فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولعل الأمة سألوا عن علة الوعظ سؤال المسترشدين لا سؤال المنكرين والله تعالى أعلم بالسرائر. النوع الرابع: {وإذ تأذن ربك} هو تفعل من الإيذان وهو الإعلام والمعنى عزم ربك لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه فكأنه يؤذن النفس بأنه يفعله وأجري مجرى فعل القسم في الجزم بالجزاء نحو {علم الله} و{شهد الله}. فأجيب بجواب القسم أي ختم ربك وكتب على نفسه {ليبعثن} ومعناه التسليط كقوله: {بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد} [الإسراء: 5] واختلف في العائد في {عليهم} فقيل: يرجع إلى الممسوخين بناء على أن لهم نسلًا. وقيل: إلى صلحاء تلك القرية فكأنه مسخ المعتدين وألحق الذل بالبقية. وقال الأكثرون: هم اليهود الذين أدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شريعته فثبتوا على الكفر واستمروا على اليهودية. أما العذاب فقيل: هو أخذ الجزية كانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى يوم القيامة. وقيل: الاستخفاف والإهانة. وقيل: القتل والقتال كما وقع في زمن بختنصر وغيره. وقيل: الإخراج عن الأوطان كما في يهود خيبر وبني قريظة والنضير. وإذ قد أخبر الله تعالى بلزوم الذل والصغار إياهم ونحن نشاهد أن الأمر كذلك فهو إذًا إخبار عن الغيب فيكون معجز. قيل: والخبر المروي في أن أتباع الدجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهود، ثم دانوا بآلهيته فذكروا بالاسم الأول، وإنما تكلف ذلك لأنهم يكونون في وقت اتباع الدجال قاهرين غالبين. النوع الخامس: {وقطعناهم في الأرض أممًا} فرقناهم فيها تفريقًا شديدًا فلا يكاد يوجد بلد إلا وفيه منهم طائفة {منهم الصالحون} الذين كانوا في زمن موسى يهدون بالحق أو الذين هم وراء الصين. وعن ابن عباس ومجاهد: الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وآمنوا به. {ومنهم دون ذلك} أي ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه فيجوز أن يكون فيهم بعض الصلاح وإن كان أدون من صلاح الأولين إلا أن قوله بعد ذلك {لعلهم يرجعون} يدل على أن المراد بهم الكفرة الفسقة الباقية على ضد الخير والرشاد. ومحل {دون ذلك} رفع على أنه صفة مرفوع محذوف كما قلنا {وبلوناهم} عاملناهم معاملة المبتلى المختبر {بالحسنات} الخصب والعافية {والسيئات} بالجدب والشدائد {لعلهم يرجعون} لأن كلًا من الحالتين تدعو إلى الطاعة والإنابة والنعم بالترغيب والنقم بالترهيب {فخلف من بعدهم خلف} ظاهره يدل على أن الأوّل ممدوح والثاني مذموم. فالمراد فخلف من بعد أولئك الصلحاء خلف سوء. قال الجوهري الخلف القرن بعد القرن يقال: هؤلاء خلف سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم.
قال الأخفش: وقد يحرك ومنهم من يقول خلف سوء من أبيه بالتسكين وخلف صدق من أبيه بالتحريك قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

والخلف الردىء من القول يقال: سكت ألفًا ونطق خلفًا أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ {ورثوا الكتاب} أي التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي ولا يعملون بها {يأخذون عرض هذا الأدنى} أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها. يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر. وفي الإشارة بقوله: {هذا الأدنى} تحقير وتخسيس. وأراد بالدنو القرب لأنه عاجل. أو دنو الحال وسقوطها وقلتها. والمراد كانوا يأخذونه من الرشا في تحريف الأحكام والنعوت {ويقولون سيغفر لنا} يؤاخذنا الله بما أخذنا. وإسناد الفعل إما إلى الجار والمجرور وإما إلى الأخذ الدال عليه {يأخذون}، {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} الواو للحال أي يرجون المغفرة جزمًا وهم مصرون والمراد الإخبار عن إصرارهم على الذنوب. وقال الحسن: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يشبعون منها.
