فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم وصف هذا النبيّ الذي يجدونه كذلك بأنه يأمر بالمعروف، أي بكل ما تعرفه القلوب، ولا تنكره من الأشياء التي هي من مكارم الأخلاق {وينهاهم عَنِ المنكر} أي ما تنكره القلوب ولا تعرفه.
وهو ما كان من مساوئ الأخلاق.
قيل: إن قوله: {يَأْمُرُهُم بالمعروف} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} كلام يتضمن تفصيل أحكام الرحمة التي وعد بها.
ذكر معناه الزجاج.
وقيل: هو في محل نصب على الحال من النبيّ.
وقيل: هو مفسر لقوله: {مَكْتُوبًا}.
قوله: {يَحِلَّ لَهُمُ الطيبات} أي المستلذات.
وقيل: يحلّ لهم ما حرّم عليهم من الأشياء التي حرّمت عليهم بسبب ذنوبهم {وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث} أي المستخبئات كالحشرات والخنازير {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} الإصر الثقل، أي يضع عنهم التكاليف الشاقة الثقيلة.
وقد تقدّم بيانه في البقرة [الآية: 286].
{والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم.
الأغلال مستعارة للتكاليف الشاقة التي كانوا قد كلفوها {فالذين ءامَنُواْ بِهِ} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم {واتبعوه} فيما جاء به من الشرائع {وَعَزَّرُوهُ} أي عظموه ووقروه، قاله الأخفش.
وقيل: معناه منعوه من عدوّه، وأصل العزر: المنع، وقرأ الجحدريّ {وعزروه} بالتخفيف {ونصروه} أي قاموا بنصره على من يعاديه {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} أي اتبعوا القرآن الذي أنزل عليه مع نبوّته.
وقيل المعنى: واتبعوا القرآن المنزل إليه مع اتباعه بالعمل بسنته، مما يأمر به وينهى عنه، أو اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه، والإشارة ب {أولئك} إلى المتصفين بهذه الأوصاف {هُمُ المفلحون} الفائزون بالخير والفلاح لا غيرهم من الأمم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} الآية.
قال كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلًا، فاختار سبعين رجلًا فبرز بهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دعوا الله أن قالوا: اللهم أعطنا مالم تعط أحدًا من قبلنا ولا تعطه أحدًا بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة.
{قَالَ} موسى {رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ} {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} يقول: إن هي إلا عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عمن تشاء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد {لميقاتنا} قال: لتمام الموعد، وفي قوله: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة} قال: ماتوا ثم أحياهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، عن أبي العالية، في قوله: {إن هي إلا فتنتك} قال: بليتك.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس {إن هي إلا فتنتك} قال: مشيئتك.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، إنما أخذتهم الرجفة، لأنهم لم يرضوا بالعمل ولم ينهوا عنه.
وأخرج سعيد بن منصور، عنه، في قوله: {واكتب لَنَا في هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة} فلم يعطها موسى {قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} إلى قوله: {المفلحون}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، في قوله: {واكتب لَنَا في هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة} قال: فكتب الرحمة يومئذ لهذه الأمة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طرق، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} قال تبنا إليك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، مثله.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي وجزة السعدي، وكان من أعلم الناس بالعربية قال: لا والله ما أعلمها في كلام العرب {هدنا}؛ قيل فكيف قال: {هدنا} بكسر الهاء، يقول: مِلنا.
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد في الزهد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن وقتادة، في قوله: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} قال: وسعت رحمته في الدنيا البرّ والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة.
وأخرج مسلم وغيره، عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة» وأخرج نحوه أحمد، وأبو داود، والطبراني، والحاكم، والضياء المقدسي، من حديث جندب بن عبد الله العجلي.
وأخرج أبو الشيخ، عن السدي قال: لما نزلت: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} قال إبليس: وأنا من الشيء.
فنسخها الله، فنزلت: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى آخر الآية.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، قال: لما نزلت: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} قال إبليس: أنا من الشيء، قال الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة} قالت اليهود: فنحن نتقي ونؤتي الزكاة، قال الله: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمى} فعزلها الله عن إبليس وعن اليهود، وجعلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة نحوه.
وأخرج البزار في مسنده، وابن المنذر، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: سأل موسى ربه مسئلة فأعطاها محمدًا.
قوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} إلى قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فأعطى محمدًا كل شيء سأل موسى ربه في هذه الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عنه، في قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} قال: كتبها الله لهذه الأمة.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: يتقون الشرك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن النخعي في قوله: {النبي الأمى} قال: كان لا يقرأ ولا يكتب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال: هو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أميًا لا يكتب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ} قال: يجدون نعته وأمره ونبوّته مكتوبًا عندهم.
وأخرج ابن سعد، والبخاري، والبيهقي في الدلائل، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت له أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن «يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا تجزى بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا».
وأخرج ابن سعيد، والدارمي في مسنده، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر، عن عبد الله بن سلام مثله.
وقد روي نحو هذا مع اختلاف في بعض الألفاظ، وزيادة في بعض، ونقص في بعض عن جماعة.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات} قال: الحلال {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} قال: التثقيل الذي كان في دينهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، في قوله: {وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث} قال: كلحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرّمات من المآكل التي حرمها الله، وفي قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} قال: هو ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرّم عليهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} قال: ما غلظ على بني إسرائيل من قرض البول من جلودهم إذا أصابهم ونحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَعَزَّرُوهُ} يعني: عظموه ووقروه. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

وبينما كان موسى عليه السلام في حضرة ربه، في ذلك الموقف الفريد، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار.. كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون، ويتخذون لهم عجلًا جسدًا له خوار- لا حياة فيه- يعبدونه من دون الله!
ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع إلى المشهد العاشر. نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته إلى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته:
{واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلًا جسدا له خوار. ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}..
إنها طبيعة إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق؛ والتي ما تكاد ترتفع عن مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد؛ والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها التوجيه والتسديد.
ولقد راودوا نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلهًا يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على أصنام لهم! فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم ردًا شديدًا.
فلما خلوا إلى أنفسهم، ورأوا عجلًا جسدا من الذهب- لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد- صنعه لهم السامري- رجل من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه- واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج صوتًا كصوت خوار الثيران.. لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه، وتهافتوا عليه حين قال لهم السامري: {هذا إلهكم وإله موسى} الذي خرج موسى لميقاته معه؛ فنسي موسى موعده معه- ربما لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها، فلما زاد عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري: لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه!- ولم يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار- رب العالمين- ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم!.. وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم. صورة يعجب منها القرآن الكريم؛ وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام!
{ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا اتخذوه وكانوا ظالمين}..
وهل أظلم ممن يعبد خلقًا من صنع أيدي البشر. والله خلقهم وما يصنعون؟!
وكان فيهم هارون عليه السلام فلم يملك لهم ردًا عن هذا الضلال السخيف. وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد- وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل!
وأخيرًا هدأت الهيجة، وانكشفت الحقيقة، وتبين السخف، ووضح الضلال، وجاءت نوبة الندم والإقرار:
{ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}..
يقال: سقط في يده إذا عدم الحيلة في دفع ما هو بصدده من أمر.. ولما رأى بنو إسرائيل أنهم صاروا- بهذه النكسة- إلى موقف لا يملكون دفعه فقد وقع منهم وانتهىّ! قالوا قولتهم هذه:
{لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}..