فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{إن} حرف شرط يجزم فعلين: شرطًا وجزاءً، فلا تقول: إن غربت الشمس.
فإن قيل: فكيف قال هاهنا: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} وهذا خطاب مع الكفار، والله تَعَالَى يعلم أنه في ريب، وهم يعلمون ويقرون أنهم في ريب، ومع ذلك فالتعليق حسن.
فالجواب: الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق، والله- تعالى- أنزل القرآن بلغة العرب، وعلى منوالهم، فكل ما كان في لغة العرب حسنًا نزل القرآن على ذلك الوجه، وما كان نسخًا في لسان العرب لم ينزل في القرآن، فثبت بهذا أن كل ما جاء في العادة مشكوكًا فيه بين الناس، حسن تعليقه، سواء كان من قبل الله- تعالى- أو من قل غيره، وسواء كان معلومًا للسَّامع أو المتكلّم أم لا، وكذلك حسن قوله: إن كان زيد في الدار فأكرمه، مع أنك علم أن زيدًا في الدار؛ لأن حصول زيد في الدار، شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه، ولا يكون إلاَّ في المحتمل وقوعه، وهي أم الباب؛ فلذلك يحذف مجزومها كثيرًا، وقد يحذف الشَّرط والجزاء معًا؛ قال: الرجز:
قَالَتْ بَنَاتُ العَمِّ يا سَلْمَى وَإِنْ ** كَانَ فَقِيرًا مُعْدمًا قَالَتْ وَإِنْ

أي: وإن كان فقيرًا تزوجته.
وتكون {إن} نافية فتعمل وتهمل، وتكون مخففة وزائدة باطِّراد وعدمه، وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى إذا، وبعضهم أن تكون بمعنى قد، ولها أَحْكَام كثيرة.
و{في ريب} خبر كان، فيتعلّق بمحذوف، ومحل كان الجزم، وهي إن كانت ماضية لفظًا فهي مستقبلة معنى.
وزعم المبرد أنَّ لكان الناقصة حكمًا مع {إنْ} ليس لغيرها من الأفعال الناقصة، فزعم أّنه لقوة كان أن {إن} الشرطية لا تقلب معناها إلى الاستقبال، بل تكون على مَعْنَاها من المُضِيّ، وتبعه في ذلك أبو البَقَاءِ، وعلل ذلك بأن كثيرًا استعملوها غير دالّة على حدث، وهذا مردود عند الجمهور، لأن التعليق إنما يكون في المستقبل، وتأولوا ما ظاهره غير ذلك نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} [يوسف: 26] إما بإضمار يكن بعد {إن} وإما على التبيين، والتقدير: إن يكن قميصه، أو إن يتبين كونه قميصه ولما خفي هذا المعنى على بعضهم جعل {إن} هنا بمنزلة إذ وقوله: {في ريب} مجاز من حيث إنه يجعل الريب ظرفًا محيطًا بهم، بمنزلة المكان لكثرة وقوعه منهم.
و{مِمَّا} يتعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لريب، فهو في محل جَرّ، ومن للسَّببية، أو لابتداء الغاية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض، ويجوز أن تتعلّق ب {ريب} أي: إن ارتبتم من أجل، ف {من} هُنا للسَّببية، وما موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: نزلناه، والتضعيف في {نَزّلنا} هنا للتعدية مرادفًا لهمزة التعدي، ويدلّ عليه قراءة: {أنزلنا} بالهمز، وجعل الزمخشري التضعيف هنا دالًا على نزوله منجمًا في أوقات مختلفة.
قال بعضهم: وهذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا، هو الَّذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل مرة بعد مرة، فيدل على ذلك بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة.
قال: وذهل عن قاعدة، وهي أن التضعيف الدّال على ذلك من شرطه أن يكون في الأفعال المتعدّية قبل التضعيف غالبًا نحو: جَرَّحْتُ زِيْدًا، وفَتَّحْتُ الباب، ولا يقال جَلَّس زيدٌ ونَزَّل لأنه لم يكن متعديًا قبل التضعيف، وإنَّ ما جعله متعديًا تضعيفه.
وقوله: غالبًا لأنه قد جاء التضعيف دالًا على الكثرة في اللاَّزم قليلًا نحو: مَوَّت المال، وأيضًا فالتضعيف الدَّال على الكثرة لا يجعل القاصر متعديًا، كما تقدم في مَوَّتَ المال ونَزَّل كان قاصرًا فصار بالتضعيف متعديًا، فدلّ على أنَّ تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضًا كان يحتاج قوله تعالى: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] إلى تأويل، وأيضًا فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثير، نحو قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} [الأنعام: 37]، {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء: 95] إلا بتأويل بعيد جدًّا، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول آية، ولا أنه علق تكرير نزول مَلَك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض.
وفي قوله: {نَزَّلْنَا} التفات من الغيبة إلى التكلّم؛ لأن قبله: {اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] جاء الكلام عليه لقيل: مما نزّل عَلَى عَبْدِهِ ولكن التفت للتفخيم.
و{عَلَى عَبْدِنَا} متعلّق ب {نَزَّلْنَا} وعُدِّي ب {على} لإفادتها الاستعلاء، كأن المنزل تمكّن من المنزول عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون إلى فإنها تمكّن من المنزول عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون إلى فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط، والإضافة في {عبدنا} تفيد التشريف؛ كقوله: السريع:
يَا قَوْمِ قَلْبي عِنْدَ زَهْرَاءِ ** يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي

