فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}.
والعتو تقدم عند قوله تعالى: {فعقروا الناقة وعَتوا عن أمر ربهم} في هذه السورة (77).
وقوله: {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} في سورة البقرة (65)، ولأجل التشابه بين الآيتين، وذكر العدْوِ في السبت فيهما، وذكرِه هنا في الإخبار عن القرية، جزم المفسرون بأن الذين نسوا مَا ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه هم أهل هذه القرية، وبأن الأمة القائلة {لم تعظون قومًا} هي أمة من هذه القرية فجزموا بأن القصة واحدة، وهذا وإن كان لا ينبو عنه المقام، كما أنه لا يمنعُ تشابه فريقين في العذاب، فقد بينتُ أن ذلك لا ينافي جعل القصة في معنى قصتين من جهة الاعتبار. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}.
وأخذهم بعذاب يدل على أنه لم يزهق حياتهم ويميتهم؛ لأن العذاب هو إيلام من يتألم، والموت ليس عذابًا لأنه ينهي الإِحساس بالألم، ولنتعرف على الفارق بين الموت والعذاب حين نقرأ قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، يقول سيدنا سليمان حين تنبه لغياب الهدهد عندما وجد مكانه خاليا: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَاْذْبَحَنَّهُ...} [النمل: 20- 21].
هكذا نرى الفارق بين العذاب وبين الموت. وهنا يقول الحق: {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} و{عتوا} تعني أبْوا وعصوْا واستكبروا فحق عليهم عذاب الله الذي أوضحه قول الحق: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.
لأن العتو كبرياء وإباء؛ فيعاقبهم الله بأن جعلهم كأخس الحيوانات فصيرهم أشباه القرود، كل منهم مفضوح السوءة، يسخر الناس منهم ويستهزئون بهم. فهل انقلبوا قردة؟. نعم؛ لأنك حين تأمر إنسانًا بفعل.. أَلاَ تُقَدِّر قبل الأمر له بالفعل أنه صالح أن يفعل وألا يفعل؟. وحين يقول الله: {كُونُواْ قِرَدَةً} فهل في مكنتهم أن يصنعوا من أنفسهم قردة؟. ونقول: إن هذا اسمه أمر تسخيري أي اصبحوا وصُيرِّوا قردة. وقد رأوهم على هذه الهيئة من وعظوهم، وهي هنا مقولة خبر نصدقه بتوثيق من قاله، وكان هذا الخبر واقعًا لمن شاهده.
ولذلك نجد المعجزات التي حدثت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن الذي وصلنا ككتاب منهج ومعجزة وسيظل كذلك إلى قيام الساعة، لكن ألم ينبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم؟ لقد حدث ذلك وغيره من المعجزات وشاهده أصحابه صلى الله عليه وسلم، وأخبرونا بالخبر، وكان ذلك آية تُثبِّت يقينهم وإيمانهم. وتثبت لنا خبرًا، فإن اتسع لها ذهنك فأهلًا وسهلًا، وإن لم يتسع لها فلا توقف إيمانك؛ لأنها آية لم تأت من أجلك أنت، وكل معجزة كونية حدثت لرسول الله فالمراد بها من شاهدها، ووصلتك أنت كخبر، إن وثقت بالخبر صدقته، وإن لم تثق به ووقفت عنده فلن ينقص إيمانك. غير أنه يجب على من وصل إليه الخبر بطريق مقطوع به، أن يصدق ويذعن.
وقد أخبر الحق هنا بالأمر بقوله: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} بأنه أوقع عليهم عذابًا بأن جعلهم قردة خاسئين، فهذا عقاب للذين عتوا عمَّا نهوا عنه. والذين وعظوهم أو عاصروهم هم من شاهدوا وقوع العذاب.
وهل الممسوخ يظل ممسوخًا؟. إن الممسوخ قردًا أو خنزيرًا، يظل فترة كذلك ليراه من رآه ظالمًا، ثم بعد ذلك يموت وينتهي. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى} لما قص الله علينا ما وقع من السامريّ وأصحابه، وما حصل من بني إسرائيل من التزلزل في الدين، قص علينا سبحانه أن قوم موسى أمة مخالفة لأولئك الذين تقدّم ذكرهم، ووصفهم بأنهم {يَهْدُونَ بالحق} أي يدعون الناس إلى الهداية حال كونهم متلبسين بالحق {وَبِهِ} أي: بالحق {يَعْدِلُونَ} بين الناس في الحكم.
وقيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم منهم.
قوله: {وقطعناهم اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} الضمير يرجع إلى قوم موسى المتقدّم ذكرهم، لا إلى هؤلاء الأمة منهم الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، والمعنى: صيرناهم قطعًا متفرّقة، وميزنا بعضهم من بعض.
وهذا من جملة ما قصه الله علينا من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، والمعنى: أنه ميز بعضهم من بعض حتى صاروا أسباطًا كل سبط معروف على انفراده لكل سبط نقيب، كما في قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] وقد تقدّم، وقوله: {اثنتى عَشْرَةَ} هو ثاني مفعولي {قطعنا} لتضمنه معنى التصيير.
و{أسباطًا} تمييز له أو بدل منه.
و{أُمَمًا} نعت للأسباط أو بدل منه.
