فصل: سؤال الرؤية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سؤال الرؤية:

قال الله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} قال جماعة من السلف منهم ابن عباس ومسروق ومجاهد الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله واتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه وأقام حجته وبراهينه والمقصود أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات وكان فيه صائما يقال إنه لم يستطعم الطعام فلما كمل الشهر أخذ لحا شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه فأمر الله أن يمسك عشرا أخرى فصارت أربعين ليلة ولهذا ثبت في الحديث أن خلو فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون المحبب المبجل الجليل وهو ابن أمه وأبيه ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه فوصاه وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة قال الله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا} أي في الوقت الذي أمر بالمجيء فيه وكلمه ربه أي كمله الله من وراء حجاب الا أنه أسمعه الخطاب فناداه وناجاه وقربه وأدناه وهذا مقام رفيع ومعقل منيع ومنصب شريف ومنزل منيف فصلوات الله عليه تترى وسلامه عليه في الدنيا والأخرى ولما أعطى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية وسمع الخطاب سأل رفع الحجاب فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار القوى البرهان ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا وأشد ثباتا من الإنسان لا يثبت عند التجلي من الرحمان ولهذا قال: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}.
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حجابه النور وفي رواية النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال ابن عباس في قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء ولهذا قال تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} قال مجاهد ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فإنه أكبر منك وأشد خلقا فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ابن جرير والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت زاد ابن جرير وليث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال هكذا بإصبعه ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل لفظ ابن جرير وقال السدي عن عكرمة وعن ابن عباس ما تجلى يعني من العظمة إلا قدر الخنصر فجعل الجبل دكا قال ترابا وخر موسى صعقا أي مغشيا عليه وقال قتادة ميتا والصحيح الأول لقوله فلما أفاق فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي قال سبحانك تنزيه وتعظيم وإجلال إن يراه بعظمته أحد تبت إليك أي فلست أسأل بعد هذا الرؤية وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده.
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن ابي حسن المازني الأنصاري عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور لقظ البخاري وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري حين قال لا والذي اصطفى موسى على البشر فقال رسول الله لا تخيروني من بين الأنبياء وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة وعبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وفيه لا تخيروني على موسى وذكر تمامه وهذا من باب الهضم والتواضع أو نهي عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية أو ليس هذا إليكم بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات وليس ينال هذا بمجرد الرأي بل بالتوقيف ومن قال إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم ففي قوله نظر لان هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخرا فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا والله اعلم ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه أفضل البشر بل الخليقة قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وما كملوا إلا بشرف نبيهم وثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون حتى أولو العزم إلا كملون نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وقوله صلى الله عليه وسلم: «فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش أي آخذا بها فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الأنبياء ومصطفى رب الأرض والسماء على سائر الأنبياء فيجد موسى باطشا بقائمة العرش قال الصادق المصدوق لا أدري أصعق فأفاق قبلي أي كانت صعقته خفيقة لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق أو جوزي بصعقة الطور يعني فلم يصعق بالكلية وهذا شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية ولا يلزم تفضيله بها مطلقا من كل وجه ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال لا والذي اصطفى موسى على الشر قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه السلام فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه وقوله تعالى: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} أي في ذلك الزمان لا ما قبله لان إبراهيم الخليل أفضل منه كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم ولا ما بعده لان محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء وكما ثبت أنه قال سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق حتى إبراهيم وقوله تعالى: {فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} أي فخذ ما أعطيتك من الرسالة والكلام ولا تسأل زيادة عليه وكن من الشاكرين على ذلك قال الله تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء} وكانت الألواح من جوهر نفيس ففي الصحيح أن الله كتب له التوراة بيده وفيها مواعظ عن الاثام وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام فخذها بقوة أي بعزم ونية صادقة قوية وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها {سأريكم دار الفاسقين} أي ستروا عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لامري المكذبين لرسلي سأصرف عن آياتي عن فهمها وتدبرها وتعقل معناها الذي أريد منها ودل عليه مقتضاها {الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} أي ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق والمعجزات لا ينقادوا لاتباعها {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا} أي لا يسلكوه ولا يتبعوه {وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا أي صرفناهم عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا وتغافلهم عنها وإعراضهم عن التصصديق بها والتفكر في معناها وترك العمل بمقتضاها {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون}.