لاَ تَدْعُنِي إلاَّ بِيَا عَبْدَهَا ** فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي

وقرئ: {عبادنا} فقيل: المراد النبي- عليه الصلاة والسلام- وأمته؛ لأن جدوى المنزل حاصل لهم.
وقيل: المراد بهم جميع الأنبياء عليهم السلام.
والعبد: مأخوذ من التعبد، وهو التذلل؛ قال طَرَفَةُ: الطويل:
إلى أن تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا ** وأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ

أي: المذلَّل.
ولما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمّي بها أشرف الخطط سمَّى نبيه عبدًا.
قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} جواب الشرط، والفاء هنا واجبة؛ لن ما بعدها لا يصحّ أن يكون شرطًا بنفسه، واصل {فأتوا} إأْتِيُوا مثل: اضربوا، فلهمزة الأولى همزة وصل أُتي بها للابتداء بالسَّاكن، والثَّانية فاء الكلمة، فلما اجتمع همزتان، وجب قلب ثانيهما ياءً على حَدِّ إيمان وبابه، واستثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فقدرت، فسكنت الياء وبعدها واو الضمير ساكنة، فحذف الياء لالتقاء ساكنين، وضُمّت التاء للتجانُسِ، فوزن ايتوا: افعوا، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداءً، أما في الدَّرْج فإنه يُسْتَغْنَى عنها، وتعودُ الهمزةُ اليت هي فاءُ الكلمة؛ لأنّها إنّما قُلِبَتْ ياءً للكسرِ الذي كان قبلها، وقد زال نحو: فأتوا وبابه، وقد تحذف الهمزة التي هي فاء الكلمة في الأمر كقوله: الطويل:
فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبَرَّكُمْ ** فَتُونَا فَعَادُونَا إذًا بالجَرَائِمِ

يريد: فأتونا كقوله: {فأتوا}.
قال ابن كيسان: وهو أمر معناه التعجيز؛ لأنه- تعالى- علم عجزهم عنه.
و{بسورة} متعلّق بأتُوا، والسورة واحدة السُّوَر، وهي طائفة من القُرْآن.
وقيل: السُّورة الدَّرجة الرفيعة، قال النابغة: الطويل:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ

وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأن قارئها يشرف بها وترفعه، أو لرفعة شأنها، وجلالة محلّها في الدِّين، وإن جعلت واوها منقلبة عن الهمزة، فيكون اشتقاقها من السُّؤْر، وهو البقية، والفضلة؛ ومنه: أَسْأَرُوا في الإِنَاءِ؛ قال الأعشى: المتقارب:
فَبَانَتْ وَقَدْ أَسَأَرتْ في الفُؤَا ** دِ صَدْعًا عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا

