فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلَمَّا نَسُواْ} تركوا ترك الناسي. {مَا ذُكّرُواْ بِهِ} ما ذكرهم به صلحاؤهم. {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} بالاعتداء ومخالفة أمر الله. {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤسًا إذا اشتد. وقرأ أبو بكر {بيئس} على فيعل كضيغم، وابن عامر {بئس} بكسر الباء وسكون الهمز على أنه بئس كحذر، كما قرئ به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد، وقرأ نافع {بيس} على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذئب أو على أنه فعل الذم وصف به فجعل اسمًا، وقرئ {بيس} كريس على قلب الهمزة ثم ادغامها و{بيس} بالتخفيف كهين وبائس كفاعل. {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسبب فسقهم.
{فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ} تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى: {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} كقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشيء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولًا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرًا وتفصيلًا للأولى. روي: أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يومًا ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا: إن لهم شأنًا فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسباءهم ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث. وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإِيعاد، أو عزم لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله فأجرى مجرى فعل القسم {كعلم الله} و{شَهِدَ الله}. ولذلك أجيب بجوابه وهو: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة} والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود. {مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب} كالإِذلال وضرب الجزية، بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر. {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب} عاقبهم في الدنيا. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب وآمن.
{وقطعناهم فِي الأرض أُمَمًا} وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط و{أُمَمًا} مفعول ثان أو حال. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} تقديره ومنهم أناس دون ذلك أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم. {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} بالنعم والنقم. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ينهون فيرجعون عما كانوا عليه.
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} من بعد المذكورين. {خَلْفٌ} بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع. وقيل جمع وهو شائع في {وَرِثُواْ الكتاب} التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحريف الكلم، والجملة حال من الواو. {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور، أو مصدر يأخذون. {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} حال من الضمير في {لَنَا} أي: يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه. {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب} أي في الكتاب. {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} عطف بيان للميثاق، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب. {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} عطف على {أَلَمْ يُؤْخَذْ} من حيث المعنى فإنه تقرير، أو على {وَرِثُواْ} وهو اعتراض. {والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} مما يأخذ هؤلاء. {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين. {والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة} عطف على الذين {يَتَّقُونَ} وقوله: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} اعتراض أو مبتدأ خبره: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} على تقدير منهم، أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهًا على أن الإِصلاح كالمانع من التضييع. وقرأ أبو بكر {يُمَسّكُونَ} بالتخفيف وإفراد الإِقامة لإِنافتها على سائر أنواع التمسكات. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} إلى قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}.
التفسير: الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال: اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره ومن هنا سمي فعل الحيوان فعلًا اختياريًا، وذلك أن صدور الفعل عن الحيوان موقوف على حكمه بكون ذلك الفعل خيرًا له من تركه. قال النحويون: أصله واختار موسى من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل، فمن الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف الحرف. من ذلك قولهم: اخترت من الرجال زيدًا ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيدًا. وكذا استغفرت الله من ذنبي واستغفرته ذنبي. وجوّز بعضهم في الآية أن يراد بالقوم المعتبرون منهم إطلاقًا لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم فيكون مفعولًا أوّل من غير واسطة ويكون {سبعين} بدلًا أو بيانًا قيل: اختار من اثني عشر سبطًا من كل سبط ستة فصاروا اثنين وسبعين فقال: ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع. وروي أنه لم يجد إلا ستين شيخًا فأوحى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخًا. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سينا لميقات ربه. وللمفسرين خلاف في أن هذا الميقات عين ميقات الكلام والرؤية أم غيره؟ الذاهبون إلى الأوّل قالوا: إن موسى كان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فلما سمعوا الكلام طلبوا الرؤية وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة في هذه الآية.
