فصل: فصل: الرد على أقوال من يجيز الحيل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
وقد عرف بما ذكرنا الفرق بين الحيل التي تخلص من الظلم والبغى والعدوان، والحيل التي يحتال بها على إباحة الحرام، وإسقاط الواجبات، وإن جمعهما اسم الحيلة والوسيلة. وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام، وإنما يتوسل بها إليه، وهو المقصود الذي اتفقا عليه، ويعلمه الله تعالى من نفوسهما وهما يعلمانه، ومن شاهدهما يعلمه.
وكذلك تمليك ماله لولده عند قرب الحول، فرارًا من الزكاة، لا يخلص من الإثم، بل يغمسه فيه، لأنه قصد إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه، ولكن عذر من جوز ذلك أنه لم يسقط الواجب، وإنما أسقط الوجوب وفرق بين الأمرين، فإن له أن يمنع الوجوب، وليس له أن يمنع الواجب.
وهكذا القول في التحيل على إسقاط الشفعة قبل البيع، فإنه يمنع وجوب الاستحقاق.
ولا يمنع الحق الذي وجب بالبيع فذلك لا يجوز، وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها.
وكذلك التحيل على منع وجوب الجمعة عليه، بأن يسكن في مكان لا يبلغه النداء أولا يمكنه الذهاب منه إلى الجمعة والرجوع في يومه، أو السفر قبل دخول وقتها، ولا يجوز له التحيل على تركها بعد وجوبها عليه.
وكذلك التحيل على منع وجوب الإنفاق على القريب، بأن لا يكتسب ما لا يجب فيه الإنفاق. ولا يجوز له التحيل على إسقاط ما وجب من ذلك.
فهذا سر الفرق اعتمده أصحاب الحيل.
وأما المانعون فيجيبون عن ذلك:
بأن هذا لو أجدى على المتحيلين لم يعاقب الله سبحانه وتعالى أصحاب الجنة الذين عزموا على صرامها ليلا، لئلا يحضرهم المساكين، فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه، وهو نظير التحيل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها. وبأن هذا يبطل حكمة الإيجاب. فإن الله سبحانه إنما أوجبها في أموال الأغنياء طهرة لهم وزكاة، ورحمة للمساكين، وسدا لفاقتهم. فالتحيل على منع وجوبها يعود على ذلك كله بالإبطال.
وبأن الشارع لوجوّز التحيل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه، لم يكن في الإيجاب فائدة، إذ ما من أحد إلا ويمكنه التحيل بأدنى حيلة على الدفع، فيكون الإيجاب عديم الفائدة فإنه إذا أوجبه وجوز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده.
وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلف، فلا يمكنه الشارع من قطع هذا التعليق، ولاسيما إذا شارف وقت الوجوب وحضر، حتى كأنه داخل فيه، كما إذا بقى من الحول يوم، أو ساعة، فالإسقاط هاهنا في حكم الإسقاط بعد الحول سواء، ومفسدته كمفسدته، فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبب إلى المنع قبلها من كل وجه.
وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذي قد صح ووجد.
وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه وإنما جوز له التأخير إلى تمام الحول توسعة عليه ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول، ويكون واقعًا موقعه، ولأن الفرار من الإيجاب إنما يقصد به الفرار من أداء الواجب، وأن يسقط ما فرضه الله عليه عند مضى الحول. وليس هذا كمن ترك اكتساب المال الذي يجب فيه الزكاة، فرارا من وجوبها عليه، أو ترك بيع الشْقص فرارًا من أخذ الشفيع له أوترك التزوج فرار أمن وجوب الإنفاق ونحو ذلك، فإن هذا لم ينعقد في حقه السبب. بل ترك ما يفضى إلى الإيجاب، ولم يتسبب إليه، وهذا تحيل بعد السبب على إسقاط ما تعلق به من أداء الواجب. واحتال على قطع سببيته بعد ثبوتها.