أي: أَبْقَتْ، ويدلّ على ذلك أن تميمًا وغيرها يهمزون فيقولون: سؤرة بالهمزة.
وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأنها قطعة منه، وهي على هذا مخفّفة من الهمز.
وقيل: اشتقاقها من سُور البناء؛ لأنها تحيط بقارئها، وتحفظه كَسُورِ المدينة، ولكنّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الوَاوِ، وجَمْعَ سُورةِ البناء سُوْر بسكونها، ففرقوا بينهما في الجمع.
قوله: {من مثْلِهِ} في الهاء ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنها تعود على {ما نَزَّلنا} عند الجمهور كعمرو، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم، فيكون {من مثله} صفة لسورة، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر: أي بسورة كائنة من مثل المنزل في فصاحته، وإخباره بالغيوب، وغير ذلك، ويكون معنى {من} التبعيض.
واختار ابن عطية والمَهْدَويّ أن تكون للبيان، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدة ولا تجيء إلاَّ على قول الأخفش.
الثاني: أنها تعود على {عَبْدنا} فيتعلّق {من مثله} بأتوا، ويكون معنى {من} ابتداء الغاية، ويجوز على هذا الوجه أيضًا أن تكون صفة لسورة أي: بسورة كائنة من رجل مثل عبدنا أمي لا يقرأ ولا يكتب.
قال القرطبي: و{من} على هذين التأويلين للتبعيض.
الثالث: قال أبو البقاء: إنها تعود على الأنداد بلفظ المفرد كقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمعنى يأباه أيضًا.
قال القرطبي: وقيل: يعود على التوراة والإنجيل، والمعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله؛ فإنها تصدِّق ما فيه، والوقف على {مثله} ليس بتام؛ {وادعوا} نسق عليه.
قوله: {وادعوا شُهَدَاءَكُم} هذه جملة أمر معطوفة على الأمر قبلها، فهي في مَحَلّ جزم أيضًا، ووزن {ادعوا} افعوا؛ لأن لام الكلمة محذوف دلالة على السكون في الأمر الذي هو جزم في المُضَارع، والواو ضمير الفاعلين.
و{شهداءكم} مفعول به جمع شهيد كظريف.
وقيل: بل جمع شاهد كشاعر والأوّل أولى؛ لاطِّرَادِ فعلاء في فعيل دون فاعل، والشهادة الحضور، وفي المراد من الشهداء وجهان:
الأول: المراد من الشهداء الأوثان.
والثاني: المراد من الشهداء أكابرهم، أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه الصلاة والسلام، والمعنى: ادعوا أكابركم، ورؤساءكم ليعينوكم على المُعَارضة، أو ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون الرد على الجميع أوكد.
و{من دون الله} متعلّق ب {ادعوا} من دون الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعوا من غير الله من يشهد لكم، ويحتمل أن يتعلّق ب {شهداءكم} والمعنى: ادعوا من اتخذتموه من دون الله، وزعمتم أنهم يشهدون لكم بصحّة عبادتكم إياهم، وأعوانكم من دون الله أولياء الذين تستعينون بهم دون الله، أو يكون معنى {من دون الله} بين يدي الله؛ كقوله: الطويل:
تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وَهِيَ دُونَهُ ** لِوَجْهِ أَخِيهَا في الإِنَاءِ قُطُوبُ

أي: تريك القذى قُدَّامه؛ لرقَّتها وصفَائِها.
واختار أبو البقاء أن يكون {من دُونِ الله} حالًا من {شهدائكم} والعامل فيه محذوف قال: تقديره: شهدائكم منفردين عن الله، أو عن أنصار الله.
و{دون} من ظروف متصرّفة، وجعل من ذلك قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] فقال: {دون} مبتدأ و{منّا} خبره، وإنما بني لإضافته إلى مبنيٍّ، وقد شذَّ رفعُهُ خبرًا في قول الشاعر: الطويل:
أَلَمْ تَر أَنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِيقَتي ** وبَاشَرْتُ حَدَّ المَوْتِ وَالمَوْتِ دُونُهَا

وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظًا ومعنى.
وأمّا {دون} التي بمعنى رديء فتلك صفة كسائر الصفات، تقول: هذا ثوب دُون، ورأيت ثوبًا دونًا أي: رديئًا، وليست مما نحن فيه.
و{دون} أيضًا نقيض فوق ويقال: هذا دون ذاك، أي: أقرب منه، ويقال في الأخذ بالشَّيء: دونكه.
قال تميم للحجَّاج: أَقَبِرنا صالحًا- وكان قد صلبه- فقال: دونكموه.
قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذا شرط حذف جوابه للدلالة عليه تقديره: إن كنتم صادقين فافعلوا، ومتعلّق الصدق محذوف، والظاهر تقديره هكذا: إن كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزل على عبدنا أنه من عندنا.
وقيل: فيما تقدرون عيله من المُعَارضة، وقد صرّح بذلك عنهم في آية أُخْرَى، حيث قال تعالى حاكيًا عنهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31] والصدق ضد الكذب وقد تقدم، والصّديق مشتقٌّ مه لصدقه في الوُدِّ والنُّصحِ، والصّدْق من الرماح: الصُّلبة. اهـ. باختصار يسير.

