فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{الذي يجدونه} أي: علماء بني إسرائيل {مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل} باسمه ونعته ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسدًا منهم له وخوفًا على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رياستهم ووقعوا في الذل والهوان وعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفاء، انتهى.
شرح غريب ألفاظه: الفظ: السيء الخلق، والغليظ: الجافي القاسي، والسخاب بالسين والصاد: الكثير الصياح، والاعوجاج: ضدّ الاستقامة والملة العوجاء: الكفر، والقلب الأغلف: الذي لا يصل إليه شيء ينفعه كأنه في غلاف.
وقوله تعالى: {يأمرهم بالمعروف} قال الزجاج: يجوز أن يكون استئنافًا ويجوز أن يكون المعنى: يجدونه مكتوبًا عندهم إنه يأمرهم بالمعروف قال الرازي: ومجامع المعروف في قوله عليه الصلاة والسلام: «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» وذلك لأنّ الموجود إمّا واجب الوجود لذاته وإمّا ممكن لذاته، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخشوع والخضوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفًا بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهًا عن الأضداد والأنداد، وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيوانًا فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأنّ الانتفاع مشروط بالحياة ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله ومن حيث إنّ كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلًا ظاهرًا وبرهانًا باهرًا على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إنّ لله سبحانه وتعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسرارًا عجيبة وحكمًا خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام، وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه برّ الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف {وينهاهم عن المنكر} وهو ضد الأمور المذكورة، وقال عطاء: يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وبصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر أي: عبادة الأوثان وقطع الأرحام {ويحل لهم الطيبات} أي: ما حرم عليهم في شرعهم كالشحوم {ويحرم عليهم الخبائث} كالدم ولحم الخنزير والربا والرشوة {ويضع عنهم إصرهم} أي: ثقلهم الذي كان يحمل عليهم، وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة الممدودة والصاد وألف بعد الصاد عى الجمع والباقون بكسر الهمزة وسكون الصاد ولا ألف بعدها على التوحيد {والأغلال التي كانت عليهم} أي: ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم من الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة من البدن والثوب بالمقراض وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق كما أنّ اليد لا تمتدّ مع وجود الغل فكذلك لا تمتدّ إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك كله ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» {فالذين آمنوا به} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم {وعزروه} أي: وقروه وعظموه وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه {ونصروه} على أعدائه {واتبعوا النور الذي أنزل معه} أي: القرآن سمي نورًا لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم، وقيل: الهدى والبيان والرسالة، وقيل: الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور.
فإن قيل: كيف يمكن حمل النور هنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل مع جبريل عليه السلام؟
أجيب: بأنّ معناه أنه أنزل مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قال: {أولئك هم المفلحون} أي: الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لميقاتنا}.
هذا شروع في بيان ما كان من موسى، ومن القوم الذين اختارهم، وسبعين مفعول {اختار}، وقومه منصوب بنزع الخافض، أي من قومه على الحذف والإيصال، ومثله قوله الراعي:
اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم ** واعتل من كان يرجى عنده السول

يريد اخترتك من الناس، ومعنى {لميقاتنا} للوقت الذي وقتناه له، بعد أن وقع من قومه ما وقع.
والميقات الكلام الذي تقدم ذكره، لأن الله أمره أن يأتي إلى الطول في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه سبحانه من عبادة العجل، كذا قيل.
والرجفة في اللغة: الزلزلة الشديدة.
قيل: إنهم زلزلوا حتى ماتوا، فلما رأى موسى أخذ الرجفة لهم: {قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى} قاله عليه السلام تحسرًا وتلهفًا، لأن سبب أخذ الرجفة لهم ما حكى الله عنهم من قولهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} [البقرة: 55] على ما تقدّم في البقرة.
وقيل: هؤلاء السبعون غير من قالوا: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] بل أخذتهم الرجفة، بسبب عدم انتهائهم عن عبادة العجل.
وقيل: إنهم قوم لم يرضوا بعبادة العجل، ولا نهوا السامريّ ومن معه عن عبادته، فأخذتهم الرجفة بسبب سكوتهم.
والمعنى لو شئت إهلاكنا بذنوبنا قبل هذا الوقت اعترافًا منه عليه السلام بالذنب، وتلهفًا على ما فرط من قومه.
والاستفهام في قوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} للجحد، أي لست ممن يفعل ذلك، قاله ثقة منه برحمة الله.
والمقصود منه الاستعطاف والتضرّع.
وقيل: معناه الدعاء والطلب، أي لا تهلكنا.
قال المبرد: المراد بالاستفهام استفهام الإعظام كأنه يقول: [لا تهلكنا] وقد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره.
ولكنه كقول عيسى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118].
وقيل المراد بالسفهاء: السبعون، والمعنى: أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153].
وقيل المراد بهم: السامري وأصحابه.
قوله: {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي ما الفتنة التي وقع فيها هؤلاء السفهاء إلا فتنتك التي تختبر بها من شئت، وتمتحن بها من أردت.
ولعله عليه السلام استفاد هذا من قوله سبحانه: {فإنا قد فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} [طه: 85] {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء} أي تضلّ بهذه الفتنة من تشاء من عبادك وتهدي بها من تشاء منهم، ومثله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، ثم رجع إلا الاستعطاف والدعاء فقال: {أَنتَ وَلِيُّنَا} أي المتولي لأمورنا {فاغفر لَنَا} ما أذنبناه {وارحمنا} برحمتك التي وسعت كل شيء {وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} للذنوب.
{واكتب لَنَا في هذه الدنيا حَسَنَةً} بتوفيقنا للأعمال الصالحة، أو تفضل علينا بإِفاضة النعم في هذه الدنيا من العافية، وسعة الرزق {وَفِي الآخرة} أي واكتب لنا في الآخرة الجنة بما تجازينا به، أو بما تتفضل به علينا من النعيم في الآخرة.
وجملة {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} تعليل لما قبلها من سؤال المغفرة، والرحمة، والحسنة، في الدنيا وفي الآخرة، أي: إنا تبنا إليك ورجعنا عن الغواية التي وقعت من بني إسرائيل.
والهود: التوبة.
وقد تقدّم في البقرة.
وجملة: {قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} مستأنفة كنظائرها فيما تقدّم.
قيل المراد بالعذاب هنا: الرجفة.
وقيل: أمره سبحانه لهم بأن يقتلوا أنفسهم، أي ليس هذا إليك يا موسى، بل ما شئت كان، وما لم أشأ لم يكن.
والظاهر أن العذاب هنا يندرج تحته كل عذاب، ويدخل فيه عذاب هؤلاء دخولًا أوّليًا.
وقيل المراد: من أشاء من المستحقين للعذاب، أو من أشاء أن أضله وأسلبه التوفيق {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء}: من الأشياء من المكلفين وغيرهم.
ثم أخبر سبحانه أنه سيكتب هذه الرحمة الواسعة {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الذنوب {وَيُؤْتُونَ الزكواة} المفروضة عليهم {والذين هُم بئاياتنا يُؤْمِنُونَ} أي يصدّقون بها ويذعنون لها.
ثم بين سبحانه هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة، ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمى} وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل.
والأمي: إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب، وهم العرب، أو نسبة إلى الأم.
والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب؛ وقيل نسبة إلى أمّ القرى، وهي مكة.
{الذي يجدونه} يعني: اليهود والنصارى، أي يجدون نعته {مَكْتُوبًا عِندَهُمْ في التوراة والإنجيل} وهما مرجعهم في الدين.
وهذا الكلام منه سبحانه مع موسى هو قبل نزول الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون.