فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله تعالى: {فخلف من بعدهم} يعني من بعد هؤلاء الذين وصفناهم قوله تعالى: {خلف} يعني خلف سوء يعني حدث من بعدهم وتبدل منهم بدل سوء يقال منه هو خلّف صدق بفتح اللام وخلف سوء بسكونها فأكثر ما يقال في المدح بفتح اللام وفي الذم بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت في المدح:
لنا القدم الأولى إليك وخلْفنا ** لأولنا في طاعة الله تابع

فسكن اللام في قوله وخلفنا وهو يريد المدح وقال لبيد في الذم:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خَلَف كجلد الأجرب

ففتح اللام وهو يريد الذم وأصله من الفساد.
يقال: خلف اللبن إذا فسد وتغير في السقاء ويقال للرديء من القول: خلف وخلف الشيء تغيره، ومنه خلوف فم الصائم والمعنى جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن كان قبله {ورثوا الكتاب} يعني انتقل إليهم الكتاب عن آبائهم والمراد بالكتاب التوراة {يأخذون عرَض هذا الأدنى} العرض بفتح الراء جميع متاع الدنيا كما يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والعرْض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير والمعنى أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام على تبديل الكلام وتغييره وذلك الذي يأخذونه من حطام الدنيا هو الشيء التافه الخسيس الحقير لأن الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنها حرام ثم إنهم مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم يصرون عليه {ويقولون سيغفر لنا} يعني ذنوبنا فيتمنون على الله الأماني الباطلة الكاذبة عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» أخرجه الترمذي وقال في قوله دان نفسه يعني حاسبها في الدنيا قبل أن يحاسَب يوم القيامة وموضع الاستشهاد من الحديث على الآية، قوله وتمنى على الله الأماني لأن اليهود كانوا يقدمون على الذنوب ويقولون سيغفر لنا وهذا هو التمني بعينه قوله تعالى: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} وهذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب، والمعنى أنهم إذا أتاهم شيء من الدنيا أخذوه حلالًا كان أو حرامًا ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه.
قال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيًا إلا ارتشى في الحكم فيقال له ما بالك ترتشي فيقول: سيغفر لي فيطعن عليه الآخرون فإذا مات أو نزع من الحكم وجعل مكانه آخر فمن كان يطعن عليه ارتشى أيضًا يقول الله وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} يعني ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم العهود والمواثيق في الكتاب وهو التوراة {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} يعني إنّا أخذنا عليهم الميثاق على أن يقولوا الحق فقالوا الباطل وخالفوا أمر الله وهو قولهم سيغفر لنا والمراد من هذا التوبيخ والتقريع لليهود في ادائهم على الله الباطل قال ابن عباس: هو ما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها {ودرسوا ما فيه} يعني ما في الكتاب والمعنى أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في الكتاب لأنهم دارسون له لم يتركوه ولكن درسوه وضيعوا العمل به {والدار الآخرة} يعني وما في الدار الآخرة مما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته العاملين بما أمرهم الله به من كتابه، ولم يغيروا ولم يبدلوا ولم يرتشوا في الأحكام {خير للذين يتقون} يعني يتقون الله ويخافون عقابه {أفلا يعقلون} يعني أفلا يعقل هؤلاء الذين يرضون بعرض الدنيا أن ما في الآخرة خير وأبقى لأنها دار المتقين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} أي حدث من بعد المذكورين خلف، قال الزجاج: يقال للقرن الذي يجيء بعد القرن خلف، وقال الفراء: الخلف القرن والخلف من استخلفه، وقال ثعلب: الناس كلهم يقولون خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح.
ومنه قول الشاعر:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

والمثل: سكت ألفًا ونطق خلفًا أي سكت طويلًا ثم تكلّم بكلام فاسد، وعن الفرّاء: الخلف يذهب به إلى الذمّ والخلف خلف صالح.
وقال الشاعر:
خلفت خلفًا ولم تدع خلفًا ** كنت بهم كان لا بك التلفا

وقد يكون في الرّدى خلف وعليه قوله:
ألا ذلك الخلف الأعور

وفي الصالح خلف وعلى هذا بيت حسان:
لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا ** لأوّلنا في طاعة الله تابع

