فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة، حتى وإن كان في نعمة، لأنه معزول عن الله، ومادام معزولًا عن الله تجده دائم التساؤل: أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم؟ ويعيش دائما في قلق ورعب مخافه أن يفوت النعيم أو ألا يدوم له النعيم، ومثله كالكلب يلهث حال راحته ويلهث حال تعبه. {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
إذن حين يضرب الله لنا مثلًا من الأمثال الواقعية في هذا الرجل المسمى ابن باعوراء، فسبحانه يعطينا واقعًا لما حدث بالفعل.
أي أن الذي يريد الله أن يرفعه بما علمه من منهج فانسلخ من دينه فهو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، ولستم بدعًا في هذا، فالله يريد أن يرفعكم بمنهج السماء وأنتم تخلدون إلى الأرض، وقد حدث هذا مع ابن باعوراء، وكلمة مثل إذا سمعتها هي من مادة ال م وال ث وال لام، وتنطق كما يأتي: إما أن تنطقها مثْل يكسر الميم وسكون الثاء، وإما أن تنطقها مَثَل بفتح الميم والثاء، والمَثْلَ هو المشابه والنظير، فتقول: فلان مِثْل فلان في الكرم، في العلمَ، في الَطول، في العرض، وبذلك أعطيت تشَبيه ما هو مجهول للمخاطب بما هو معلوم له.
والحق سبحانه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11].
أي لا أحد يشبهه في شيء؛ لأنه مَنَزّه في الذات والصفات والأفعال.
وأيضًا نقول: هذا مَثَل هذا؛ أي أن فلانًا المشبه به يكون أعلى منه فيما يشبهه به، لكن الناس لا تعرف ذلك. وإن كان المشبه به ذائع الصيت؛ بحيث يجري اسمه على كل لسان؛ فنحن نقول: إنَّه مَثَلٌ؛ كقولنا عن الكريم: هو حاتم لأن شهرة حاتم في الكرم جعلته مَثَلًا.
والفرق أنك إذا قلت في فلان إنه يشبه حاتمًا في الكرم، فقد تكون أول من يخبر عنه، ولك أن تأتي بواحد له شهرة ذائَعة الصيت على كل لسان؛ فهذا مَثَل، كأن تقول: مَثَل حاتم في الكرم، أو مَثل عنترةَ في الشجاعة. والمَثَل في الذكاء إياس، لأن كل واحد منهم مشهور بصفة، ولذلك لما مدح الشاعر الخليفة قال فيه: إقدام عمرو في شجاعته في سماحة حاتم أي الطائي في حلم أحنف الأحنف بن قيس وكان مشهورًا بالحلم عند العرب وفي ذكاء إياس. وقال رجل من القوم: كيف تُشَبَّهُ الأميرَ بصعاليك العرب؟ إن الأمير فوق من ذكرت جميعًا.
ما عمرو بالنسبة للأمير؟!
وما حاتم بالنسبة للأمير؟!
فقال الشاعر:
وشبهه المدّاح في الباس والندى ** بمن لو رآه كان أصغر خادم

ففي جيشه خمسون ألفًا كعنتر ** وفي خُزنه أُلف ألف كحاتم

أي أن عنده أمثالَ حاتمٍ وأمثال عنترة. فما كان منه إلا أن أسعفته ذاكرته وبديهيته؛ فقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلًا شرودًا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلا من المشكاة والنبراس

