فصل: تفسير الآية رقم (23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (23):

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ثبتت هذه الأدلة فوجب امتثال ما دعت إليه ولم يبق لمتعنت شبهة إلا أن يقول: لا أفعل حتى أعلم أن هذا الكتاب الذي تقدم أنه الهدى كلام الله، قال مبينًا إنه من عنده نظمًا كما كان من عنده معنى محققًا ما ختم به التي قبلها من أن من توقف عما دعا إليه من التوحيد وغيره لا علم له بوجه، وأتى بأداة الشك سبحانه مع علمه بحالهم تنبيهًا على أنه من البعيد جدًا أن يجزم بشكهم بعد هذا البيان {وإِن} أي فإن كنتم من ذوي البصائر الصافية والضمائر النيرة علمتم بحقية هذه المعاني وجلالة هذه الأساليب وجزالة تلك التراكيب أن هذا كلامي، فبادرتم إلى امتثال ما أمر والانتهاء عما عنه زجر.
{وإن كنتم في ريب} أي شك محيط بكم من الكتاب الذي قلت- ومن أصدق مني قيلًا- إنه {لا ريب فيه}.
وأشار هنا أيضًا إلى عظمته وعظمة المنزل عليه بالنون التفاتًا من الغيبة إلى التكلم فقال: {مما نزلنا} قال الحرالي: من التنزيل وهو التقريب للفهم بتفصيل وترجمة ونحو ذلك- انتهى.
{على عبدنا} أي الخالص لنا الذي لم يتعبد لغيرنا قط، فلذلك استحق الاختصاص دون عظماء القريتين وغيرهم، فارتبتم في أنه كلامنا نزل بأمرنا وزعمتم أن عبدنا محمدًا أتى به من عنده لتوهمكم أن فيما سمعتم من الكلام شيئًا مثله لأجل الإتيان به منجمًا أو غير ذلك من أحواله.
{فأتوا} أي على سبيل التنجيم أو غيره، قال الحرالي: الآتي بالأمر يكون عن مكنة وقوة {بسورة} أي نجم واحد.
قال الحرالي: السورة تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة- انتهى.
وتفصيل القرآن إلى سور وآيات، لأن الشيء إذا كان جنسًا وجعلت له أنواع واشتملت أنواعه على أصناف كان أحسن وأفخم لشأنه وأنبل ولاسيما إذا تلاحقت الأشكال بغرابة الانتظام، وتجاوبت النظائر بحسن الالتيام، وتعانقت الأمثال بالتشابه في تمام الأحكام وجمال الأحكام، وذلك أيضًا أنشط للقارئ وأعظم عنده لما يأخذه منه مسمى بآيات معدودة أو سورة معلومة وغير ذلك {من مثله} أي من الكلام الذي يمكنكم أن تدعوا أنه مثل ما نزلنا كما قال: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] فإن عبدنا منكم ونشأ بين أظهركم، فهو لا يقدر على أن يأتي بما لا تقدرون على مثله إلا بتأييد منا.
ولما كانوا يستقبحون الكذب قال: {وادعوا شهداءكم} أي من تقدرون على دعائه من الموجودين بحضرتكم في بلدتكم أو ما قاربها، والشهيد كما قال الحرالي من يكثر الحضور لديه واستبصاره فيما حضره- انتهى.
{من دون الله} أي لينظروا بين الكلامين فيشهدوا بما تؤديهم إليه معرفتهم من المماثلة أو المباينة فيزول الريب ويظهر إلى الشهادة الغيب أو ليعينوكم على الإتيان بمثل القطعة المحيطة التي تريدون معارضتها.
قال الحرالي: والدون منزلة القريب فالقريب من جهة سفل، وقد عقلت العرب أن اسم الله لا يطلق على ما ناله إدراك العقل فكيف بالحس! فقد تحققوا أن كل ما أدركته حواسهم ونالته عقولهم فإنه من دون الله- انتهى.
ففي التعبير به توبيخ لهم بأنهم لم يرضوا بشهادته سبحانه.