{ودرسوا ما فيه} أي ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب والذي عليه هوى المجبر هو مذهب اليهود بعينه كما ترى.
وقال مالك بن دينار رحمه الله: يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به قالوا: سيغفر لنا لن نشرك بالله شيئًا كل أمرهم على الطمع خيارهم فيه المداهنة فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله تعالى وتلا الآية انتهى، وهو على طريقة المعتزلة وقوله: {إلا الحقّ} دليل على أنهم كانوا يقولون الباطل على تناولهم عرض الدنيا {ودرسوا} معطوف على قوله: {ألم يؤخذ} وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع وهو أنهم كرّروا على ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله وهذا العطف على التقرير لأنّ معناه قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه كقوله: {ألم نربك فينا وليدًا} وليثبت معناه قد ربّيناك ولبثت، وقال الطبري وغيره: هو معطوف على قوله: {ورثوا الكتاب} وفيه بعد، وقيل هو على إضمار قد أي قد {درسوا ما فيه} وكونه معطوفًا على التقرير هو الظاهر لأن فيه معنى إقامة الحجة عليهم في أخذ ميثاق الكتاب بكونهم حفظوا لفظه وكرّروه وما نسوه وفهموا معناه وهم مع ذلك لا يقولون إلا الباطل، وقرأ الجحدري {أن لا تقولوا} بتاء الخطاب، وقرأ علي والسلمي: وادّارسوا وأصله وتدارسوا كقوله: {فادارأتم} أي تدارأتم وقد مر تقريره في العربية، وهذه القراءة توضح أن معنى {ودرسوا ما فيه} هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأنّ تأويل من تأوّل {ودرسوا ما فيه} أن معناه ومحوه بترك العمل والفهم له من قولهم درست بالريح الآثار إذا محتها فيه بعد ولو كان كما قيل لقيل ربع مدروس وخط مدروس، وإنما قالوا: ربع دارس وخط دارس بمعنى داثر.
{والدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون} أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة ومعنى {يتقون} محارم الله تعالى وقرأ أبو عمرو وأهل مكة {يعقلون} بالياء جريًا على الغيبة في الضمائر السابقة، وقرأ الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم أو على طريق خطاب هذه الأمة كأنه قيل {أفلا تعقلون} حال هؤلاء وما هم عليه من سوء العمل ويتعجبون من تجارتهم على ذلك. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد المذكورين {خَلْفٌ} أي بدلُ سوءٍ، مصدرٌ نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: جمع وهو شائعٌ في الشر والخَلَفُ بفتح اللام في الخير، والمرادُ به الذين كانوا في عصر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {وَرِثُواْ الكتاب} أي التوراةَ من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} استئنافٌ مسوقٌ لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتِهم إياه أي يأخذون حُطامَ هذا الشيءِ الأدنى أي الدنيا من الدنو أو الدناءة، والمرادُ به ما كانوا يأخذونه من الرِّشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام وقيل: حال من واو ورثوا {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ولا يؤاخذُنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنه، والجملةُ تحتمل العطفَ والحالية، والفعلُ مسندٌ إلى الجار والمجرور، أو مصدر يأخذون {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} حال من الضمير في لنا أي يرجون المغفرةَ والحال أنهم مُصِرّون على الذنب عائدون إلى مثله غيرَ تائبين عنه {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب} أي الميثاقُ الواردُ في الكتاب {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} عطفُ بيانٍ للميثاق أو متعلقٌ به أي بأن لا يقولوا الخ، والمرادُ به الردُّ عليهم والتوبيخُ على بتّهم القولَ بالمغفرة بلا توبةٍ والدِلالةُ على أنها افتراءٌ على الله تعالى وخروجٌ عن ميثاق الكتاب {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} عطفٌ على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقريرٌ أو على ورِثوا وهو اعتراض {والدار الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ما فعل هؤلاء، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد، وقرئ بالياء، وفي الالتفات تشديدٌ للتوبيخ. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي المذكورين، وقيل: الصالحين {خَلْفٌ} أي بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: هو اسم جمع وهو مراد من قال: إنه جمع وهو شائع في الشر، ومنه سكت ألفًا ونطق خلفًا والخلف بفتح اللام في الخير وادعى بعضهم الوضع لذلك، وقيل: هما بمعنى وهو من يخلف غيره صالحًا كان أو طالحًا، ومن مجيء الساكن في المدح قول حسان:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ** لأولنا في طاعة الله تابع

ومن مجيء المتحرك في الذم قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وعن البصريين أنه يجوز التحريك والسكون في الردى وأما الجيد فبالتحريك فقط ووافقهم أهل اللغة إلا القراء وأبا عبيدة واشتقاقه إما من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغير ومنه خلوف فم الصائم، وقال أبو حاتم: الخلف بالسكون الأولاد الواحد والجمع فيه سواء والخلف بالفتح البدل ولدا كان أو غريبًا؛ والأكثرون على أن المراد بهؤلاء الخلف الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يصح تفسير الصالحين بمن آمن به عليه الصلاة والسلام، والظاهر أنهم من اليهود وعن مجاهد أنهم النصارى وليس بذاك {وَرِثُواْ الكتاب} أي التوراة والوراثة مجاز عن كونها في أيديهم وكونهم واقفين على ما فيها بعد أسلافهم.