وأيضًا، فإن قطع سببية السبب تغيير لحكم الله، وإسقاط للسببيه بالتحيل، وليس ذلك للمكلف، فإن الله سبحانه هو الذي جعل هذا سببا بحكمه وحكمته، فليس له أن يبطل هذا الجعل بالحيلة والمخادعة، وهذا بخلاف ما إذا وهبه ظاهرًا وباطنا، أو أنفقه فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب، وأداء الواجب.
وأيضًا، فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك الحيلة على منع أداء الواجب. ومعلوم أن منعه أداء الواجب فقط أيسر من تحيله على الأمرين جميعًا.
وأيضًا فإنه لا يصح فراره من الوجوب مع إتيانه بسببه، فإن الفارّ من الشيء فار من أسبابه، وهذا أحرص شيء على الملك الذي هو سبب وجوب الحق عليه، ومن حرصه عليه: تحيلَ على ترك الإخراج حرصًا وشحًا. فهو فار من أداء الواجب، ظانًا أنه يفر من وجوبه عليه. والأول حاصل له دون الثانى.
ونكتة الفرق من جهة الوسيلة والمقصود، فإن المحتال على المحرمات، وإسقاط الواجبات، مقصوده فاسد، ووسيلته باطلة. فإنه توسل بالشيء إلى غير مقصوده، وتوسل به إلى مقصود محرم.
فإن الله سبحانه إنما جعل النكاح وسيلة إلى المودة والرحمة، والمصاهرة والنسل، وغض البصر، وحفظ الفرج، والتمتع والإيواء، وغير ذلك من مقاصد النكاح، والمحلل لم يتوسل به إلى شيء من ذلك بل إلى تحليل ما حرمه الله تعالى، فإنه سبحانه حرمها على المطلق ثلاثا عقوبة له، فتوسل هذا بنكاحها إلى تحليل ما حرمه الله تعالى له، ولم يتوسل به إلى ما شرع له. فكان القصد محرمًا، والوسيلة باطلة.
وكذلك شرع الله البيع وسيلة إلى انتفاع المشترى بالعين والبائع بالثمن، فتوسل به المرابى إلى محض الربا، وأتى به لغير مقصوده. فإنه لا غرض له في تملك تلك العين، ولا الانتفاع بها، وإنما غرضه الربا، فتوسل إليه بالبيع.
وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعًا للضرر عن الشريك. فتوسل المبطل لها بإظهار الصرف الذي لا حقيقة له إلى إبطالها، فكانت وسيلته باطلة، ومقصوده محرمًا.
وكذلك الزكاة. فرضها رحمة منه بالمساكين، وطهرة للأغنياء، فتوسل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقد لا حقيقة له، من بيع، أو هبة.
وكذلك القرض شرع الله سبحانه فيه العدل، وأن لا يزداد على مثل ما أقرضه. فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرم بطريق باطلة.
وكذلك بيع الثمر قبل بُدُوّ صلاحها باطل، لما يفضى إليه من أكل المال بالباطل، فإذا احتال عليه بأن شرط القطع ثم تركه حتى يكمل، كان قد احتال على مقصود محرم بشرط غير مقصود، بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه، ولاسيما إن كان مما لا ينتفع به قبل الصلاح بوجه كالتوت والفرسك وغيرهما. فاشتراط قطعه خداع محض.
وكذلك سائر الحيل التي تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال، غاياتها محرمة، ووسائلها باطلة لا حقيقة لها.
وكذلك الفدية والخلع التي شرعها الله ليخلص كلا من الزوجين من الآخر إذا وقع الشقاق بينهما، فجعلوه حيلة للحنث في اليمين، وبقاء النكاح. والله سبحانه إنما شرعه لقطع النكاح. حيث يكون قطعه مصلحة لهما.
وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التي يتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله وإقامة دينه، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ونصر المحق، وكسر المبطل. والحيل التي يتوصل بها إلى خلاف ذلك. فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التي جعلت موصلة إليها شئ، وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التي جعلت لغيرها شيء آخر.
فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود، اللذين هما: المحتال به والمحتال عليه.
فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع هي الطرق التي لا خداع في وسائلها، ولا تحريم في مقاصدها، وبالله التوفيق.

