فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فجوابنا أن نقول: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، وأيضًا أليس أن من المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال، وإنطاق الجوارح قالوا: لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء لطف؟ فكذا هاهنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق لطف.
وقيل أيضًا إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة وبقية الوجوه ضعيفة والكلام عليها سهل هين.
وأما المقام الثاني: وهو أن بتقدير أن يصح القول بأخد الميثاق من الذر.
فهل يمكن جعله تفسيرًا لألفاظ هذه الآية؟ فنقول الوجوه الثلاثة المذكورة أولًا دافعة لذلك لأن قوله: {أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فقد بينا أن المراد منه، وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم، وأيضًا لو كانت هذه الذرية مأخوذة من ظهر آدم لقال من ظهره ذريته ولم يقل من ظهورهم ذريتهم.
أجاب الناصرون لذلك القول: بأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فسر هذه الآية بهذا الوجه والطعن في تفسير رسول الله غير ممكن.
فنقول: ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذر من ظهور بني آدم فيحمل ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان وذلك الفلان فلان آخر، فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض، وأما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم، فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته وليس في الآية أيضًا ما يدل على بطلانه، إلا أن الخبر قد دل عليه، فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن، وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر، وعلى هذا التقدير: فلا منافاه بين الأمرين ولا مدافعة، فوجب المصير إليهما معًا.
صونًا للآية.
والخبر عن الطعن بقدر الإمكان، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا المقام.
المسألة الثانية:
قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر و{ذرياتهم} بالألف على الجمع والباقون {ذُرّيَّتُهُم} على الواحد.
قال الواحدي: الذرية تقع على الواحد والجمع.
فمن أفرد فإنه قد استغنى عن جمعه وبوقوعه على الجمع فصار كالبشر فإنه يقع على الواحد كقوله: {مَا هذا بَشَرًا} وعلى الجمع كقوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وقوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} وكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير كذلك لا يجمع الذرية ومن جمع قال: إن الذرية وإن كان واحدًا فلا إشكال في جواز الجمع فيه، وإن كان جمعًا فجمعه أيضًا حسن، لأنك قد رأيت الجموع المكسرة قد جمعت.
نحو الطرقات والجدرات، وهو اختيار يونس أما قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} فنقول: أما على قول من أثبت الميثاق الأول فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها، وأما على قول من أنكره قال: إنها محمولة على التمثيل، والمعنى: أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فصار ذلك جاريًا مجرى ما إذا أشهدهم على أنفسنا وإقرارنا بوحدانيته، أما قوله: {شَهِدْنَا} ففيه قولان:
القول الأول: أنه من كلام الملائكة، وذلك لأنهم لما قالوا: {بلى} قال الله للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله: {قَالُواْ بلى} لأن كلام الذرية قد انقطع هاهنا وقوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين} تقريره: أن الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرار، لئلا يقولوا ما أقررنا، فأسقط كلمة لا كما قال: {وألقى في الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] يريد لئلا تميد بكم، هذا قول الكوفيين، وعند البصريين تقريره: شهدنا كراهة أن يقولوا.
والقول الثاني: أن قوله: {شَهِدْنَا} من بقية كلام الذرية، وعلى هذا التقرير، فقوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين} متعلق بقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} والتقدير: وأشهدهم على أنفسهم، بكذا وكذا، لئلا يقولوا يوم القيامة {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين} أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير، فلا يجوز الوقف عند قوله: {شَهِدْنَا} لأن قوله: {أَن يَقُولُواْ} متعلق بما قبله وهو قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ} فلم يجز قطعه منه.
واختلف القراء في قوله: {أَن يَقُولُواْ} أو تقولوا: فقرأ أبو عمرو بالياء جميعًا، لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة وهو قوله: {مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْوَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} وقرأ الباقون بالتاء، لأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا} وكلا الوجهين حسن، لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ} فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلْق آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ: خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ.
ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ: خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ.
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ.
وَقَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ آدَم مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُك.
فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِك يُقَالُ لَهُ دَاوُد.
فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْت عُمُرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً.
قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً.
فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَك دَاوُد؟ قَالَ: فَجَحَدَ آدَم، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ؛ وَنَسِيَ آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ؛ وَخَطِئَ آدَم، فَأَخْطَأَتْ ذُرِّيَّتُهُ»
.
خَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى وَصَحَّحَهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، «فَمِنْ حِينَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ رَأَى فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَالْمُبْتَلَى وَالصَّحِيحَ فَقَالَ لَهُ آدَم: يَا رَبِّ، مَا هَذَا؟ أَلَا سَوَّيْت بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَشْكُرَ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ «أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ أُعِيدُوا فِي صُلْبِهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
فَقَالَ الْجَاثَلِيقُ: تَرَكَّسْت تَرَكَّسْت.
