فصل: قال الزركشي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزركشي:

اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدى العرب قاطبة بالقرآن حين قالوا: افتراه، فأنزل الله عز وجل عليه: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله} [هود: 13] ثم كرر هذا فقال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} أي: من كلام مثله، وقيل من بشر مثله، ويحقق القول الأول الآيتان السابقتان فلما عجزوا عن أن يأتوا بسورة تشبه القرآن على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء قال: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} [الإسراء: 88] فقد ثبت أنه تحداهم به، وأنهم لم يأتوا بمثله لعجزهم عنه، لأنهم لو قدروا على ذلك لفعلوا، ولما عدلوا إلى العناد تارة والاستهزاء أخرى، فتارة قالوا: سحر، وتارة قالوا: شعر، وتارة قالوا: أساطير الأولين. كل ذلك من التحير والانقطاع.
قال ابن أبي طالب مكي في اختصاره نظم القرآن للجرجاني قال المؤلف: أنزله بلسان عربي مبين بضروب من النظم مختلفة على عادات العرب ولكن الأعصار تتغير وتطول فيتغير النظم عند المتأخرين لقصور أفهامهم والنظر كله جار على لغة العرب ولا يجوز أن ينزله على نظم ليس من لسانهم لأنه لا يكون حجة عليهم بدليل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} وفي قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} فأخبر أنهم لم يعلموه لجهلهم به وهو كلام عربي.
قال أبو محمد: لا يحتمل أن يكون جهلهم إلا من قبل أنهم أعرضوا عن قبوله ولا يجوز أن يكون نزل بنظم لم يعرفوه إذ لا يكون عليهم حجة وجهلنا بالنظم لتأخرنا عن رتب القوم الذي نزل عليهم جائز ولا يمنع فمن نزل عليهم كان يفهمه إذا تدبره لأنه بلغته ونحن إنما نفهم بالتعليم انتهى وهذا الذي قاله مشكل فإن كبار الصحابة رضي الله عنهم حفظوا البقرة في مدة متطاولة لأنهم كانوا يحفظون مع التفهم وإعجاز القرآن ذكر من وجهين:
أحدهما: إعجاز متعلق بنفسه.
والثاني: بصرف الناس عن معارضته.
ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز واختلفوا في إعجازه فقيل إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات وإن العرب كلفت في ذلك مالا تطيق وفيه وقع عجزها والجمهور على أنه إنه إنما وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ فإذا ثبت ذلك فاعلم أنه لا يصح التحدي بشيء مع جهل المخاطب بالجهة التي وقع بها التحدي ولا يتجه قول القائل لمثله إن صنعت خاتما كنت قادرا على أن تصنع مثله إلا بعد أن يمكنه من الجهة التي تدعي عجز المخاطب عنها فنقول الإعجاز في القرآن العظيم إما أن يعني بالنسبة إلى ذاته أو إلى عوارضه من الحركات والتأليف أو إلى مدلوله أو إلى المجموع أو إلى أمر خارج عن ذلك لا جائز أن يكون الإعجاز حصل من جهة ذوات الكلم المفردة فقط لأن العرب قاطبة كانوا يأتون بها ولا جائز أن يكون الإعجاز وقع بالنسبة إلى العوارض من الحركات والتألف فقط لأنه يحوج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة: إنا أعطيناك الجواهر فصل لربك وهاجر إن شانئك هو الكافر ولو كان الإعجاز راجعا في الإعراب والتأليف المجرد لم يعجز صغيرهم عن تأليف ألفاظ معربة فضلا عن كبيرهم ولا جائز أن يقع بالنسبة إلى المعاني فقط لأنها ليست من صنيع البشر وليس لهم قدرة على إظهارها من غير ما يدل عليها ولا جائز أن ترجع إلى المجموع لأنا قد بينا بطلانه بالنسبة إلى كل واحد فيتعين أن يكون الإعجاز لأمر خارج غير ذلك.

.بيان الأقوال المختلفة في وجوه الإعجاز:

وقد اختلف فيه على أقوال:
أحدهما- وهو قول النظام-: إن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات وهو قول فاسد بدليل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ولو سلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى بكبير يحتفل بذكره هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزا غيره وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم قدرتهم عن الإتيان بمثله وأيضا يلزم من القول بالصرفة فساد آخر وهو زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي وخلو القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول العظمى ولا معجزة له باقية سوى القرآن وخلوه من الإعجاز يبطل كونه معجزة.
