فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولأن البعض قد يتصور أن في التكليف الإِيماني مشقة، لذلك فهو يحاول أن يبعد عنه وينساه، وكذلك يحاول هذا البعض أن ينأى بنفسه عن هذه التكاليف.
ونأخذ المثل من حياتنا: قد نجد إنسانًا مَدِينًا لمحل بقالة أو لنجاَّرٍ وليس عنده مال يعطيه له، لذلك يحاول أن يبتعد عن محل هذا البقال، أو أن يسير بعيدا عن أعين النجار. وهكذا يكون افتعال الغفلة في ظاهره هو أمرًا مَنْجِيًا من مشقات التكاليف، لكن البشر في ميثاق الذر قالوا: {بلى شَهِدْنَا}.
وقد أُخِذَ ذلك العهدُ عليهم، وأُقرُّوا به واستشهد الحقُّ بهم، على أنفسهم حتى لا يقولوا يوم القيامه {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} لأنه لا يصح أن نغفل عن هذا العهد أبدًا، ولكنَّ الحقَّ تبارك وتعالى عرَفَ أنَّنا بشرٌ، وقال في أبينا آدم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ...} [طه: 115].
ومادام آدم قد نسي، فنسيانه يقع عليه حيث بيَّن وأوضح لنا الإسلام أن الأمم السابقة على الإسلام تؤخذ بالنسيان، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر واضح: فقال عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
والخطأ معلوم، كأن يقصدَ الإنسانُ شيئًا ويحدث غيرهُ، والنسيانُ ألاَّ يجيءَ الحكمُ على بال الإنسان. والمُكْرَهُ هو من يقهره من هُو أقْوى منه بفقدان حياته أو بتهديد حريته وتقييدها ما لم يفعل ما يؤمر به، وفي الحالات الثلاث يرفع التكليف عن المسلم. وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أكرم الأمة المحمدية بصفة خاصة برفع ما ينساه المسلم. وهذا دليل على أن من عاشوا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤاخذون به. وإذا سلسلنا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصل إلى سيدنا آدم الذي خُلق بيد الله المباشرة، بينما نحن أبناء آدم مخلوقون بالقانون؛ أن يوجد رجل وتوجد امرأة وتوجد علاقة زوجية فيأتي النسل.
وقد كلف الله آدم في الجنة التي أعدها له ليتلقى التدريب على عمارة الأرض بأمر ونهي؛ فقال له سبحانه وتعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة...} [البقرة: 35].
إذن فقصارى كل تكليف هو أمر في افعل، ونهي في لا تفعل؛، وقد نسي آدم التكليف في الأمر الواحد البسيط وهو المخلوق بيد الله والمكلف منه بأمر واحد أن يأكل حيث يشاء ويمتنع عن الأكل من الشجرة، وإن لم يتذكر آدم ذلك، فما الذي يتذكره؟ وما كان يصح أن ينسى لأنه مخلوق بيد الله المباشرة ومكلف من الله مباشرة، والتكليف وإن كان بأمرين؛ لكن ظاهر العبء فيه على أمر واحد؛ الأكل من حيث شاءا هو أمر لمصلحة آدم، ولا تقرب هو تكليف واحد.
- ولذلك قال الحق في آية أخرى: {... وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121].
وهو عصيان لأنه نسيان لأمر واحد، ما كان يصح أن ينساه. لعدم تعدده ويقول الحق تبارك وتعالى: {أَوْ تقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 173].
جاء هذا القول لينبهنا إلى أن الغفلة لا يجب أن تكون أسوة لأن التكاليف شاقة، والإنسان قد يسهو عنها فيورث هذا السهو إلى الأجيال اللاحقة فيقول الأبناء: {أَوْ تقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون}.
