُ بأن يقوموا بأعمال ثقال، فَوَضَعَ عنهم نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن جُبيْر: الإِصْر: شدَّة العبادة، وقرأ ابن عامر: {آصارَهُمْ} بالجمع فمَنْ وحَّد الإصر؛ فإنما هو اسمُ جنْس عِنده، يراد به الجمعُ، {والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} عبارةٌ مستعارَةٌ أيضًا لتلك الأثقال، كَقَطْعِ الجِلْدِ من أثر البَوْلِ، وأن لا ديةَ، ولابد من قَتْل القاتل، إلى غير ذلك، هذا قول جمهور المفسِّرين، وقالَ ابن زَيْدٍ: إنما المراد هنا ب {الأغلال} قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ في اليهود:
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]، فمنْ آمن بنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، زالَتْ عنه الدعوةُ، وتغليلها، ومعنى {عَزَّرُوهُ}: أي: وقَّروه، فالتعْزيرُ والنصْرُ: مشاهدةٌ خاصَّة للصحابة، واتباع النور: يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة، والنُّورُ: كنايةٌ عن جُمْلة الشرع، وشَبَّه الشرعَ والهدى بالنور، إِذ القلوبُ تستضيء به؛ كما يستضيء البَصَرُ بالنُّور. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوارة والإنجيل}.
ذكر الإمام فخر الدين الرازي في معنى هذه التبعية وجهين:
أحدهما: إن المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث غلى الخلق وفي قوله والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوبًا في الإنجيل لأن من المحال أن يجده فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل.
الوجه الثاني: إن المراد من لحق من بني إسرائيل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوه، قال: وهذا القول أقرب لأن اتباعه قبل أن يبعث لا يمكن فبين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بآيات الله في زمن موسى، ومن كانت هذه صفته في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرائعه فعلى هذين الوجهين يكون المراد بقوله الذين يتبعون الرسول من بني إسرائيل خاصة.
وجمهور المفسرين على خلاف ذلك فإنهم قالوا: المراد بهم جميع أمته الذين آمنوا به واتبعوه سواء كانوا من بني إسرائيل أو غيرهم وأجمع المفسرون على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه رسولًا لأنه الواسطة بين الله وبين خلقه المبلغ رسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ثم وصفه بكونه نبيًا.
وهذا أيضًا من أعلى المراتب وأشرفها وذلك يدل على أنه رفيع الدرجات عند الله المخبر عنه ثم وصفه بالأمي.
قال ابن عباس: هو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أميًا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب قال الزجاج في معنى الأمي: هو الذي على صفة أمة العرب لأن العرب أكثرهم لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب فالنبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك فلهذا وصفه الله تعالى بكونه أميًا وصح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» قال أهل التحقيق: وكونه صلى الله عليه وسلم كان أميًا من أكبر معجزاته وأعظمها، وبيانه أنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الكتاب العظيم الذي أعجزت الخلائق فصاحته وبلاغته وكان يقرؤه عليهم بالليل والنهار من غير زيادة فيه ولا نقصان منه ولا تغيير فدل ذلك على معجزته وهو قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} وقيل: إنه لو كان يحسن الكتابة ثم إنه أتى بهذا القرآن العظيم لكان متهمًا فيه لاحتمال أنه كتبه ونقله عن غيره فلما كان أميًا وأتى بهذا القرآن العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين والمغيبات دل ذلك على كونه معجزة له صلى الله عليه وسلم.