.فصل: الرد على أقوال من يجيز الحيل:

وأما قولكم: إن من حلف بطلاق زوجته: ليشربن هذا الخمر، أو ليقتلن هذا الرجل، أو نحو ذلك- كان في الحيلة تخليصه من هذه المفسدة. ومن مفسدة وقوع الطلاق.
فيقال: نعم والله، قد شرع الله له ما يتخلص به، ولخلاصه طرق عديدة، فلا تتعين الحيلة التي هي خداع ومكر لتخليصه، بل هاهنا طرق عدة قد سلك كل طريق منها طائفة من الفقهاء من سلف الأمة وخلفها.
الطريق الأولى: طريقة من قال: لا تنعقد هذه اليمين بحال، ولا يحنث فيها بشيء سواء كانت بصيغة الحلف، كقوله الطلاق يلزمنى لأفعلن أو بصيغة التعليق المقصود كقوله إن طلعت الشمس، أو إن حضت، أو إن جاء رأس الشهر، فأنت طالق أو التعليق المقصود به اليمين، من الحض والمنع، والتصديق والتكذيب، كقوله إن لم أفعل كذا، وإن فعلت كذا، فامرأتى طالق وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعى، الذين جالسوه، أو من هو من أجلهم: أبى عبد الرحمن. وهو أجل من أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعى، وهذا مذهب أكثر أهل الظاهر.
فعندهم أن الطلاق لا يقبل التعليق كالنكاح، ولم يرد مخالفوا هؤلاء عليهم بحجة تشفى.
الطريق الثانية: طريق من يقول: لا يقع الطلاق المحلوف به، ولا العتق المحلوف به، ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه، وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأبى هريرة، وعائشة، وزينب بنت أم سلمة، وحفصة، في الحلف بالعتق الذي هو قربه إلى الله تعالى، بل من أحب القرب إلى الله، ويسرى في ملك الغير، فما يقول هؤلاء في الحلف بالطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله تعالى، وأحب الأشياء إلى الشيطان؟. والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأة حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته. فقالوا لها كفرى عن يمينك، وخلى بين الرجل وبين امرأته.
وهؤلاء الصحابة أفقه في دين الله وأعلم من أن يفتوا بالكفارة في الحلف بالعتق ويرونه يمينا. ولا يرون الحلف بالطلاق يمينا،. ويلزمون الحانث بوقوعه، فإنه لا يجد فقيه شم رائحة بين البابين والتعليقين فرقًا بوجه من الوجوه.
وإنما لم يأخذ به أحمد، لأنه لم يصلح عنده إلا من طريق سليمان التيمى، واعتقد أنه تفرد به. وقد تابعه عليه محمد بن عبد الله الأنصارى، وأشعث الحمرانى، ولهذا لما ثبت عند أبى ثور قال به، وظن الإجماع في الحلف بالطلاق على لزومه، فلم يقل به.
الطريق الثالثة: طريق من يقول: ليس الحلف بالطلاق شيئًا، وهذا صحيح عن طاوس، وعكرمة.
أما طاوس فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئًا.
وقد رد بعض المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل بأن عبد الرزاق ذكره في باب يمين المكره، فحمله على الحلف بالطلاق مكرها، وهذا فاسد، فإن الحجة ليست في الترجمة. وإنما الاعتبار بما يروى في أثناء الترجمة، ولاسيما المتقدمين، كابن أبى شيبة، وعبد الرزاق ووكيع وغيرهم، فإنهم يذكرون في أثناء الترجمة آثارًا لا تطابق الترجمة، وإن كان لها بها نوع تعلق، وهذا في كتبهم- لمن تأمله- أكثر وأشهر من أن يخفى، وهو في صحيح البخارى وغيره، وفى كتب الفقهاء وسائر المصنفين.
ثم لو فهم عبد الرزاق هذا، وأنه في يمين المكره، لم تكن الحجة في فهمه، بل الأخذ بروايته، وأى فائدة في تخصيص الحلف بالطلاق بذلك؟ بل كل مكره حلف بأى يمين كانت، فيمينه ليست بشيء.