وكأن الشاعر يقول: أنا ضربت بهم المَثل لأنهم أصبحوا المثل المشهور والأمثال لا تتغير.
وأنت تقدر في المثل، فقد تقول: فلان حاتم، وحاتم انقضى عمره، لكنه قد صار مثلًا مشهورًا في التاريخ، أو تقول: فلان عنتر، أو فلان إياس، وفي ذلك يرتقي التشبيه، بأن صار المشبَّه به مشهورًا معلومًا متواردًا على الألسنة وكل واحد يشبه به.
ويُعَرفون المَثَل بأنه: قول شبِّه مورده بمضربه، أي أنك تشبه الحالة التي قيل فيها المثل أولًا، ومثال ذلك: حينما أرسلَ عظيمٌ من عظماء العرب خاطبةً اسمها عصام لتخطب له أمَّ إياس؛ فقد بلغه أنها جميلة وأنها وأنها، فقال: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف، فذهبت الخاطبة وخلَّت أم الفتاة بينها وبينها، وقالت لها: يا هذه، هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض أمرك فلا تستري عنها شيئًا أرادت النظر إليه، من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك به. ثم أرسلت إلى خباء، ونظرتها كلها وفحصتها فحصًا شاملًا. فلما عادت إلى من أرسلها، وكان ينتظرها في شوق وكأنه على أحر من الجمر، قال لها: ما وراءكِ يا عصامُ؟ قالت: أبدي المخض عن الزُّبد أي أن الرحلة جاءت بفائدة.
وأصبح العرب بعد ذلك كلما أرسلوا رسولًا ذكرا أو أنثى أو مثنى أو جمعًا؛ وبعد أن يعود إليهم ويستعملوا منه عن نتيجة رحلته، فهم يقولون له: ما وراءَك يا عصام؟، ولو كان رجلًا، لأن الأمثال لا تغير. وكل شيء يجدي الجهد فيه يقال عنه: أبدي المخض عن الزبد.
فحين ينجح الولد ويأتي بالمجموع المناسب يقال: أبدي المخض عن الزبد.
والحق تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...} [البقرة: 26].
وكانوا قد قالوا: كيف يضرب الله المثل ببعوضة؛ وقال سبحانه: {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجتمعوا لَهُ...} [الحج: 73].
لقد فهموا قوله: {فما فوقها} أنها أكبر منها، والمراد غير ذلك؛ لأنه سبحانه ضرب المثل بالأقل؛ لذلك قال: {فما فوقها} من باب فما فوقها في الاحتقار منكم والقلة في الحجم مما تنكرونه، وهو الضآلة. وحتى تفهم ذلك نسمع أحيانًا: فلان مريض. ويراد السامع وفلان فوقه في المرض. ونجد فوقه هنا لا تعني المرض الأقل، بل المرض الأكثر شدة: {... ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
والكلام موجه لليهود: أي أنتم يا بني إسرائيل مَثَلكم مثل الرجل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، ولقد جاءت لكم في التوراة بشارة بمحمد، ووصفته بسمات وعلامات، بحيث إذا رآه الإنسان يعرف أنه الرسول الذي جاء ذكره في التوراة، ويعرفه الواحد منكم كما يعرف ابنًا له، لأنه مذكور لكم بنصه ونعته وشكله وطوله، وعرضه. وكنتم تستفتحون به على العرب. لكنكم امتنعتم عن التصديق بالآيات، وعندما جاءكم بما عرفتم عنه كفرتم به. وصار مثلكم كمثل الرجل الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها. {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}.
وهم بعنادهم وبغيهم وكفرهم قد كذبوا بالآيات الكونية التي يراها البصر؛ السماء والأرض والشمس، والآيات المعجزات التي يثبت بها الرسول صدق بلاغه عن الله، وكذلك آيات القرآن التي تحمل منهج الله.
{فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وعليك يا محمد أن تقصص القصص وأن تقول ما حدث وما كان، وأنت لن تحكي الأمر التافه، بل ستحكي ما يقال له قصص ويكون فيه عبرة؛ تنتفع بها حركة المجتمع.
ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، ونعلم أن القرآن قد جاء فيه الأمر بالتفكر والتذكر والتدبر.
والتفكر- كما نعرف- هو عمل العقل في المقارنات بين البديلات المتنوعة لِيُرَجّح بدلًا على بديل فتُعقلَ به القضايا.
والتذكر يعني إن غفلت عن هذا فتذكره، حتى يزيح عنك الغفلة عن القضية المعلومة.
أما التدبر فهو أيضًا بحث عقلي. فلا تنظر إلى واجهة الأشياء، بل إلى كلية الأشياء من جميع جهاتها بواجهة وجوانب وخلف، وما ينتج عنها. وعلى سبيل المثال يقال: انظر خلف العبارة، لتجد المعنى الخفي فيما يقال. والمثال في قول الحق: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...} [البقرة: 26].
وحين تفكرنا وتدبرنا وجدنا أن معنى {فما فوقها} لا يعني الأعلى منها في القوة، بل الأعلى منها في الضعف الذي أنكروه. لذلك لا يجب أن تنظر إلى معنى ومدلول اللفظ حسب ظاهره فقط، بل لما خلف اللفظ، ومعطياته.
{فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي يتفكرون في أسلوب توجيه المنهج؛ لعلهم يؤمنون وهذه فائدة القصص. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}.
الضمير في: رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ: ولو شئنا رفعناه للعمل بها، أي: رفعناه درجة بتلك الآيات.
قال ابن عباس: لرفعناه بعمله.
وقيل: المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق، والمجرور على الآيات، أي: لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات.
قال مجاهد وعطاء.
وقيل: الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على الذي والمراد بالرفع: الأخذُ، كما تقول: رُفِعَ الظَّالمُ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي: لأهلكناه بسبب المعصية.
وهذه أقوال بعيدة، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ.
قوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} {أخْلَدَ} أي: ترامى بنفسه.
أي: ركن إلى الدنيا ومال إليها.
قال أهل العربيَّةِ: أصله من الإخلاد، وهو الدوامُ واللُّزوم، فالمعنى: لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ: [الطويل]
بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ ** وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا

ومنه يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به.
قال ابنُ عبَّاس: يريد مال إلى الدُّنيا.
وقال مقاتل: رَضِيَ بالدُّنيا.
وقال الزجاج: ركن إلى الدُّنيا.
قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّرُوا {الأرض} في هذه الآية بالدنيا؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض.
قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: لاهثًا في الحالتين.
قال بعضهم: وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال.
فلا يقال: جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط.
على الحالِ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة فلا يقال: جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال.
نعم قد أوقعو الشَّرطيَّة موقع الجحال، ولكن بعد أن أخروجُها عن حقيقة الشرط.
وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما ينقاضها، أو لم يُعْطف، فالأوَّلُ: يستمرُّ فيه تركُ الواو، نحو: أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6- يس: 10].
والثاني: لابد فيه من الواو نحو: أتَيْتُكَ، وإن لم تأتني؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل: أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس، إذا عُرِفَ هذا فقوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} من قبيل النوع الأول؛ لأنَّ الحمل عليه، والتَّرك نقيضان.
والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ أكْلُبٍ، وفي الكثرةِ على كلاب، وشذُّوا فجمعوا أكْلُبًا على أكَالِب، وكِلابًا على كِلابَاتٍ، وأمَّا كَلِيبٌ فاسم جمعٍ؛ كفريق، لا جمع، قال طرفة: [الطويل]
تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا ** رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ

وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة.
ويقال: لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العين في الماضي والمُضارع لَهَثًا، ولُهْثًا بفتح اللام وضمها، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه، وأمَّا غيره من الحيوان، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا، أو عطش، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الأإعراب، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفِّرة لقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59].
قوله: {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم} يجوز أن يُشارَ بـ: ذَلِكَ إلى صفة {الكَلْبِ}، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات، أو إلى الكلب، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي: صفة المنسلخ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من: {مثلُ القومِ} أي: ذلك الوصف، وهو وصف المنسلخ، أو وصف الكلب كمثل القوم. اهـ. باختصار.