.تفسير الآية رقم (24):

قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

وأشار سبحانه في تهديدهم بقوله: {فاتقوا النار} كذا قال الحرالي، وهي جوهر لطيف يفرط لشدة لطافته في تفريط المتجمد بالحر المفرط وفي تجميد المتمتع بالبرد المفرط.
وقال غيره: جسم لطيف مضيء حار من شأنه الإحراق {التي وقودها} أي الشيء الذي يتوقد ويتأجج به {الناس والحجارة} التي هي أعم من أصنامهم التي قرنوا بها أنفسهم في الدنيا إلى أنهم لم يقدروا على المعارضة واستمروا على التكذيب، كانوا معاندين ومن عاند استحق النار، وإلى أنهم إذا أحرقوا فيها أوقد عليهم بأصنامهم تعريضًا بأنها وإن كانت في الدنيا لا ضرر فيها ولا نفع باعتبار ذواتها فهي في الآخرة ضرر لهم بلا نفع بشفاعة ولا غيرها؛ وتعريف النار وصلة الموصول لأن أخبار القرآن بعد ثبوت أنه من عند الله معلومة مقطوع بها فهو من باب تنزيل الجاهل منزلة العالم تنبيهًا على أن ما جهله لم يجهله أحد.
وقال الحرالي: الحجارة ما تحجَّر أي اشتد تصام أجزائه من الماء والتراب، {واتقوا} أي توقفوا عن هذه التفرقة بين الله ورسوله حيث تذعنون لربوبيته وترتابون في رسوله، فالنار معدة للعذاب بأشد التفريق لألطف الأجزاء الذي هو معنى الحرق لمن فرق وقطع ما يجب وصله، أي لما فاتتكم التقوى بداعي العلم فلا تفتكم التقوى بسائق الموجع المخصوص المناسب عذابه لفعلكم، فإنها نار غذاؤها واشتعالها بالكون كله أنهاه تركيبًا وهم الناس الملائمون لمارجها بالنوس وأطرفه وأجمده وهي الحجارة فهي تسع ما بين ذلك من باب الأولى، وفيه إشعار بمُنتها وقوتها وأنها بحكم هذا الوسع للالتصاق بخلق يعني وليست كنار الدنيا التي غذاؤها من ضعيف الموالد وهو النبات ولا تفعل في الطرفين إلا بواسطة وكان غذاؤها ووقودها النبات إذ كانت متقدحة منه كما قال: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا} [يس: 80] وتقول العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وذلك على حكم ما تحقق أن الغذاء للشيء مما منه أصل كونه وقال: {وقودها} لأن النار أشد فعلها في وقودها لأن بتوسطه تفعل فيما سواه، فإذا كان وقودها محرقها كانت فيه أشد عملًا لتقويها به عليه، ويفهم اعتبارها بنار الدنيا انقداحها من أعمال المجزيين بها ومن كونهم، فهم منها مخلوقون وبها مغتذون إلا أنها منطفية الظاهر في الدنيا متأججة في يوم الجزاء ومثال كل مجزي منها بمقدار ما في كونه من جوهرها.
قلت: ويؤيده {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء: 27] أي في أن الغالب عليهم العنصر الناري المفسد لما قاله: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزًا} [مريم: 27] قال: وفي ذكر الحجارة إفهام عموم البعث والجزاء لما حوته السماء والأرض وأن كل شيء ليس الثقلين فقط يعمه القسم بين الجنة والنار كما عمه القسم بين الخبيث والطيب؛ وإنما اقتصر في مبدأ عقيدة الإيمان على الإيمان ببعث الثقلين وجزائهم تيسيرًا واستفتاحًا، وما سوى ذلك فمن زيادة الإيمان وتكامله كما قال: {ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم} [الفتح: 4] ومن العلماء من وقف بإيمانه على بعث الثقلين وجزائهما، حتى أن منهم من ينكر جزاء ما سواهما ويتكلف تأويل مثل قوله عليه السلام: «يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء» انتهى.
ولما تم ذلك وكان {الناس} عامًا للكافر وغيره كان كأنه قيل: هذه النار لمن؟ فقيل: {أعدت} أي هيئت وأكملت قبل زمن استعمالها وتقاد للمجهول لأن المشتكي إذا جهل فاعله كان أنكأ {للكافرين} فبين أنها موجودة مهيأة لهم ولكل من اتصف بوصفهم وهو ستر ما ظهر من آيات الله.
قال الحرالي: وهي عدة الملك الديان لهم بمنزلة سيف الملك من ملوك الدنيا- انتهى. اهـ.