قال القاضي أبو بكر: ومما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا وإنما يكون المنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضلا على غيره في نفسه وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم أن الكل قادرون على الإتيان بمثله وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه ولا بأعجب من قول فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله في هذا الباب وإنما يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد وزعم قوم أن ابن المقفع عارض القرآن وإنما وضع حكما.
الثاني: أن وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به لا مطلق التأليف وهو بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة وعلت مركباته معنى بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى واختاره ابن الزملكاني في البرهان.
الثالث: ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب كقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ} وقوله في أهل بدر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا} وكقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} وقوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} وغير ذلك مما أخبر به بأنه سيقع فوقع ورد هذا القول بأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها بذلك لا إعجاز فيها وهو باطل فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها.
الرابع: ما تضمن من إخباره عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها وقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ} الآية وهو مردود بما سبق نعم هذا والذي قبله من أنواع الإعجاز إلا أنه غير منحصر فيه.
الخامس: إخباره عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} وقوله: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ} الآية وكإخباره عن اليهود أنهم لا يتمنون الموت أبدا.
السادس:- وصححه ابن عطية وقال-: إنه الذي عليه الجمهور والحذاق وهو الصحيح في نفسه وأن التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه ووجه إعجازه أن الله أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ويتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم بالضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك وبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا النطق يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه.
والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ولهذا ترى البليغ ينقح الخطبة أو القصيدة حولا ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرا وكتاب الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدبر لسان العرب على لفظه أحسن منها لم توجد ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ويخفي وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة عيسى بالأطباء وفي موسى بالسحرة فإن الله تعالى إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع ما تكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره فكان السحر في مدة موسى قد انتهى إلى غايته وكذا الطب في زمان عيسى والفصاحة في مدة محمد صلى الله عليه وسلم.
السابع: أن وجه الإعجاز الفصاحة وغرابة الأسلوب والسلامة من جميع العيوب وغير ذلك مقترنا بالتحدي واختاره الإمام فخر الدين وهو قريب مما سبق وقد قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} والمراد: بمثل نظمه بدليل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وقول من قال: إن الضمير في {مِّنْ مِثْلِهِ} عائد على الله ضعيف بقوله: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} والسياق واحد.
الثامن: ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم واختاره القاضي أبو بكر قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته.
قال: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أدعوها في الشعر لأنه ليس مما يخرق العادة بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدريب والتصنع له كقول الشعر ورصف الخطب وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة وله طريق يسلك فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقا.
قال: ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر وفي بعض أدق وأغمض ثم قال القاضي: فإن قيل ما الذي وقع التحدي به؟ أهو الحروف المنظومة؟ أو الكلام القائم بالذات؟ أو غيره؟ قلنا: الذي تحداهم به أن يأتوا على الحروف التي هي نظم القرآن منظومة حكمها متتابعها كتتابعها مطردة كاطرادها ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بالكلام القديم الذي لا مثل له وقال بعض الأئمة: ليس الإعجاز المتحدى به إلا في النظم لا في المفهوم لأن المفهوم لم يمكن الإحاطة به ولا الوقوف على حقيقة المراد منه فكيف يتصور أن يتحدى بما لا يمكن الوقوف عليه إذ هو يسع كل شيء فأي شيء قوبل به ادعى أنه غير المراد ويتسلسل.
التاسع: أنه شيء لا يمكن التعبير عنه وهو اختيار السكاكي حيث قال في المفتاح واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرن فيهما وقال أبو حيان التوحيدي في البصائر: لم أسمع كلاما ألصق بالقلب وأعلق بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي وكان بحرا في العلم وقد سئل عن موضع الإعجاز من القرآن فقال هذه مسألة فيها حيف على المفتي وذلك أنه شبيه بقولك ما موضع الإنسان من الإنسان فليس للإنسان موضع من الإنسان بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده.
العاشر: وهو قول حازم في منهاج البلغاء: إن الإعجاز فيه من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا توجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود ثم تعرض الفترات الإنسانية فتقطع طيب الكلام ورونقه فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه بل توجد في تفاريق وأجزاء منه والفترات في الفصاحة تقع للفصيح إما بسهو يعرض له في الشيء من غير أن يكون جاهلا به أو من جهل به أو من سآمة تعتري فكره أو من هوى للنفس يغلب عليها فيما يحوش عليها خاطره من اقتناص المعاني سمينا كان أو غثا فهذه آفات لا يخلو منها الإنسان الفاضل والطبع الكامل وهو قريب مما ذكره ابن الزملكاني وابن عطية.