.قصة عبادتهم العجل في غيبة موسى:

قال الله تعالى: {وأخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس اخيه يجره إليه قال يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وقال تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا حسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما} يذكر تعالى ما كان من امر بني إسرائيل حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه فمكث على الطور يناجيه ربه ويسأله موسى عليه السالم عن أشياء كثيرة وهو تعالى يجيبه عنها فعمد رجل منهم يقال له هارون السامري فأخذ ما كان استعاره من الحلي فصاغ منه عجلا وألقى فيه قبضة من التراب كان أخذها من اثر فرس جبريل حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه فلما ألقاها فيه خار كما بخور العجل الحقيقي ويقال إنه استحال عجلا جسدا أي لحما ودما حيا يخور قاله قتادة وغيره وقيل بل كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة فيرقصون حوله ويفرحون فقالوا: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} أي فنسي موسى ربه عندنا وذهب يتطلبه وهو هاهنا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وتقدست أسماؤه وصفاته وتضاعفت آلاؤه وعداته قال الله تعالى مبينا بطلان ما ذهبوا إليه وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيوانا بهيما وشيطانا رجيما: {أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} وقال: {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جوابا ولا يملك ضرا ولا نفعا ولا يهدي إلى رشد اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال {ولما سقط في أيديهم} أي ندموا على ما صنعوا {ورأوا أنهم قد أضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} ولما رجع موسى عليه السلام إليهم ورأى ما هم عليه من عبادة العجل ومعه الألواح المتضمنة التوراة ألقاها فيقال إنه كسرها وهكذا هو عند أهل الكتاب وإن الله أبدله غيرها وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك إلا أنه القاها حين عاين ما عاين وعند أهل الكتاب أنهما كانا لوحين وظاهر القرآن أنها الواح متعددة ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل فأمره بمعاينة ذلك ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الخبر كالمعاينة ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح قالوا إنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري تحرجوا من تملك حلى آل فرعون وهم أهل حرب وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار ثم أقبل على أخيه هارون عليهما السلام قائلا له: {يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن} أي هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فاعلمتني بما فعلوا فقال: {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل} أي تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين وقد كان هارون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي وزجرهم عنه أتم الزجر قال الله تعالى: {ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به} أي إنما قدر الله أمر هذا العجل وجعله يخور فتنة واختبارا لكم {وإن ربكم الرحمن} أي لا هذا {فاتبعوني} أي فيما أقول لكم {وأطيعوا أمري}، {قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} يشهد الله لهرون عليه السلام وكفى بالله شهيدا أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك فلم يطيعوه ولم يتبعوه ثم أقبل موسى على السامري {قال ما خطبك يا سامري} أي ما حملك على ما صنعت قال بصرت بما لم يبصروا به أي رأيت جبرائيل وهو راكب فرسا فقبضت قبضة من أثر الرسول أي من أثر فرس جبريل وقد ذكر بعضهم أنه رآه وكلما وطئت بحوافرها على موضع اخضر وأعشب فأخذ من أثر حافرها فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب كان من أمره ما كان ولهذا قال: {فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} وهذا دعاء عليه بأن لا يمس أحدا معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه هذا معاقبة له في الدنيا ثم توعده في الأخرى فقال: {وإن لك موعدا لن تخلفه} وقرئ: {لن نخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} قال فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل فحرقه بالنار كما قاله قتادة وغيره وقيل بالمبارد كما قاله علي وابن عباس وغيرهما وهو نص أهل الكتاب ثم ذراه في البحر وأمر بني إسرائيل فشربوا فمن كان من عابديه علق على شفاههم من ذلك الرماد منه ما يدل عليه وقيل بل اصفرت ألوانهم ثم قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لهم {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما} وقال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزى المفترين} وهكذا وقع وقد قال بعض السلف {وكذلك نجزي المفترين} مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيمة ثم أخبر تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه بتوبته عليه فقال: {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل كما قال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلك خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} فيقال إنهم أصبحوا يوما وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف وألقى الله عليه ضبابا حتى لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا ثم قال تعالى: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} استدل بعضهم بقوله: {وفي نسختها} على انها تكسرت وفي هذا الاستدلال نظر وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت والله أعلم. وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر وما هو ببعيد لأنهم حين خرجوا قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وهكذا عند أهل الكتاب فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف ثم ذهب موسى يستغفر لهم فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} ذكر السدي وابن عباس وغيرهما أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني اسرائيل ومعهم موسى وهارون ويوشع وناداب وابيهو ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعمود النور ساطع وصعد موسى الجبل فذكر بنو إسرائيل أنهم سمعوا كلام الله وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين وحملوا عليه قوله تعالى: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} وليس هذا بلازم لقوله تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} أي مبلغا وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغا عن موسى عليه السلام وزعموا أيضا أن السبعين رأوا الله وهذا غلط منهم لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة كما قال تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} وقال هاهنا {فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي...} الآية قال محمد بن إسحاق اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام الله فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل في الغمام وقال للقوم أدنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمر وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا فانا براء مما عملوا وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل وقوله إن هي إلا فتنتك أي اختبارك وابتلاؤك وامتحانك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف يعني أنت الذي قدرت هذا وخلقت ما كان من أمر العجل اختبارا تختبرهم به كما قال لهم هارون من قبل {يا قوم إنما فتنتم به} أي أختبرتم ولهذا قال: {تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} أي من شئت أضللته باختبارك إياه ومن شئت هديته لك الحكم والمشيئة ولا مانع ولا راد لما حكمت وقضيت {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا اليك} أي تبنا إليك ورجعنا وأنبنا قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية وإبراهيم التيمي والضحاك والسدي وقتادة وغير واحد وهو كذلك في اللغة قال: {عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء} أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدرها {ورحمتي وسعت كل شيء} أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدرها ورحمتي وسعت كل شيء كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون» أي فسأوجبها حتما لمن يتصف بهذه الصفات الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الآية وهذا فيه تنويه بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وامته من الله لموسى عليه السلام في جملة ما ناجاه به وأعلمه وأطلعه عليه وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع ولله الحمد والمنة وقال قتادة قال موسى يا رب أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وان الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا عن الأمم قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وان الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم قال رب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعماية ضعف قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في السلام نبذ الألواح وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار بعون الله وتوفيقه وحسن هدايته ومعونته وتأييده قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في صحيحه ذكر سؤال كليم الله ربه عز وجل عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة أخبرنا عمر بن سعيد الطائي بمنبج حدثنا حامد بن يحيى البلخي حدثنا سفيان حدثنا مطرف بن طريف وعبدالملك بن أبجر شيخان صالحان سمعنا الشعبي يقول سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل أي أهل الجنة أدنى منزلة فقال رجل يجي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال أدخل الجنة فيقول كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا إخاذاتهم فيقال له ترضى أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا فيقول نعم أي رب فيقال لك هذا ومثله ومثه فيقول أي رب رضيت فيقال له لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك وسأل ربه أي أهل الجنة أرفع منزلة قال سأحدثك عنهم غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين الآية وهكذا رواه مسلم والترمذي كلاهما عن ابن أبي عمر عن سفيان وهو ابن عيينة به ولفظ مسلم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول في الخامسة رضيت رب فيقال هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب قال رب فاعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال ومصداقه من كتاب الله فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وقال الترمذي حسن صحيح قال ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة فلم يرفعه والمرفوع أصح وقال ابن حبان ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم ببيت المقدس حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا السمح حدثه عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سأل موسى ربه عز وجل عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة والسابعة لم يكن موسى يحبها قال يا رب أي عبادك أتقى قال الذي يذكر ولا ينسى قال فأي عبادك أهدى قال الذي يتبع الهدى قال فأي عبادك أحكم قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال فأي عبادك أعلم قال عالم لا يشبع من العلم يجمع علم الناس إلى علمه قال فأي عبادك أعز قال الذي إذا قدر غفر قال فأي عبادك أغنى قال الذي يرضى بما يؤتى قال فأي عبادك أفقر قال صاحب منقوص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن ظهر إنما الغنى غنى النفس وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه وإذا أراد بعبد شرا جعل فقره بين عينيه قال ابن حبان قوله صاحب منقوص يريد به منقوص حالته يستقل ما أوتى ويطلب الفضل وقد رواه ابن جرير في تاريخه عن ابن حميد عن يعقوب التميمي عن هارون بن عبيرة عن أبيه عن ابن عباس قال سأل موسى ربه عز وجل فذكر نحوه وفيه قال أي رب فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يجد كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال أي رب فهل في الأرض أحد أعلم مني قال نعم الخضر فسأل السبيل إلى لقيه فكان ما سنذكره بعد إن شاء الله وبه الثقة.