فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة: {ويقولون سيُغفر لنا} معطوفة على جملة، {يأخذون} لأن كِلا الخبرين يوجب الذم، واجتماعهما أشد في ذلك.
وجملة: {وَإنْ يأتهم عرض مثلُه يأخذوه} معطوفة على التي قبلها، واستعير إتيان العرْض لبذله لهم إن كان المراد بالعرض المالَ، وقد يُراد به خطور شهوته في نفوسهم إن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني.
والمعنى: أنهم يعصون، ويزعمون أن سيّئاتهم مغفورة، ولا يُقلعون عن المعاصي.
وجملة: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} جواب عن قولهم: {سيُغفر لنا} إبطالًا لمضمونه، لأن قولهم: {سيغفر لنا} يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك، والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم، والمقصود من هذه الجملة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم ليحجهم بها، فهم المقصود بالكلام.
كما تشهد به قراءة {أفلا تعقلون} بتاء الخطاب.
والاستفهام للتقرير المقصود منه التوبيخ، وهذا التقرير لا يسعهم إلاّ الاعتراف به، لأنه صريح كتابهم، في الإصحاح الرابع من السفر الخامس لا تزيدوا على الكلام الذي أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب ولا يجدون في الكتاب أنهم يغفر لهم، وإنما يجدون فيه التوبة كما في الإصحاح من سفر التثنية، وكما في سفر الملوك الأول في دعوة سليمان حين بنى الهيكل في الإصحاح الثامن، فقولهم: {سيغفر لنا} تقوّل على الله بما لم يقله.
والميثاق: العهد، وهو وصية موسى التي بلّغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى في أو على معنى اللام أي الميثاق المعروف به، والكتاب توراة موسى، وأن لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل أن الناصبة، والمعنى: بأن لا يقولوا، أي بانتفاء قولهم على الله غيرَ الحق، ويجوز كونه عطف بيان من ميثاق، فلا يقدر حرف جر، والتقدير: ميثاق الكتاب انتفاءُ قولهم على الله الخ.
وفعل {درسوا} عطف على {يؤخذ}،.
لأن يؤخذ في معنى المضي، لأجل دخول لم عليه، والتقدير: ألم يؤخذ ويدرسوا، لأن المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهادًا والجبالَ أوتادًا وخلقناكم أزواجًا وجعلنا نومكم سُباتًا} إلى قوله: {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجًا} [النبأ: 6 14] والتقدير: ومخلقكم أزواجًا ونجعل نومكم سباتًا، إلى آخر الآية.
والمعنى: أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلاّ الحق، وهم عالمون بذلك الميثاق، لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة.
وجملة: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون} حالية من ضمير {يأخذون} أي: يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجّلوه، وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضًا فهم قد خيّروا عليه عرض الدنيا قصدًا، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة، بل هم قد حَرموا أنفسهم، وقرينة ذلك قوله: {أفلا تعقلون} المتفرع على قوله: {والدار الآخرة خير للذين يتقون} وقد نُزلوا في تخيرهم عرض الدينا بمنزلة من لا عقول لهم، فخوطبوا بـ {أفلا تعقلون} بالاستفهام الإنكاري، وقد قرئ بتاء الخطاب، على الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب.
ليكون أوقع في توجبه التوبيخ إليهم مواجهة، وهي قراءةَ نافع، وابن عامر، وابن ذكوان، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وأبي جعفر، وقرأ البقية بياء الغيبة، فيكون توبيخهم تعريضيًا.
وفي قوله: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون} كناية عن كونهم خَسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية، لأن كون الدار الآخرة خيرًا مما أخذوه يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خيرَ الآخرة.
وفي جعل الآخرة خير للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عَرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين، لأن الكناية عن خسرانهم خيرَ الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين، وهذه معان كثيرة جمعها قوله: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} وهذا من حَد الإعجاز العجيب. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}.
