فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الأنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في إسناده في اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج، والتعبير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية، واستأنس بعضهم بمغايرة أسلوب هذا الكلام بما فيه من الالتفات لما قبله من قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا} [الأعراف: 171] ولما بعده من قوله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا} [الأعراف: 175] لكونه استطراديًا، وقوله تعالى: {مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار كما في قوله سبحانه وتعالى:
{لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ} [الأعراف: 75] وقيل: بدل اشتمال وإليه ذهب أبو البقاء، وبينه بعضهم بأن بدل الاشتمال ما يكون بينه وبين المبدل منه ملابسة بحيث توجب النسبة إلى المتبوع النبسة إلى التابع إجمالًا نحو أعجبني زيد علمه فإنه يعلم ابتداء أن زيدًا معجب باعتبار صفاته لا باعتبار ذاته وتتضمن نسبة الأعجاب إليه نسبته إلى صفة من صفاته إجمالًا، ونسبة الأخذ الذي هو بمعنى الإخراج هنا إلى بنء آدم نسبة إلى ظهورهم إجمالًا لأنه يعمل ابتداء أن بني آدم ليسوا مأخوذين باعتبار ذواتهم بل باعتبار أجسادهم وأعضائهم وتتضمن نسبة الأخذ إليهم نسبته إلى أعضائهم إجمالًا، وادعى أن القول به أولى من القول ببدل البعض لأن النسبة إلى المبدل منه الكل تكون تامة وتحصل بها الفائدة بدون ذكر البدل نحو أكلت الرغيف نصفه فإن النبسة تامة لو لم يذكر النصف ولا شك أن النسبة هنا ليست تامة بدون ذكر البدل.
وأيضًا أن الظهور ليس بعض بني آدم حقيقة بل بعض أعضائهم ولا يخفى ما في ذلك من النظر.
و{مِنْ} في الموضعين ابتدائية، وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال، قيل: وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى: {ذُرّيَّتُهُم} مفعول {أَخَذَ} أخر عن المفعول بواسطة الجار لاشتماله على ضمير راجع إليه فيلزم بالتقديم رجوع الضمير إلى متأخر لفظًا ورتبة وهو لا يجوز إلا في مواضع ليس هذا منها ولمراعاة أصالته ومنشئيته ولمامر غير مرة من التشويق إلى المؤخر.
وقرأ نافع وأبو عمرو.
وابن عامر.
ويعقوب {ذرياتهم} والمراد أولادهم على العموم، ومن خص بني آدم بأسلاف اليهود على ما مر خص هذا بأخلافهم وفيه ما فيه، والإشكال المشهور وهو أن كل الناس يصدق عليه بنو آدم وذريته فيتحد المخرج والمخرج منه مدفوع بظهور أن المراد إخراج الفروع من الأصول حسب ترتب الولاد ولا يتوقف التخلص عنه على القول بذلك التخصيص.
{ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي أشهد كل واحد من أولئك الذرية المأخوذين من ظهور آبائهم على أنفسهم لا على غيرهم تقريرًا لهم بربوبيته سبحانه وتعالى التامة قائلًا لهم: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} أي مالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤنكم {قَالُواْ} في جوابه سبحانه وتعالى: {بلى شَهِدْنَا} أي على أنفسنا بأنك ربنا لا رب لنا غيرك والمراد اقررنا بذلك، وجاء أن القاضي شريح قال لمقر عنده شهد عليك ابن أخت خالتك، ومن هنا قال الجلال السيوطي: إن هذه الآية أصل في الإقرار و{بلى} حرف جواب وألفها أصلية عند الجمهور، وقال جمع: الأصل بل والألف زائدة وبعض أولئك يقول: إنها لتأنيث الكلمة كالتاء في ثمت وربت لأنها أميلت ولو لم تكن للتأنيث لكانت زائدة لمجرد التكثير كالف قبعثري وتلك لا تمال، وتختص بالنفي فلا تقع إلا في جوابه فتفيد إبطاله سواء كان مجردًا أو مقرونًا بالاستفهام حقيقيًا كان أو تقريريًا، وقد أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى كما في هذه الآية، ولذلك قال ابن عباس وغيره لو قالوا نعم لكفروا.
ووجهه أن نعم تصديق للمختبر بنفي أو إيجاب، ولذلك قال جماعة من الفقاء: لو قال أليس لي عليك ألف؟ فقال: بلى لزمته؛ ونعم لا.
وقال آخرون: تلزمه فيهما وجروا فيه على مقتضى العرف لا اللغة.
ونازع السهيلي وجماعة في المحكى عن الحبر وغيره متمسكين بأن الاستفهام التقريري موجب ولذلك امتنع سيبويه من جعل {أَمْ} متصلة على ما قيل في قوله تعالى: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ} [الزخرف: 51، 52] فإنها لا تقع بعد الإيجاب وإذا ثبت أنه إجياب فنعم بعد الإيجاب تصديق له، قال ابن هشام: ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب وذلك متفق عليه و{بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى} [الزمر: 59] متقدم فيه ما يدل على النفي لكن وقع في الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد ففي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أترضون أن تكونوا رفع أهل الجنة؟ قالوا: بلى» وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أنت الذي لقيتني بمكة فقال له المجيب: بلى» وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل انتهى.
وأجاب البدر الدماميني بأنه لا إشكال في الحقيقة فإن هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه الهمزة ومدخولها وهو إيجاب كما سلف ودعواه الاتفاق مناقش فيها أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي بالمرة فقد حكى الرضى الخلاف فيه، وذكر أن بعضهم أجاز استعمالها بعده تمسكًا بقوله:
وقد بعدت بالوصل بيني وبينها ** بلى إن من زار القبور ليبعدا

وإن أراد ما هو الأعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف فيه موجود مشهور ذكره هو في حرف النون انتهى، ولا يخفى أن البيت شاذ كما صرح به الرضى، والمذكور في بحث النون أن جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين قالوا: إنه إذا كان قبل النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد وإن كان مرادًا به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعيًا للفظه، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعيًا لمعناه وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم نعم وقد قال لهم: ألستم ترون لهم ذلك وقول جحدر:
أليس الليل يجمع أم عمرو ** وإيانا فداك بنا تداني

نعم وأرى الهلال كما تراه ** ويعلوها النهار كما علاني

وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، وقال ابن عصفور: أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجابًا في المعنى فإذا قيل: ألم أعطك درهمًا قيل في تصديقه: نعم وفي تكذيبه بلى، وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال: نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى.
وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه مع أن عمرو، أو هو جواب لقوله: وأرى الهلال قدم عليه وأما قول الأنصار: فجاز لأمن الليس لأنه قد علم أنهم يريدون نعم يعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعماله سيبويه لها بعد التقرير انتهى.
والأحسن أن تكون نعم في البيت جوابًا لقوله: فذاك بنا تداني، ثم قال ابن هشام: ويتحرر على هذا أنه لو أجيب {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لا يحتمل غير المعنى المراد من المقر، ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قال: إنهم لو قالوا: نعم لم يكن إقرارًا وافيًا، وجوز الشلوبين أن يكون مراده رضي الله تعالى عنه أنهم لو قالوا نعم جوابًا للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفرًا إذ لأصل تطابق السؤال والجواب لفظًا، وفيه نظر لأن التكفير لا يكون بالاحتمال، والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعًا في مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى التوحيد كما نطق به قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة...» الحديث مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم لمعرفة ربوبيته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينًا تامًا ومن تمكنهم منها تمكنًا كاملًا وتعرضهم لها تعرضًا قويًا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلًا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب، ونظير ذلك في قول ما في قوله سبحانه وتعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ومن ذلك سائر ما يحكى عن الحيوان والجماد كقوله:
شكا إلى جملي طول السري ** مهللًا رويدًا فكلانا مبتلي

وقوله:
امتلأ الحوض وقال قطني ** مهلًا رويدًا قد ملأت بطني

وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: {أَن تَقُولُواْ} من تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديدًا في الإلزام أو إليهم إلى متقدميهم بطريق التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد أو لمقدر يدل عليه ذلك، والمعنى على ما يقول البصريون: فعلنا مافعلنا كراهة أن تقولوا وعلى ما يقول الكوفوين: لئلا تقولوا {يَوْمُ القيامة} عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا} أي وحدنية الربوبية {غافلين} لم ننبه عليه، وإنما لم يسعهم هذا الاعتذار حينئذ على ما قيل لأنهم نبوا بنصب الأدلة وجعلوا متهيئين تهيأ تامًا لتحقيق الحق وإنكار ذلك مكابرة فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [172].
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنًا بعد قرن، من أنهم كانوا نطفة قذفت إلى رحم الأمهات، ثم جعلت علقة، ثم مضغة، ثم أنشأهم بشرًا سويًا حيًا مكلفًا، فجعل خلقه إياهم كذلك، إخراجًا من أصلابهم، لأن أصلهم خرج منها، و{مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من: {بني آَدَمَ} بدل البعض، وقرئ {ذرياتهم}.
{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي: أشهد كل واحدة من أولئك الذاريات المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها، تقريرًا لهم بربوبيته التامة.
قال الجشمي: أي: أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقته، وغرائب صنعته، من أعضاء سوية، وحواس مدركة، وجوارح ظاهرة، وأعصاب وعروق وغير ذلك، مما يعلمه من تفكر فيه، وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته، فبالإشهاد بالأدلة، صار كأنه أشهدهم بقوله.
وقوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ} على إرادة القول، أي: قائلًا ألست بربكم، ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم، فينتظم استحقاق المعبودية، ويستلزم اختصاصه به تعالى: {قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} أي: على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، لأنهم بما ظهر عليهم من آثار الصنعة صاروا كأنهم قالوا: {بلى}، وإن لم يكن هناك قول باللسان.
فالآية من باب التمثيل المعروف في كلام العرب، مثل تعالى خلقهم على فطرة التوحيد، وإخراجهم من ظهور آبائهم، شاهدين بربوبيته شهادة لا يخالجها ريب، بحمله إياهم على الإعتراف بها بطريق الأمر، ومسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلًا.
والقصد من الآية الإحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته تعالى معرفة فطرية، لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، والفطرة هي معرفة ربوبيته.