الحادي عشر: قال الخطابي في كتابه- وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر-: إن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن لما صعب عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجة البيان متفاوتة ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح القريب السهل ومنها الجائز الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة فالقسم الأول أعلاه والثاني أوسطه والثالث أدناه وأقربه فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة وأخذت من كل نوع شعبة فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة في الكلام يعالجان نوعا من الوعورة فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن يسرها الله بلطيف قدرته ليكون آية بينة لنبيه ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه.
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور:
منها: أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني والحوامل ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلا أن يأتوا بكلام مثله.
وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقديم في أبوابه والرقي في أعلى درجاته وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام وأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا.
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته في تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله ومناقضته في شكله ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه منظوما ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه وقد كانوا يجدون له وقعا في القلب وقرعا في النفس يريبهم ويحيرهم فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف ولذلك قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب شيئا ونحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز وقد حكى الله عن بعض مردتهم- وهو الوليد بن المغيرة المخزومي- أنه لما طال فكره في القرآن وكثر ضجره منه وضرب له الأخماس من رأيه في الأسداس فلم يقدر على أكثر من قوله: {إنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} عنادا وجهلا به وذهابا عن الحجة وانقطاعا دونها.
ثم اعلم أن عمود البلاغة التي تجتمعا لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يفسد به الكلام أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس كالعلم والمعرفة والشح والبخل والنعت والصفة وكذا بلى ونعم ومن وعن ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك لأن كل لفظة منها خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بقض معانيها وإن اشتركا في بعضها.
ولهذا قال أبو العالية في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} أنه الذي ينصرف ولا يدري عن شفع أو وتر فرد عليه الحسن بأنه لو كان كذلك لقال الذين هم في صلاتهم فلم يفرق أبو العالية بين في وعن حتى تنبه له الحسن وقال: المراد به إخراجها عن وقتها.
فإن قيل: فهلا جعل في كل سورة نوعا من الأنواع؟ قيل: إنما أنزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة وفي الآي المجموعة القليلة العدد ليكون أكثر لفائدته وأعم لمنفعته ولو كان لكل باب منه قبيل ولكل معنى سورة مفردة لم تكثر عائدته ولكان الواحد من الكفار المنكرين والمعاندين إذا سمع السورة لا تقوم عليه الحجة به إلا في النوع الواحد الذي تضمنته السورة الواحدة فقط وكان في اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظا وأجدى نفعا من التخيير لما ذكرناه.
قال الخطابي: وقلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم وهو صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ} وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية.
قلت: ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للطور حتى انتهى إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} قال: خشيت أن يدركني العذاب وفي لفظ كاد قلبي يطير فأسلم وفي أثر آخر أن عمر لما سمع سورة طه أسلم وغير ذلك وقد صنف بعضهم كتابا فيمن مات بسماع آية من القرآن.
الثاني عشر:- وهو قول أهل التحقيق-: إن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد عن انفراده فإنه جمع كله فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع بل وغير ذلك مما لم يسبق.
فمنها الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم سواء المقرين والجاحدين ثم إن سامعه إن كان مؤمنا به بداخله روعة في أول سماعه وخشية ثم لا يزال بجد في قلبه هشاشة إليه ومحبة له وإن كان جاحدا وجد فيه مع تلك الروعة نفورا وعيا لانقطاع مادته بحسن سمعه.
ومنها: أنه لم يزل ولا يزال غضا طريا في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين.
ومنها: ما ينتشر فيه عند تلاوته من إنزال الله إياه في صورة كلام هو مخاطبة من الله لرسوله تارة ومخاطبة أخرى لخلقه لا في صورة كلام يستمليه من نفسه من قد قذف في قلبه وأوحى إليه ما شاء أن يلقيه إلى عباده على لسانه فهو يأتي بالمعاني التي ألهمها بألفاظه التي يكسوها إياه كما يشاهد من الكتب المتقدمة.
ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبا في كلام البشر لأن الجزالة من الألفاظ التي لا توجد إلا بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة والعذوبة منها ما يضادها من السلاسة والسهولة فمن نحا نحو الصورة الأولى فإنما يقصد الفخامة والروعة في الأسماع مثل الفصحاء من الأعراب وفحول الشعراء منهم ومن نحا نحو الثانية قصد كون الكلام في السماع أعذب وأشهى وألذ مثل أشعار المخضرمين ومن داناهم من المولدين المتأخرين وترى ألفاظ القرآن قد جمعت في نظمه كلتا الصفتين وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز.
ومنها جعله آخر الكتب غنيا عن غيره وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. اهـ.
فصل آخر للعلامة الزركشى:
قال عليه رحمة الله: