فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام الدلائل القاهرة على إثبات الصانع وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدل على النبوة، وذلك يدل على فساد قول التعليمية الذين جعلوا معرفة الله مستفادة من معرفة الرسول، وقول الحشوية الذين يقولون لا تحصل معرفة الله إلا من القرآن والأخبار، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مبنية على كون القرآن معجزًا أقام الدلالة على كونه معجزًا.
واعلم أن كونه معجزًا يمكن بيانه من طريقين:
الأول: أن يقال إن هذا القرآن لا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون مساويًا لسائر كلام الفصحاء، أو زائدًا على سائر كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة أو زائدًا عليه بقدر ينقض، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث، وإنما قلنا إنهما باطلان، لأنه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمثل سورة منه إما مجتمعين أو منفردين، فإن وقع التنازع وحصل الخوف من عدم القبول فالشهود والحكام يزيلون الشبهة، وذلك نهاية في الاحتجاج لأنهم كانوا في معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية.
وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال وارتكبوا ضروب المهالك والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل، وكل ذلك يوجب الإتيان بما يقدح في قوله.
والمعارضة أقوى القوادح، فلما لم يأتوا بها علمنا عجزهم عنها فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم، وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتًا معتادًا فهو إذن تفاوت ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزًا، فهذا هو المراد من تقرير هذه الدلالة فظهر أنه سبحانه كما لم يكتف في معرفة التوحيد بالتقليد فكذا في معرفة النبوة لم يكتف بالتقليد؛ واعلم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان فصاحته، ومع ذلك فإنه في الفصاحة بلغ النهاية التي لا غاية لها وراءها فدل ذلك على كونه معجزًا، أحدها: أن فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت العرب عليها في كلامهم، وثانيها: أنه تعالى راعى فيه طريقة الصدق وتنزه عن الكذب في جميعه وكل شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيدًا ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما.
ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي وأن الله تعالى مع ما تنزه عن الكذب والمجازفة جاء بالقرآن فصيحًا كما ترى.
وثالثها: أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين.
والباقي لا يكون كذلك، وليس كذلك القرآن لأنه كله فصيح بحيث يعجز الخلق عنه كما عجزوا عن جملته.
ورابعها: أن كل من قال شعرًا فصيحًا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول.
وفي القرآن التكرار الكثير ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلًا.
وخامسًا: أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة، وأمثال هذه الكلمات توجب تقليل الفصاحة.
وسادسها: أنهم قالوا إن شعر امرئ القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل.
وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن، أما القرآن فإنه جاء فصيحًا في كل الفنون على غاية الفصاحة، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى قال في الترغيب: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وقال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71] وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر تِ} [الإسراء: 68] وقال: {أأمنتم مَّن في السماء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هي تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ} [الملك: 16، 17] الآية وقال: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] إلى قوله: {ويأتيه الموت من كل مكان} [إبراهيم: 17] وقال في الزجر ما لا يبلغه وهم البشر وهو قوله: {فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] إلى قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] وقال في الوعظ ما لا مزيد عليه {أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِين} [الشعراء: 205] وقال في الإلهيات: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى مَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَاد} [الرعد: 8] إلى آخره.
وسابعها: أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن، وكذا علم أصول الفقه.
وعلم النحو واللغة، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق، ومن تأمل كتابنا في دلائل الإعجاز علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة إلى النهاية القصوى، الطريق الثاني: أن نقول: القرآن لا يخلوا إما أن يقال إنه كان بالغًا في الفصاحة إلى حد الإعجاز، أو لم يكن كذلك فإن كان الأول ثبت أنه معجز.
وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة فعدم إتيانهم بالمعارضة مع كون المعارضة ممكنة ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق العادة فكان ذلك معجزًا فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار، والعطف إما على قوله تعالى: {اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] وعلى {فَلاَ تَجْعَلُواْ} [البقرة: 22] وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفي الشرك بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه أرشدهم بما يوجب هذا العلم، ولذا لم يقل جل شأنه وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعًا ولو أريد ذلك لكفى اعبدوا، ولاتشركوا من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن، وقيل لليهود لما أن سبب النزول كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله عليه وسلم لا يشبه الوحي {وَإِنَّا لَفِى شَكّ مِنْهُ} وقيل: هو على نحو الخطاب في {اعبدوا} [البقرة: 1 2] وكلمة {إن} إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله، أو لتغليب من لا قطع بارتيابهم على من سواهم، أو لأن البعض لما كان مرتابًا والبعض غير مرتاب جعل الجميع كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه وجعلها بمعنى إذا كما ادعاه بعض المفسرين خلاف مذهب المحققين وإيراد كلمة كان لإبقاء معنى المضي فانها لتمحضها للزمان لا تقبلها إن إلى معنى الاستقبال كما ذهب إليه المبرد وموافقوه والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية، وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن، أو تبين مثلًا ولا يميل إليه الفؤاد، وتنكير الريب للاشعار بأن حقه إن كان أن يكون ضعيفًا قليلًا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله، وجعله ظرفًا بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ}.
انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] إلخ.
فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أندادًا جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضَلالهم كانوا يدَّعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم} [الزخرف: 20] فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم، فزادت بهذا مناسبةُ عطف قوله: {وإن كنتم في ريب} عقب قوله: {فلا تجعلوا لله أندادًا} [البقرة: 22].
وأتى بإنْ في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط، لأن مدلول هذا الشرط قد حَفَّ به من الدلائل ما شأنه أن يقلَع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضًا فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخًا على تحقق ذلك الشرط، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع.
ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر.
وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم.
ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان، فكيف يبقى بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلًا عن أن يكونوا منغمسين فيه.
ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
واستعارة في لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة.
وأتى بفعل نَزَّل دون أنزل لأن القرآن نزل نجومًا.
وقد تقدم في أول التفسير أن فعَّل يدل على التقضي شيئًا فشيئًا على أن صاحب الكشاف قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة.
والسورة قطعة من القرآن معينة فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض. اهـ.

.قال الفخر:

إنما قال: {نَزَّلْنَا} على لفظ التنزيل دون الإنزال لأن المراد النزول على سبيل التدريج، وذكر هذا اللفظ هو اللائق بهذا المكان لأنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله ومخالفًا لما يكون من عند الناس لم ينزل هكذا نجومًا سورة بعد سورة على حسب النوازل ووقوع الحوادث وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقًا حينًا فحينًا بحسب ما يظهر من الأحوال المتجددة والحاجات المختلفة فإن الشاعر لا يظهر ديوان شعره دفعة والمترسل لا يظهر ديوان رسائله وخطبه دفعة فلو أنزله الله تعالى لأَنزله على خلاف هذه العادة جملة {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة} [الفرقان: 32] والله سبحانه وتعالى ذكر هاهنا ما يدل على أن القرآن معجز مع ما يزيل هذه الشبهة وتقريره أن هذا القرآن النازل على هذا التدريج إما أن يكون من جنس مقدور البشر أو لا يكون، فإن كان الأول وجب إتيانهم بمثله أو بما يقرب منه على التدريج، وإن كان الثاني ثبت أنه مع نزوله على التدريج معجز وقرئ: {على عبادنا} يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته. اهـ.

.قال الألوسي:

من ابتدائية صفة {رَيْبَ} ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلًا للريب وحاشاه، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب، وقيل: عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه.
ومعنى كونهم في ريب منه ارتيابهم في كونه وحيًا من الله تعالى شأنه، والتضعيف في {نَزَّلْنَا} للنقل وهو المرادف للهمزة، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب {أنزلنا} وليس التضعيف هنا دالًا على نزوله منجمًا ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة} [الفرقان: 2 3] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبًا في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو فتحت وقطعت، و{نزلنا} لم يكن معتديًا قبل، وأيضًا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديًا فلا، والفعل هنا كان لازمًا فكون التعدي مستفادًا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضًا لو كان نزل مفيدًا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى: {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جملة واحدة} [الفرقان: 32] إلى تأويل، لمنافاة العجز الصدر، وكذا مثل {وَلولاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ} [الأنعام: 7 3] و{لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسرار: 5 9] وقد قرئ بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلًا قليلًا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلًا قليلًا قالوا: ونظيره تدرج وتدخل ونحوه رتبه أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازًا أو اشتراكًا فلا يلزم اطراده بعيد لاسيما مع خفاء القرينة، وفي تعدي نزل بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول.
وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله عليه وسلم:
لا تدعني إلا بيا عبدها ** فإنه أشرف أسمائي

وقرئ: {عبادنا} فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه، ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقًا له ومهيمنًا عليه، وبعضهم جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَئ} [الأنعام: 1 9] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيمًا للمنزل أو المنزل عليه لاسيما وقد أتى ب (ن) المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام، والفاء من {فَاتُواْ} جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى: {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر والاعيان والاعراض، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك {لاَ يَأْتُونَ الصلاة إلا وهم كسالى} [التوبة: 4 5] وأصل {فَاتُواْ} فأتيوا فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذًا حذف الفاء فقيل ت وتوا والتنوين في سورة للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
و{مّن مّثْلِهِ} إما أن يكون ظرفًا مستقرًا صفة لسورة والضمير راجع إما لما التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين، والأخفش يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر، وأما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضًا كما قيل: في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكًا لطريق الكناية مع ما في لفظ من التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنًا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون من للإبتداء مثلها في {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} [النمل: 0 3] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة {فَاتُواْ}.
والشائع أنه يتعين حينئذ عود الضمنير للعبد لأن من لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقرًا أبدًا لا تتعلق بالأمر لغوًا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعًا عليه حقيقة كما في أخذت من الدراهم ولا معنى لإتيان البعض بل المقصد الإتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود من ولأنه يلزم أن يكون {بِسُورَةٍ} ضائعًا فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفًا للاتيان بالكلام منه معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للاتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضًا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئًا من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادًا من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام.
واعترض بأن معنى من لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبه: 8 3] {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً} [الزخرف: 0 6] وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا لو علق {مّن مّثْلِهِ} ب {فَاتُواْ} وحمل من على البدل أو المجاوزة ومثل على المقحم ورجع الضمير إلى {مَا أَنَزَلْنَا} على معنى: فأتوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه، الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه: وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار وأيضًا فالاتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال وهو الذي اختاره مولانا الشهاب أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم: معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير لما أو للعبد لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضًا، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضًا ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه ائتوا من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن من ليست بيانية لأنها لا تكون لغوًا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليًا بل ماديًا، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعى وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتضىٍ أولًا ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟ا والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، وما على تقديري اللغو والاستقرار أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي ولا أزكى نفسي أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجار بردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل.
وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في الأجوبة العراقية ثم أولى الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل و{مِنْ} بيانية، أما أولًا: فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} [يونس: 38] لأن المماثلة فيها صفة للمأتى به، وأما ثانيًا: فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعًا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثًا: فلأن أمر الجم الغفير لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدًا يأتي ما أتى به رجل آخر، وأما رابعًا: فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأنه الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر ما نزلنا أن يكون الكلام مسوقًا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟ا وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أميّ كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السياق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرًا كما سنبينه بمنه تعالى. اهـ.