فَقَالَ الرَّاوِي: يَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ، لَا يُضِلُّ اللَّهُ أَحَدًا.
فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ اللَّهُ خَلَقَك ثُمَّ أَضَلَّك، ثُمَّ يُمِيتُك، ثُمَّ يُدْخِلُك النَّارَ؛ وَاَللَّهِ لَوْلَا وَلْثٌ مِنْ عَهْدِك لَضَرَبْت عُنُقَك.
فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ نَثَرَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ؛ قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ.
وَمَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي الْقَدَرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَابِضٌ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي يَدَيْهِ، فَفَتَحَ الْيَمِينَ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْدَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ، وَقَدْ يَسْلُكُ السُّعَدَاءُ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّقَاءِ حَتَّى يُقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ، هُمْ مِنْهُمْ، ثُمَّ تُدْرِكُ أَحَدَهُمْ سَعَادَتُهُ وَلَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَمَلُ بِخَوَاتِمِهِ، الْعَمَلُ بِخَوَاتِمِهِ»
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، فَكَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ أَمْ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ. قَالُوا: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ؛ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}» وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا».
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ الْخَلْقُ وَهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا، أَوْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْهُمْ، وَكَتَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَسَاقَهُمْ إلَيْهِ؟ قُلْنَا: وَمِنْ أَيْنَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؟ أَعَقْلًا أَمْ شَرْعًا؟ فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ الرَّحِيمَ الْحَكِيمَ مِنَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
قُلْنَا: لِأَنَّ فَوْقَهُ آمِرًا يَأْمُرُهُ وَنَاهِيًا يَنْهَاهُ، وَرَبُّنَا لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ، وَلَا تُحْمَلُ أَفْعَالُ الْإِلَهِ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ.
وَبِالْحَقِيقَةِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَالْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ لَهُ صَرَفَهُمْ كَيْفَ شَاءَ، وَحَكَمَ فِيهِمْ كَيْفَ أَرَادَ؛ وَهَذَا الَّذِي يَجِدُهُ الْآدَمِيُّ إنَّمَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الْجِبِلَّةِ، وَشَفَقَةُ الْجِنْسِيَّةِ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، لِمَا يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْتِفَاعِ؟ وَالْبَارِي مُتَقَدِّسٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ.
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ، وَإِلَيْهِ صَغَى الْقَاضِي فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِمَا أَنَّ الْكُفْرَ يَخْتَصُّ بِالْجَاحِدِ، وَالْمُتَأَوِّلُ لَيْسَ بِكَافِرٍ.
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ كُفْرُ مَنْ أَنْكَرَ أُصُولَ الْإِيمَانِ، فَمِنْ أَعْظَمِهَا مَوْقِعًا وَأَبْيَنِهَا مَنْصِفًا، وَأَوْقَعِهَا مَوْضِعًا الْقَوْلُ بِالْقَدَرِ، فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَقَدْ كَفَرَ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ وَالْمُشْكِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَكْفِيرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالصَّرِيحُ مِنْ أَقْوَالِ مَالِكٍ تَكْفِيرُهُمْ، لَقَدْ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْقَدَرِيَّةِ، فَقَالَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ}.
وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ ذَلِكَ أَدَبٌ لَهُمْ، وَلَيْسُوا بِكُفَّارٍ، أَوْ حَكَى فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ؛ فَذَلِكَ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأُصُولِ، فَلَا يُنَاكَحُوا، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةُ دُفِنُوا كَمَا يُدْفَنُ الْكَلْبُ.
فَإِنْ قِيلَ: وَأَيْنَ يُدْفَنُونَ؟ قُلْنَا: لَا يُؤْذَى بِجِوَارِهِمْ مُسْلِمٌ.
وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ اسْتَتَابَهُمْ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قَتَلَهُمْ كُفْرًا. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} أي: اذكر يا محمد إذا أخذ ربك.
ويقال: معناه وقد أخذ ربك من بني آدم من ظهور بني آدم {ذُرّيَّتُهُم} يعني: {أَخَذَ رَبُّكَ مِن تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ} ذريتهم.
وقال بعضهم: يعني الذرية التي تخرج وقتًا بعد وقت إلى يوم القيامة {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} فقال لهم: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} يعني: إنَّ كل بالغ تشهد له خلقته بأن الله تعالى واحد {شَهِدْنَا} يعني: قال الله تعالى شهدنا {أَن تَقُولُواْ} أي لكيلا تقولوا.