والأسباط جمع سبط: وهو ولد الولد، صاروا اثنتي عشرة أمة من اثني عشر ولدًا، وأراد بالأسباط القبائل، ولهذا أنث العدد، كما في قول الشاعر:
وإن قريشًا كلها عشر أبطن ** وأنت بريء من قبائلها العشر

أراد بالبطن القبيلة.
وقد تقدّم تحقيق معنى الأسباط في البقرة [الآية: 58].
وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ {قطعناهم} مخففًا، وسماهم أممًا، لأن كل سبط كان جماعة كثيرة العدد، وكانوا مختلفي الآراء يؤمّ بعضهم غير ما يؤمه الآخر.
{وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} أي وقت استسقائهم له لما أصابهم العطش في التيه {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ الحجر} تفسير لفعل الايحاء {فانبجست} عطف على مقدّر يدل عليه السياق، أي فضرب فانبجست، والانبجاس: الانفجار، أي فانفجرت {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} بعدد الأسباط، لكل سبط عين يشربون منها {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي: كل سبط منهم العين المختصة به التي يشرب منها.
وقد تقدّم في البقرة ما فيه كفاية مغنية عن الإعادة.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} أي جعلناه ظللًا عليهم في التيه، يسير بسيرهم ويقيم بإقامتهم {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى} أي: الترنجبين والسماني كما تقدّم تحقيقه في البقرة {كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} أي: وقلنا لهم كلوا من المستلذات التي رزقناكم {وَمَا ظَلَمُونَا} بما وقع منهم من المخالفة وكفران النعم وعدم تقديرها حق قدرها {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: كان ظلمهم مختصًا بهم مقصورًا عليهم، لا يجاوزهم إلى غيرهم.
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} أي: واذكر وقت قيل لهم هذا القول وهو {اسكنوا هذه القرية} أي: بيت المقدس أو أريحاء.
وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه {وَكُلُواْ مِنْهَا} أي: من المأكولات الموجودة فيها {حَيْثُ شِئْتُمْ} أي: في أيّ مكان شئتم من أمكنتها، لا مانع لكم من الأكل فيه {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} قد تقدم تفسيرها في البقرة [الآية: 58] {وادخلوا الباب} أي: باب القرية المتقدمة حال كونكم {سُجَّدًا} أمروا بأن يجمعوا بين قولهم: {حطة} وبين الدخول ساجدين.
فلا يقال كيف قدّم الأمر بالقول هنا على الدخول وأخّره في البقرة؟ وقد تقدّم بيان معنى السجود الذي أمروا به {نَغْفر لَكُمْ خطيئاتكم} جواب الأمر، وقرئ {خَطِيتِكُمْ}، ثم وعدهم بقوله: {سَنَزِيدُ المحسنين} أي: سنزيدهم على المغفرة للخطايا بما يتفضل به عليهم من النعم.
والجملة استئنافية جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: فماذا لهم بعد المغفرة؟ {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} قد تقدّم بيان ذلك في البقرة [الآية: 59] {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ السماء} أي: عذابًا كائنًا منها {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أي: بسبب ظلمهم.
قوله: {وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} معطوف على عامل إذ المقدّر، أي اذكر إذ قيل لهم واسألهم، وهذا سؤال تقريع وتوبيخ، والمراد من سؤال القرية: سؤال أهلها، أي اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها المخالف لما أمرهم الله به.
وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة، وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن اطلاعه لا يكون إلا بإخبار له من الله سبحانه، فيكون دليلًا على صدقه.
واختلف أهل التفسير في هذه القرية: أيّ قرية هي؟ فقيل أيلة.
وقيل طبرية.
وقيل مدين.
وقيل إيليا.
وقيل قرية من قرى ساحل الشام التي كانت حاضرة البحر، أي التي كانت بقرب البحر.
يقال كنت بحضرة الدار، أي بقربها.
والمعنى: سل يا محمد هؤلاء اليهود الموجودين عن قصة أهل القرية المذكورة.
قرئ {واسألهم} وقرئ {سلهم}.
{إِذْ يَعْدُونَ} أي وقت يعدون، وهو ظرف لمحذوف دلّ عليه الكلام، لأن السؤال هو عن حالهم وقصتهم وقت يعدون.
وقيل: إنه ظرف ل {كانت} أو ل {حاضرة}.
وقرئ {يُعِدُّون} بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال من الإعداد للآلة.
وقرأ الجمهور {يعدون} بفتح الياء وسكون العين وضم الدال مخففة، أي يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت الذي نهوا عن الاصطياد فيه.
وقرئ {يعدّون} بفتح الياء والعين وضم الدال مشدّدة بمعنى يعتدون، أدغمت التاء في الدال.
والسبت: هو اليوم المعروف وأصله السكون.
يقال سبت: إذا سكن وسبت اليهود تركوا العمل في سبتهم، والجمع أسبت، وسبوت، وأسبات، وقرأ ابن السميفع في {الأسبات} على الجمع.
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} ظرف ل {يعدون}.
والحيتان: جمع حوت، وأضيفت إليهم لمزيد اختصاص لهم بما كان منها على هذه الصفة من الإتيان يوم السبت دون ما عداه.