وحكمة الإتيان بمن التبعيضية في هذه السورة دون بقية القرآن أنه سبحانه لما فرض لهم فيها الريب الذي يلزم منه زعمهم أن يكونوا اطلعوا له على مثيل أو سمعوا أن أحدًا عثر له على شبيه اقتضى الحال الإتيان بها ليفيد أن المطلوب منهم في التحدي قطعة من ذلك المثل الذي ادعوه حكيمة المعاني متلائمة المباني منتظم أولها بآخرها كسور المدينة في صحة الانتظام وحسن الالتيام والإحاطة بالمباني التي هي كالمعاني والتقاء الطرفين حتى صار بحيث لا يدرى أوله من آخره سواء كانت القطعة المأتي بها تباري آية أو ما فوقها لأن آيات القرآن كسورة يعرف من ابتدائها ختامها ويهدي إلى افتتاحها تمامها، فالتحدي هنا منصرف إلى الآية بالنظر الأول وإلى ما فوقها بالنظر الثاني.
والمراد بالسورة هنا مفهومها اللغوي، لأنها من المثل المفروض وهو لا وجود له في الخارج حتى يكون لقطعة اصطلاح في الأسماء معروف، ولأن معرفة المعنى الاصطلاحي كانت مخصوصًا بالمصدقين ولو أريد التحدي بسورة من القرآن لقيل: فائتوا بمثل سورة منه، ولما كان هذا هو المراد قصرهم في الدعاء على من بحضرتهم من الشهداء وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يونس عليه السلام وبقية السور المذكورة فيها هذا المعنى ما يتم به هذا الكلام.
وفي قوله: {إن كنتم صادقين} إيماء إلى كذبهم في دعوى الشك فيه، قال الحرالي: والصادق الذي يكون قول لسانه وعمل جوارحه مطابقًا لما احتوى عليه قلبه مما له حقيقة ثابتة بحسبه، وقال: اتسقت آية تنزيل الوحي بآية إنزال الرزق لما كان نزول ما نزل على الرسول المخصص بذلك ينبغي اعتباره بمقابلة نزول الرزق، لأنهما رزقان: أحدهما ظاهر يعم الكافر في نزوله، والآخر وهو الوحي رزق باطن يخص الخاصة بنزوله ويتعين له أيهم أتمهم فطرة وأكملهم ذاتًا؛ ولم يصلح أن يعم بنزول هذا الرزق الباطن كعموم الظاهر، فتبطل حكمة الاختصاص في الرزقين، فإن نازعهم ريب في الاختصاص فيفرضون أنه عام فيحاولون معارضته، وكما أنهم يشهدون بتمكنهم من الحس عند محاولته عمومه فكذلك يجب أن يشهدوا بعجزهم عن سورة من مثله تحقق اختصاص من نزل عليه به وأجرى ذكره باسم العبودية إعلامًا بوفائه بأنحاء التذلل وإظهارًا لمزية انفراده بذلك دونهم ليظهر به سبب الاختصاص.
وانتظم النون في {نزلنا} من يتنزل بالوحي من روح القدس والروح الأمين ونحو ذلك، لأنها تقتضي الاستتباع، واقتضت النون في لفظ {عبدنا} ما يظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الانقياد والاتباع وما اقتضاه خلقه العظيم من خفض الجناح، حتى أنه يوافق من وقع على وجه من الصواب من أمته صلى الله عليه وسلم، وحتى أنه يتصف بأوصاف العبد في أكله كما قال: «آكل كما يأكل العبد». انتهى.
والتحدي بسورة يشمل أقصر سورة كالكوثر ومثلها في التحدي آية مستقلة توازيها وآيات، كما قاله الإمام جلال الدين محمد بن أحمد المحلي في شرح جمع الجوامع، وسبقه الإمام شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي فنظمه في القنية في الأصول ونقله في شرحها عن ظاهر كلام إمام الحرمين في الشامل وعن كلام الفقهاء في الصداق فيما لو أصدقها تعليم سورة فلقنها بعض آية، وسبقهما العلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني فقال في تلويحه على توضيح صدر الشريعة: المعجز هو السورة أو مقدارها هكذا ذكر الذين تكلموا في الإعجاز من الأصوليين وغيرهم أن التحدي وقع بسورة من القرآن، والصواب أنه إنما وقع بقطعة آية فما فوقها، لأن المراد بالسورة مفهومها اللغوي لا الاصطلاحي كما تقدم بيانه.
والحاصل أنه لما كان في آيات المنافقين ذكر الأمثال وكانوا قد استغربوا بعض أمثال القرآن وجعلوها موضعًا للشك من حيث كانت موضعًا لليقين فقالوا: لو كان هذا من عند الله لما ذكر فيه أمثال هذه الأمثال، لأنه أعظم من أن يذكر ما دعاهم إلى المعارضة في هذه السورة المدنية بكل طريق يمكنهم، وأخبرهم بأنهم عاجزون عنها وأن عجزهم دائم تحقيقًا لأنهم في ذلك الحال معاندون لا شاكون.