وهذا يعني أن إيمانهم هو إيمان المقلد، رغم أن الحق قد أرسل لهم البلاغ، وإذا كان الآباء مبطلين للبلاغ بالمنهج فلا يصح للأبناء أن يغفلوا عن صحيح الإيمان. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم...} الآية. قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم...} الآية. قال: لما خلق الله آدم أخذ ذريته من ظهره كهيئة الذر، ثم سماهم بأسمائهم فقال: هذا فلان بن فلان يعمل كذا وكذا، وهذا فلان بن فلان يعمل كذا وكذا، ثم أخذ بيده قبضتين فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة عن ابن عباس في قوله: {وإذ أخذ ربك} الآية. قال: إن الله خلق آدم ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر، فقال لهم: من ربكم؟ فقالوا: الله ربنا. ثم أعادهم في صلبه حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: لما أهبط آدم عليه السلام حين أهبط بدحناء، فمسح الله ظهره فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فيومئذ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: مسح الله على صلب آدم فأخرج من صلبه ما يكون من ذريته إلى يوم القيامة، وأخذ ميثاقهم أنه ربهم وأعطوه ذلك، فلا يسأل أحد كافر ولا غيره من ربك؟ إلا قال: الله.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ واللالكائي في السنة عن عبد الله بن عمرو في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} قال: أخذهم من ظهرهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن منده في كتاب الرد على الجهمية وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: أخرج ذريته من صلبه كأنهم الذر في آذىء من الماء.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال: إن الله ضرب بيمينه على منكب آدم فخرج منه مثل اللؤلؤ في كفه، فقال: هذا للجنة. وضرب بيده الأخرى على منكبه الشمال فخرج منه سواد مثل الحمم فقال: هذا ذرء النار. قال: وهي هذه الآية: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإِنس} [الأعراف: 179].
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: مسح الله ظهر آدم وهو ببطن نعمان- واد إلى جنب عرفة- فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم أخذ عليهم الميثاق وتلا {أن يقولوا يوم القيامة} هكذا قرأها يقولوا بالياء.
وأخرج أبو الشيخ عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: أخرجوا من ظهره مثل طريق النمل.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب قال: أقروا له بالإِيمان والمعرفة الأرواح قبل أن يخلق أجسادها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن كعب قال: خلق الله الأرواح قبل أن يخلق الأجساد، فأخذ ميثاقهم.
وأخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء، مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي. ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك قوله: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {ألست بربكم قالوا بلى} فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية، فقال: هو والملائكة {شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنَّا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} قالوا: فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه، وذلك قوله عز وجل: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا} [آل عمران: 83] وذلك قوله: {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149] يعني يوم أخذ الميثاق.
وأخرج ابن جرير عن أبي محمد رجل من أهل المدينة قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: «خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه، ثم أجلسه فمسح ظهره بيده اليمنى فأخرج ذرًا، فقال: ذرء ذرأتهم للجنة، ثم مسح ظهره بيده الأخرى- وكلتا يديه يمين- فقال: ذرء ذرأتهم للنار يعملون فيما شئت من عمل، ثم اختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار».
وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده في كتاب الرد على الجهمية واللالكائي وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر في تاريخه عن أبي بن كعب في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} إلى قوله: {بما فعل المبطلون} جميعًا فجعلهم أرواحًا في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم {أن تقولوا يوم القيامة} انَّا لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئًا، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك، فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم، فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: يا رب لولا سوّيت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر.
ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة أن يبلغوا وهو قوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} [الأحزاب: 7] الآية وهو قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30] وفي ذلك قال: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} [الأعراف: 102] وفي ذلك قال: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} [الأعراف: 101] قال: فكان في علم الله يومئذ من يكذب به ومن يصدق به، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم، فأرسله الله إلى مريم في صورة بشر فتمثل لها بشرًا سويًا. قال: أبي فدخل من فيها.
وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والآجري في الشريعة وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه واللالكائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن مسلم بن يسار الجهني، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم...} الآية. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: «أن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار».
وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلًا قال: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} إلى قوله: {المبطلون}».
وأخرج ابن جرير وابن منده في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} قال: «أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس. فقال لهم {ألست بربكم قالوا بلى} قالت الملائكة {شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنَّا كنا عن هذا غافلين}».