والخَلَف أو الخَلْف أو الخليفة هو من يأتي بعد ذلك، ويقال: فلان خليفة فلان، ومن قبل قرأنا أن سيدنا موسى قال لسيدنا هارون: {اخلفني فِي قَوْمِي...} [الأعراف: 142] أي كن خليفة لي، إلا أنك حين تسمع خَلْفُ بسكون اللام، فاعلم أنه في الفساد، وإن سمعتها خَلَفٌ بفتح اللام فاعلم أنه في الخير، ولذلك حين تدعو لواحد تقول: اللهم اجعله خير خَلَف لخير سلف. وهنا يقول الحق: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}. والحديث هنا عن أنهم هم الفاسدون والمفسدون، والشاعر يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب

الشاعر هنا يبكي موت الكرماء وأهل السماحة، فلم يعد أحد من الذين كان يعيش في رحاب كرمهم وسماحتهم؛ فقد ذهب الذين يُعاش في أكنافهم أي جوارهم؛ لأن هذا الجوار كان نعمة أيضًا. وحين يجاور رجل ضُيِّق وقُدِر عليه رزقه رجلًا طيبًا عنده نعمة، فتنضح عليه نعمة الرجل الطيب. والشاعر هنا قال:
وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب

أي أن جلده قريب ولاصق لكنه جلد أجرب.
وعرفنا قصة أبودلف وكان رجلًا كريمًا في بغداد. يعيش في نعمته كل الناس ومن يحتاج يعطيه. وطرأ طارئ على جار فقير له، وأراد أن يبيع داره، فعرض الدار للبيع، وسألوه عن الثمن الذي يرتضيه، فقال: داري بمائة دينار. لكن جواري لأبي دلف بألف دينار، فبلغ هذا الكلام أبا دلف فقال: إن رجلًا قدر جوارنا بعشرة أمثال ما قدر به داره لحقيق ألا يفرّط فيه. قالوا له: فليبق جارًا لنا وليأخذ ما يريد من مال.
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب}. والكتاب هو التوراة، والخَلْف أخذوه ميراثًا، والشيء لا يكون ميراثًا إلا إذا حمله السابق بأمانة وأدّاه للاحق، ولكن لأنهم أهل إفساد فلنر ماذا فعلوا في الكتاب؟ لقد ورثوه. وبُلِّغ إليهمُ وعرفوا ما فيه. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ...} [الأعراف: 169].
أي لا حجة لهم في ألاّ يكونوا أصحاب منهج خير، لكنهم لم يلتفتوا إلى ما في الكتاب- التوراة- من المواثيق، والحلال، والحرام، وافعل كذا ولا تفعل كذا؛ لم يلتفتوا لكل هذا؛ لأنهم قالوا لأنفسهم: إن هذا الكتاب يعطي النعيم البعيد في الآخرة، وهم يريدون النعيم القريب، فمنهم من قبل الرشوة واستغلال النفوذ. وبذلك أخذوا عَرَضَ الحياة الأدنى وهو عرض الدنيا. ولم يأخذوا إدارة الدنيا بمنهج الله، والدنيا فيها جواهر أو أعراض، والجوهر هو الشيء الذاتي، فالإِنسان بشحمه ولحمه جوهر أما لونه إن كان أسمر أو أبيض فهذا عَرَض، قصيرًا أو طويلًا، صحيحًا أو مريضًا، وغنيًّا أو فقيرًا فهذا عرض.
إذن فالأعراض هي ما توجد وتزول، والجواهر هي التي تبقى ثابتة على قدر ما كتب لها من بقاء، وكما يقول علماء المنطق: الجوهر ما قام بنفسه، والعَرَض ما قام بغيره.
وهم قد أخذوا العرض من الحياة الدنيا، وعرض الدنيا قد يتمثل في المال الحرام، وأن يغشوا ويستحلوا الرشوة. ونعلم أن الإِنسان- حتى المؤمن- قد تحدث منه معصية ولا يمنع ربنا هذا؛ لأن المشرع الأعلى حين يشرع عقوبة لجريمة، فهذا إذْنٌ بأنها قد تحدث، وحين يقول الحق: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا...} [المائدة: 38].
إنَّ معنى هذا القول أن المؤمن قد تسول له نفسه أَنْ يسرق مثلًا، ولم يترك الحق هذا الجرم بدون عقوبة. وإن رأينا مسلمًا يسرق، نقل له هذا فعل مُجَرَّم من الإِسلام، وله عقوبة، والمُجْرَم لا يمكن أن يرتكب الجُرْم وهو ملتزم بالدِّين، بل هو منسوب للدين فقط، وعندما يرتكب مسلم ذنبًا أو معصية ثم يندم ويتوب ويعزم على أنه لن يعود تصح توبته، وكذلك لو ألحَّت عليه معصيته فيعود إليها، ثم تاب، المهم أنه في كل مرة لا يصر على الفعل، ثم يقول: سوف أتوب. وهم كانوا يصرون على المعصية ويقولون: سبغفر الله لنا، بل إنهم لم يفكروا في التوبة، ووجدنا منهم من يقول: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ...} [المائدة: 18].
ويأتي الرد: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ...} [المائدة: 18].
إذن هم يأخذون عرض هذا الأدنى، ويحكمون في أخذهم بهذا العرض أنه سبحانه سوف يَغْفِر لهم. وبذلك استحلوا الحرام وانتقلوا من منطقة المعصية إلى منطقة الكفر؛ لأن هناك فرقًا بين أن تفعل الشيء وتقول هو معصية. لكن أن يرتكب الإِنسان المعصية ويقول: ليست بمعصية، فهذا انتقال من العصيان إلى الكفر، ومثال ذلك الربا حين نجد من يحلله، نقول له: اقْبَلْ أن تكون عاصيًّا ولا تدخل نفسك في الكفر؛ لأنك إن حللت ما حرم الله يقع عليك الكفر وتوصف به والعياذ بالله، أما إن قلت: هو حرام ولكن ظروفي صعبة ولا أقدر على نفسي فقد يغفر الله لك. لكن قوم موسى كانوا يصرون على المعصية ويقولون: سيغفر الله لنا:
ويقول الحق: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}.
وهم بعد ذلك تركوا الأعلى وأخذوا عرض الحياة الأدنى ويتمادون في غيهم ويرتكبون المعاصي تلو المعاصي دون أن يدقوا باب التوبة. لذلك ينبههم الحق سبحانه: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق...} [الأعراف: 169].
لقد ورثوا الكتاب، وفي الكتاب قد أُخذ عليهم عهدٌ موثقٌ ألا يقولوا على الله إلا الحق، لكن هل يعدل الفاسق عن الباطل ويعود إلى الحق؟. طبعًا لا، هم إذن تجاهلوا ما في هذا الكتاب، رغم أنهم قد درسوا ما فيه مصداقًا لقوله الحق: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}.
وكلمة دَرَسَ تدل على تكرار العمل، فيقال: فلان درس الفقه أي تعلمه تعلما متواصلًا ليصير الفقه عنده ملكة.
وهو مختلف عمن قرأ الكتاب مرة واحدة، هنا لا يصبح الفقه عنده ملكة. وحتى نفهم الفرق بين العلم والملكة، نقول: إن العلم هو تلقي المعلومات، أما من درس المعلومات وطبقها وصارت عنده المسألة آلية، فهذا هو من امتلك ناصية العلم حتى صار العلم عنده ملكة.
إذا التقى صائم- مثلا- بفقيه وسأله عن فتوى في أمر الصيام يجيبه فورًا؛ لأنه علم كل صغيرة وكبيرة في الفقه. لكن إن تسأل تلميذًا مبتدئًا في الأزهر فقد يرتبك وقد يطلب أن يرجع إلى كتبه ليعثر على الإجابة؛ لأن الفقه لم يصبح لديه ملكه. والملكة في المعنويات هي مقابل الآلية في الماديات التي تحتاج إلى دُرْبة، فمن يمسك النول لينسج النسيج ويتقن تمرير المكوك بين الفتلتين لا يفعل ذلك إلا عن دُرْبة. إنه قد تعلم ذلك بصعوبة وتكرار تدريب.
إذن فقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} أي تكررت دراسة الكتاب حتى عرفوا ما فيه من علم. ونحن أخذنا درس العلم من مسألة حسية هي درس القمح، ويعلم من تربى في الريف كيف ندرس القمح، حين يدور النورج على سنابل القمح فيخرج لنا الحب من أكمامه، ويقطع لنا العيدان، وهذه العملية تسمى درس القمح.
إن ما فعلوه من عصيان ليس عن غفلة عن هذا الميثاق في ألاّ يقولوا على الله إلا الحق، لأنهم درسوا ما في الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة دراسة مستوعبة، لكنهم أخذوا العرض الأدنى. وكان لابد أن يأتي بمقابل العرض الأدنى فيوضح لنا أنّ مصير من يريد الدار الآخرة هو الثواب الدائم ولذلك يقول الحق: {... والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169].
وهذا يعني التنبيه بأنه من الواجب قبل أن تفعلوا الفعل أن تنظروا ما يعطيه من خير، وأن تتركوه إن كان يعطي الكثير من الشر، وزنوا المسألة بعقولكم، وساعة أن تَزنوا المسألة بعقولكم ستعرفون أن عمل الخير راجح. اهـ.