والذاهبون إلى الثاني حملوا القصة على ما مر في البقرة في تفسير قوله: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك} وقد ذكرنا هنالك أن منهم من قال هذه الواقعة كانت قبل قتل الأنفس توبة من عبادة العجل، ومنهم من قال إنها كانت بعد القتل. واحتج أصحاب هذا المذهب على المغايرة بأنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها ذكر قصة العجل ثم ختم الكلام بهذه القصة، فظاهر الحال يتقضي أن تكون هذه القصة مغايرة لتلك القصة وإلا انخرم التناسب. عن علي عليه السلام أن موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل فنام هارون فتوفاه الله تعالى، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا إنه قتل هارون فاختار من قومه سبعين فذهبوا إلى هارون فأحياه الله تعالى فقال: ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك. قيل: كانت موتًا. وقيل أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم فخاف موسى عليهم الموت فدعا الله تعالى وقال: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} قال في الكشاف: هذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا {أتهلكنا} جميعًا يعني نفسه وإياهم {بما فعل السفهاء منا} قال أهل العلم: لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى أهلك قومًا بذنوب غيره، فهذا الاستفهام بمعنى الجحد أراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول: أتهين من يخدمك تريد أنك لا تفعل ذلك، وقال المبرد: إنه استفهام استعطاف أي لا تهلكنا. قيل: لو كان تسفيههم لقولهم: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [النساء: 153] ناسب أن يقال: أتهلكنا بما قاله السفهاء. فإذن التسفيه لفعل صدر عنهم كعبادة العجل أو غيرها، ومنه يعلم أن هذا الميقات غير ميقات طلب الرؤية {إن هي إلا فتنتك} الضمير يعود إلى الفتنة أي كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند قاله الواحدي. ولعله يعود إلى مقدر ذهني والمعنى أن الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك ابتلاءك ومحنتك حين كلمتني وسمعوا كلامك أو حين أسمعتهم صوت العجل: {تضل بها} أي بالفتنة من تشاء فيفتتن {وتهدي من تشاء} فيثبت على الحق. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة ظاهرة على مذهبنا أن الإضلال والهداية من الله تعالى. وقالت المعتزلة: إن محنته لما كانت سبببًا لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أو الضمر يعود إلى الرجفة أي {تضل} على الجنة بسبب عدم الصبر على تلك الرجفة، أو لعدم الإيمان بأنها من عندك {من تشاء وتهدي} إلى الجنة بها الأضداد ما قلنا {من تشاء} أو المراد بالإضلال الإهلاك أي تهلك من تشاء بالرجفة وتصرفها عمن تشاء {أنت ولينا} يفيد الحصر أي لا ولي لنا ولا ناصر إلا أنت {فاغفر لنا وارحمنا} قيل: تذكر أن قوله: {إن هي إلا فتنتك} جراءة عظيمة فأشرك نفسه مع قومه في طلب المغفرة والرحمة {وأنت خير الغافرين} لأن غفرانك غير متوقف على جلب نفع أو دفع ضر بل لمحض الفضل والكرم.
{واكتب} أوجب {لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة} نظيره سؤال المؤمنين من هذه الأمة {ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [البقرة: 201] وقد فسرنا في سورة البقرة. واعلم أن كونه تعالى وليًا للعبد يناسبه أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وإلهيته. وأيضًا اشتغال العبد بالتوبة والخضوع يناسب طلب هذه الأشياء. فذكر السبب الأوّل ثم رتب عليه الدعاء وختمه بالسبب الثاني وهو قوله: {إنَّا هدنا إليك} قال أهل اللغة: النهود التوبة أي تبنا ورجعنا. وقد تم بذكر السببين عهد عز الربوبية وعهد ذل العبودية فلا يبعد وقوع الإجابة ولأن دفع الضر مقدم على تحصيل النفع، قدم طلب المغفرة والرحمة على طلب إيجاب الحسنة في الدارين {قال} الله تعالى في جواب موسى {عذابي} من حالة وصفته أني {أصيب به من أشاء} إذا ليس لأحد عليّ اعتراض في ملكي. وقالت المعتزلة: أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وقرأ الحسن {من أساء} من الإساءة {ورحمتي} من شأنها أنها {وسعت كل شيء} قالت الأشاعرة: هذا من العام الذي أريد به الخاص. وقال أكثر المحققين: إن رحمته في الدنيا تعم الكل ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمته. وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وذلك قوله: {فسأكتبها للذين يتقون} وقيل: الوجود خير من العدم فلا موجود إلا وهو مشمول بنعمته. وقيل: الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب. وقالت المعتزلة: الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة والخير واللذة وإن حصل هناك ألم فله أعواض كثيرة. واعلم أن تكاليف الله تعالى كثيرة ولكنها محصورة في نوعين: التروك والأفعال. فقوله: {فسأكتبها للذين يتقون} إشارة إلى التروك. التكليف الفعلي إما ما لي وهو قوله: {ويؤتون الزكاة} وإما غيره وذلك قوله: {والذين هم بآياتنا يؤمنون} فإنه يشمل كل ما يجب على الإنسان علمًا وعملًا. ثم ضم إلى ذلك اتباع النبي الأمي إلى آخره. وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفات تسع: الأولى الرسالة.