ثم بين نكث عهدهم فقال: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} أي التوراة. ومحل {ألا يقولوا على الله إلا الحق} رفع عطف بيان للميثاق المذكور في التوراة وهو أن لا يحرّفوا الكلم عن مواضعه ولا يقبلوا الرشا أو لا يصروا على الذنب مع الجزم بالغفران. فإن خلاف كل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله وتقول عليه ما ليس بحق. ويجوز أن يكون {ألا يقولوا} مفعولًا لأجله ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون أن مفسرة {ولا يقولوا} نهيًا كأنه قيل: ألم نقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق؟ {ودرسوا} عطف على {ألم يؤخذ} لأنه تقرير كأنه قيل: أخذ عليهم الميثاق وقرأوا ما فيه أي أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم قد قرأوه ودرسوه. {والدار الآخرة خير} من ذلك العرض الخسيس {للذين يتقون} الرشا والمحرمات. ثم لما ذكر حال من ترك التمسك بالتوراة أتبعها حال من تمسك أي اعتصم به فقال: {والذين يمسكون} الآية والتشديد للتكثير وفي إفراد إقامة الصلاة بالذكر مع أن التمسك بالكتاب مشتمل على كل عبادة إظهار لمزية الصلاة وإشعار بأنها عماد الدين. النوع السادس: {وإذ نتقنا الجبل} قال أبو عبيدة: أصل النتق قلع الشيء عن موضعه والرمي به ومنه امرأة ناتق إذا كثر ولدها كأنها ترمي بأولادها رميًا. والمعنى إذا قلعنا الجبل من أصله وجعلناه {فوقهم كأنه ظله} وهي كل ما أظلك من سقف أو حائط {وظنوا أنه واقع بهم} علموا وتيقنوا أنه ساقط عليهم. وقيل: قوي في نفوسهم أنه يقع بهم إن خالفوا. روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخًا في فرسخ.
وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم. فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدًّا عل حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقًا من سقوطه فلذلك لا ترى يهوديًا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. ولما نشر موسى الألواح وفيه كتاب الله لم يبق جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديًا تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه. {خذوا} على إرادة القول أي قلنا لهم أو قائلين خذوا {ما آتيناكم} من الكتاب {بقوة} بجد وعزيمة على احتمال مشاقه وتكاليفه {واذكروا ما فيه} من الأوامر والنواهي، أو من التعريض للثواب، أو المراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله: {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33] واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة {لعلكم تتقون} ما أنتم عليه من الإباء. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ...} الآيات.
وقبل أن يمضى السياق إلى مشهد جديد من مشاهد القصة، يقف عند هذا البلاغ المبكر، يوجه الخطاب إلى النبي الأمي صلى الله عليه وسلم يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعًا، تصديقًا لوعد الله القديم:
{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}..
إنها الرسالة الأخيرة، فهي الرسالة الشاملة، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل.. ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان- ما بين عهدي رسولين- وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة، تأهيلًا لها للرسالة الأخيرة. وكانت كل رسالة تتضمن تعديلًا وتحويرًا في الشريعة يناسب تدرج البشرية. حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها، وجاءت للبشر جميعًا، لأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان. وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعًا. ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية- كما خرجت من يد الله- إلا تعليم الله. فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعًا:
{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا}..
وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يواجه برسالته الناس جميعًا، هي آية مكية في سورة مكية.. وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب، الذين يزعمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن يدور في خلده وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها، وأنه إنما بدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشًا، ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب.
ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها.. كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف! وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديمًا على هذا الدين وأهله. وما يزالون ماضين فيها!
وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله. وأن يكون المستشرقون الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله.. إنما البلية الكبرى أن كثيرًا من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم. المحاربين لهم ولعقيدتهم، أساتذة لهم، يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه، ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم مثقفون!..
ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن رسالته للناس جميعًا. فنجد بقية التكليف هي تعريف الناس جميعًا بربهم الحق سبحانه: {الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت}..
إنه صلى الله عليه وسلم رسول للناس جميعًا من ربهم الذي يملك هذا الوجود كله- وهم من هذا الوجود- والذي يتفرد بالألوهية وحده، فالكل له عبيد. والذي تتجلى قدرته وألوهيته في أنه الذي يحيي ويميت..
والذي يملك الوجود كله، والذي له الألوهية على الخلائق وحده، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعًا. هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه، الذي يبلغه إليهم رسوله.. فهو تعريف للناس بحقيقة ربهم، لتقوم على هذا التعريف عبوديتهم له، وطاعتهم لرسوله: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}..
وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغي أن نقف أمامها لحظات:
* إنه يتضمن ابتداء ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله.. وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام.. ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى: {الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت}.. فالأمر بالإيمان هو أمر بالإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة. كما سبقه التعريف برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعًا.
* ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي- صلوات الله وسلامه عليه- يؤمن بالله وكلماته.. ومع أن هذه بديهية، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها. فالدعوة لابد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه، ووضوحه في نفسه، ويقينه منه. لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعًا بأنه {الذي يؤمن بالله وكلماته}.
وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه..
* ثم يتضمن أخيرًا لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه. وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه، واتباعه كذلك في سنته وعمله. وهو ما يقرره قول الله سبحانه: {واتبعوه لعلكم تهتدون}.. فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا باتباعه فيه. ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي.. وهو الإسلام..
إن هذا الدين يعلن عن طبيعته وعن حقيقته في كل مناسبة.. إنه ليس مجرد عقيدة تستكن في الضمير.. كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس.. إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وفيما يشرعه ويسنه.. والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب. ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله. ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله.. فهذا هو دين الله.. وليس لهذا الدين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة: {واتبعوه لعلكم تهتدون} بعد الأمر بالإيمان بالله ورسوله.. ولو كان الأمر في هذا الدين أمر اعتقاد وكفى، لكان في قوله: {فآمنوا بالله ورسوله} الكفاية!