ولما كان سبحانه عالمًا بأن الأنفس الأبية والأنوف الشامخة الحمية التي قد لزمت شيئًا فمرنت عليه حتى صار لها خلقًا يصعب عليها انفكاكها عنه ويعسر خلاصها منه عبر عن هذا الإخبار بالعجز مهددًا في سياق ملجئ إلى الإنصاف بالاعتراف أو تفطر القلوب بالعجز عن المطلوب بقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا} فأتى بأداة الشك تنفيسًا لهم وتهكمًا في نفس الأمر بهم واستجهالًا لهم، ثم لم يتمم ذلك التنفيس حتى ضربهم ضربة فضمت ظهورهم وقطعت قلوبهم فقال لتكون الآية كافلة لصحة نسبة النظم والمعنى آيد وآكد لادعائهم المقدرة بقوله تعالى: {ولن تفعلوا} فألزمهم الخزي بما حكم عليهم به من العجز، فلم يكن لهم فعل إلا المبادرة إلى تصديقه بالكف، فكانوا كمن ألقم الحجر فلم يسعه إلا السكوت، واستمر ذلك التصديق لهم ولأمثالهم على وجه الدهر في كل عصر ينادي مناديه فتخضع له الرقاب ويصدّح مؤذنه فتنكسر الرؤوس، والتعبير بالفعل الأعم من الإتيان أبلغ لأن نفيه نفي الأخص وزيادة.
والفعل قال الحرالي ما ظهر عن داعية من الموقع كان عن علم أو غير علم لتدين كان أو لغيره كما تقدم مرارًا- انتهى.
فقد ثبت أن هذا الكتاب الذي بين أنه الهادي إلى الصراط المستقيم أعظم دليل على إفراده بالعبادة واختصاصه بالمراقبة التي أرشدنا إليها بقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 4] الآية بما ثبت فيه من أدلة التفرد بالإلهية بما ثبت من عجزهم عن معارضته وعجز جميع العرب الذين كانوا أفصح الخلق وكذا جميع من ولد في بلادهم وانطبع بلسانهم من اليهود والنصارى الذين لهم من الفصاحة والعلم ما هو مشهور فقد كان لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا في المدينة الشريفة وخيبر واليمن وغيرها، ومن دخل في دينهم من العرب من الفصاحة والبلاغة والعلم ما لا يحتاج من طالع السيرة فيه إلى توقف، وكان النصارى من بني إسرائيل ومن دان دينهم من العرب وهم كثير كثرة قوم المنذرين ماء السماء، وما قارب الشيء من عبد القيس وتنوخ وعامله وغسان كلهم فصحاء بلغاء، وزاد كثير منهم على ذلك العلم وكان منهم الشعراء المبرزون؛ ومع ذلك فلم يقدر أحد منهم على طعن في هذا القرآن ولا عارضه منهم إنسان إلا ما قاله مسيلمة والأسود العنسي فيما افتضحوا به وأكذبهم الله تعالى فيه وسارت بفضائحهم الركبان فكانوا بها مثلًا في سائر البلدان.
قال عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الحجة في تثبيت خبر الواحد إن الله تبارك وتعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم إلى حظهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وقتلوا أعمامه وبني أعمامه وعلية أصحابه وأعلام أهله، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن وغيره ويدعوهم صباحًا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديًا لهم بها وتقريعًا بعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستورًا وظهر منه ما كان خفيًا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فلذلك يمكنك ما لا يمكننا؛ قال: فهاتوها مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طبع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واتساع لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الحرائب؛ وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في العقل والرأي بطبقات، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم؛ فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد علمهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر! وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك أيضًا محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه- انتهى.
فثبت بهذا عجزهم وخرس قطعًا إفصاحهم ورمزهم وطأطأ ذلًا كبرهم وعزهم، وكيف يمكن المخلوق مع تمكنه في سمات النقص ودركات الافتقار والضعف معارضة من اختص بصفات الكمال وتعالى عن الأنداد والأشباه والأشكال.