الثانية النبوة. فإن قيل: النبوة مندرجة تحت الرسالة فلم أفردها بالذكر؟ قلت: لا بل بينهما عموم وخصوص من وجه فقد يكون رسولًا ولا يكون نبيًا كقوله: {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1] وقد يكون نبيًا لا رسولًا ككثير من الأنبياء، فلا يكون أحد الوصفين على الإطلاق مغنيًا عن الآخر. ولو سلم فذكر الآخر تتميم وتصريح بما علم ضمنًا. الثالثة. كونه أميًا. قال الزجاج: معناه أنه على صفة أمة العرب. قال صلى الله عليه وآله: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وقيل: إنه منسوب إلى الأم أي إنه على هيئته يوم ولد لم يكتسب خطأ ودراسة. وكان هذا من جملة معجزاب نبينا صلى الله عليه وسلم وبيانه من وجوه: الأول أنه كان يقرأ عليهم كتاب الله منظومًا مرة بعد أخرى من غير تبديل. والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لابد أن يزيد فيها وينقص، فهذا المعنى من مدد سماوي كقوله: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] الثاني لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهمًا بأنه طالع كتب الأوّلين، ولما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على جلائل العلوم من غير تعلم ومطالعة عرف أنه من السماء وإليه الإشارة بقوله: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48] الثالث: أن تعلم الخط لا يتفقر إلا إلى فطنة قليلة ومع ذلك كان الخط مشكلًا عليه. ثم إن الله تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من العالمين، فالجمع بين هاتين الحالتين من الأمور الخارقة للعادة كالجمع بين الضدين. الصفة الرابعة {الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل} الضمير في يجدون للذين يتبعونه من بني إسرائيل. ثم إن كان المراد أسلافهم فالوجه أن يراد بالاتباع اعتقاد نبوته من حيث وجدوا نعته في التوراة إذ لا يمكن أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثه إلى الخلق، ويكون المراد من قوله: {والإنجيل} أنهم يجدون نعته مكتوبًا عندهم في الإنجيل فمن المحال أن يجدوه في الإنجيل قبل إنزال الإنجيل، وإن كان المراد المعاصرين فالمعنى أن هذه الرحمة لا يفوز بها بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى واتبع نبي آخر الزمان في شرائعه، وفي هذا دليل على أن نعته وصحة نبوّته مكتوب في التوراة والإنجيل، وإلا كان ذكر هذا الكلام من أعظم القوادح والمنفرات لأهل الكتابين عن قبول قوله، لأن الإصرار على الزور والبهتان يوجب نقصان حال المدعي فلا يرتكبه عاقل فلما أصر على ذلك دل على أن الأمر في نفسه كذلك. الخامسة والسادسة {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} وقد ذكرنا تفصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آل عمران ومجامع ذلك محصورة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ملاك الدين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله» فإن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلًا قاهرًا وبرهانًا باهرًا على توحيد الله وتنزيهه فإنه يجب النظر إليها بعين الاحترام والإشفاق كما يليق بها. السابعة {ويحل لهم الطيبات} قيل: أي ما يستطاب طبعًا لأن تناول ذلك يفيد لذة. وقيل: يعني الأشياء التي حكم الله تعالى بحلها وزيف بأنه يجري مجرى قول القائل: ويحل المحللات وهو تكرار. ويمكن أن يجاب بأن المراد ويبين لهم المحللات. وفائدة العدول أن يعلم أن كل حلال مستطاب طبعًا وأن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا الدليل منفصل. وقيل: يعني ما يحرم عليه من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها. الثامنة {ويحرم عليهم الخبائث} قال عطاء عن ابن عباس: الميتة والدم ونحوهما من المحرمات. وقيل: كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا بدليل منفصل. التاسعة {ويضع عنهم إصرهم} الإصر الثقل الذي يأصر حبه أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لصعوبة تكاليفهم كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة. وكذا الأغلال التي كانت علهيم مثل لما في شرائعهم من الأمور الشاقة كالقصاص بتة من غير شرع الدية، وكقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب. وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم جعلها الله تعالى أغلالًا لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل. عن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبدة. فالأغلال على هذا القول غير مستعارة، وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار والمشاق الحرمة كما قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» وهذا أصل عظيم في هذه الشريعة. ثم لما وصفه بالصفات التسع أكد الإيمان به بقوله: {فالذين آمنوا به} قال ابن عباس: يعني من اليهود والأولى حمله على العموم {وعزروه} وقروه وعظموه. قال في الكشاف: وأصل العزر المنع ومنه التعزير للضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح. فالمراد ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّه، وعلى هذا لم يبق بينه وبين قوله: {ونصروه} فرق كبير {واتبعوا النور الذي أنزل معه} وهو القرآن أي أنزل مع نبوّته لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن أو يتعلق ب {اتبعوا} أي اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي مصاحبين له في اتباعه {أولئك هم المفلحون} الفائزون بالمطلوب في الدارين، اعلم أنه سبحانه لما قال: {فسأكتبها للذين يتقون} بين أن من شروط نزول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين لرسول آخر الزمان، ثم أراد أن يحقق عموم رسالته إلى المكلفين فقال: {قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعًا} وانتصابه على الحال من {إليكم} وفيه دليل على أن محمدًا صلى الله عليه وآله مبعوث إلى الخلق كافة خلافًا لطائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أتباع عيسى الأصفهاني، زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول صادق لكنه مبعوث إلى العرب خاصة وفساده ظاهر لأنه من المعلوم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي عموم الرسالة فإن كان رسولًا إلى العرب وإلى غيرهم.