وقد اختلف الناس في سبب الإعجاز وأحسن ما وقفت عليه من ذلك ما نقله الإمام بدر الدين الزركشي الشافعي في كتابه البرهان عن الإمام أبي سليمان الخطابي- وقال: وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر- أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها ووضعوا فيه إلى حكم الذوق، قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجات البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل؛ وهذه الأقسام هي الكلام الفاضل المحمود، فالقسم الأول أعلاه والقسم الثاني أوسطه والقسم الثالث أدناه وأقربه؛ فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة وأخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة يعالجان نوعًا من الزعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن لتكون آية بينة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإنما تعذر على البشر جميعًا الإتيان بمثله لأمور، منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم؛ وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشد تلاؤمًا وتشاكلًا من نظمه؛ وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن يوجد مجموعه في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنًا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته، في تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم، منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان، جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم؛ فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة: إنه شعر- لما رأوه منظومًا- ومرة: إنه سحر- لما رأوه معجوزًا عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وفزعًا في النفوس يريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وكانوا مرة بجهلهم يقولون: إنه {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلًا} [الفرقان: 5] مع علمهم أن صاحبه أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز- انتهى.
وأول كلامه يميل إلى أن الإعجاز بمجرد النظم من غير نظر إلى المعنى، وآخره يميل إلى أنه بالنظر إلى النظم والمعنى معًا من الحيثية التي ذكرها، وهو الذي ينبغي أن يعتقد لكن في التحدي بسورة واحدة وأما بالعشر فبالنظر إلى البلاغة في النظم فقط- نقله البغوي في تفسير سورة هود عن المبرد وقد مر آنفًا مثله في كلام الجاحظ.
وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل الباب الأول في علو بيان القرآن على بيان الإنسان: اعلم أن بلاغة البيان تعلو على قدر علو المبين، فعلو بيان الله على بيان خلقه بقدر علو الله على خلقه، فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه، فإذا أبان الإنسان عن الكائن أبان بقدر ما يدرك منه وهو لا يحيط به علمه فلا يصل إلى غاية البلاغة فيه بيانه، وإذا أنبأ عن الماضي فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائنًا في ذكره لما لزم الإنسان من نسيانه، وإذا أراد أن ينبئ عن الآتي أعوزه البيان كله إلا ما يقدّره أو يزوّره؛ فبيانه في الكائن ناقص وبيانه في الماضي أنقص وبيانه في الآتي ساقط {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} [القيامة: 5] وبيان الله سبحانه عن الكائن بالغ إلى غاية ما أحاط به علمه {قل إنما العلم عند الله} [الملك: 26] وعن المنقطع كونه بحسب إحاطته بالكائن وسبحانه من النسيان {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] وعن الأتي بما هو الحق الواقع {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق} [الأعراف: 7، 8] والمبين الحق الذي لا يوهن بيانه إيهام نسبة النقص إلى بيانه، والإنسان يتهم نفسه في البيان ويخاف أن ينسب إلى العي فيقصد استقراء البيان ويضعف مفهوم بيانه ضعفًا من منته ومفهوم بيان القرآن أضعاف أضعاف أنبائه وقل ما ينقص عن نظيره- انتهى.
وقال الإمام محمد بن عبد الرحمن المراكشي الأكمه في شرح نظمه لمصباح ابن مالك في المعاني والبيان ما يصلح أن يكون متنًا وجملة وما تقدم شرحًا له وتفصيلًا قال: الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكر في علم البيان وهو كما اختاره جماعة في تعريفه ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى وعن تعقيده، وتعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال، لأن جهة إعجازه ليست مفردات ألفاظه وإلا لكانت قبل نزوله معجزة، ولا مجرد تأليفها وإلا لكان كل تأليف معجزًا، ولا إعرابها وإلا لكان كل كلام معرب معجزًا، ولا مجرد أسلوبه وإلا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزًا- والأسلوب الطريق- ولكان هذيان مسيلمة معجزًا، ولأن الإعجاز يوجد دونه أي الأسلوب في نحو {فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا} [يوسف: 80] {فاصدع بما تؤمر} [الحجر: 94] ولا بالصرف عن معارضته، لأن تعجبهم كان من فصاحته، ولأن مسيلمة وابن المقفّع والمعري وغيرهم قد تعاطوها فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع ويضحك منه في أحوال تركيبه ويهان بتلك الأحوال، أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء؛ فعلى إعجازه دليل إجمالي وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها فغيرها أحرى، ودليل تفصيلي مقدمته التفكر في خواص تركيبه، ونتيجته العلم بأنه تنزيل من المحيط بكل شيء علمًا- انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في أواخر العنكبوت ما ينفع ها هنا. اهـ.