فصل: فصل فيما يجري صفة أو خبرا على الرب تبارك وتعالى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذلك مؤول عند الشاعر فإنه لا يعني به أنه هو تحقيقا بل كأنه هو فإنه مستغرق الهم به كما يكون هو مستغرق الهم بنفسه فيعبر عن هذه الحالة بالاتحاد على سبيل التجوز.
وعليه ينبغي أن يحمل قول أبي يزيد رحمه الله حيث قال انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها فنظرت فإذا أنا هو ويكون معناه أن من ينسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها فلا يبقى فيه متسع لغير الله ولا يكون له همة سوى الله سبحانه وتعالى وإذا لم يحل في القلب إلا جلال الله وجماله حتى صار مستغرقا به يصير كأنه هو لا أنه هو تحقيقا وفرق بين قولنا كأنه هو وبين قولنا هو هو لكن قد يعبر بقولنا هو هو عن قولنا كأنه هو كما أن الشاعر تارة يقول كأني من أهوى وتارة يقول أنا من أهوى وهذه مزلة قدم فإن من ليس له قدم راسخ في المعقولات ربما لم يتميز له أحدهما عن الآخر فينظر إلى كمال ذاته وقد تزين بما تلألأ فيه من حلية الحق فيظن أنه هو فيقول أنا الحق.
وهو غالط غلط النصارى حيث رأوا ذلك في ذات المسيح عيسى عليه السلام فقالوا هو الإله بل هو غلط من ينظر إلى مرآة قد انطبع فيها صورة متلونة بتلونه فيظن أن تلك الصورة هي صورة المرآة وأن ذلك اللون لون المرآة وهيهات بل المرآة في ذاتها لا لون لها وشأنها قبول صور الألوان على وجه يتخايل إلى الناظرين إلى ظاهر الأمور أن ذلك صورة المرآة حتى إن الصبي إذا رأى إنسانا في المرآة ظن أن الإنسان في المرآة فكذلك القلب خال عن الصور في نفسه وعن الهيئات وإنما هيآته قبول معاني الهيئات والصور والحقائق فما يحله يكون كالمتحد به لا أنه متحد به تحقيقا ومن لا يعرف.
الزجاج والخمر إذا رأى زجاجة فيها خمر لا يدرك تباينهما فتارة يقول لا خمر وتارة يقول لا زجاجة كما عبر عنه الشاعر حيث قال:
رق الزجاج وراقت الخمر ** فتشابها فتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح ** وكأنما قدح ولا خمر

وقول من قال منهم أنا الحق فإما أن يكون معناه معنى قول الشاعر:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا

وإما أن يكون قد غلط في ذلك كما غلط النصارى في ظنهم اتحاد اللاهوت بالناسوت.
وقول أبي يزيد رحمه الله إن صح عنه سبحاني ما أعظم شأني إما أن يكون ذلك جاريا على لسانه في معرض الحكاية عن الله عز وجل كما لو سمع وهو يقول لا إله إلا أنا فاعبدني لكان يحمل على الحكاية وإما أن يكون قد شاهد كمال حظه من صفة القدس على ما ذكرنا في الترقي بالمعرفة عن الموهومات والمحسوسات وبالهمة عن الحظوظ والشهوات فأخبر عن قدس نفسه وقال سبحاني ورأى عظم شأنه بالإضافة إلى شأن عموم الخلق فقال ما أعظم شأني وهو مع ذلك يعلم أن قدسه وعظم شأنه بالإضافة إلى الخلق ولا نسبة له إلى قدس الرب تعالى وتقدس وعظم شأنه ويكون قد جرى هذا اللفظ في سكره وغلبات حاله فإن الرجوع إلى الصحو واعتدال الحال يوجب حفظ اللسان عن الألفاظ الموهمة وحال السكر ربما لا يحتمل ذلك فإن جاوزت هذين التأويلين إلى الاتحاد فذلك محال قطعا فلا ينظر إلى مناصب الرجال حتى يصدق بالمحال بل ينبغي أن يعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.
وأما القسم الخامس وهو الحلول فذلك يتصور أن يقال إن الرب تبارك وتعالى حل في العبد أو العبد حل في الرب تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين وهذا لو صح لما أوجب الاتحاد ولا أن يتصف العبد بصفات الرب فإن صفات الحال لا تصير صفة المحل بل تبقى صفة للحال كما كان ووجه استحالة الحلول لا يفهم إلا بعد فهم معنى الحلول فإن المعاني المفردة إذا لم تدرك بطريق التصور لم يمكن أن يفهم نفيها أو إثباتها فمن لا يدري معنى الحلول فمن أين يدري أن الحلول موجود أو محال.
فنقول المفهوم من الحلول أمران:
أحدهما النسبة التي بين الجسم وبين مكانه الذي يكون فيه وذلك لا يكون إلا بين جسمين فالبريء عن معنى الجسمية يستحيل في حقه ذلك.
والثاني النسبة التي بين العرض والجوهر فإن العرض يكون قوامه بالجوهر فقد يعبر عنه بأنه حال فيه وذلك محال على كل ما قوامه بنفسه فدع عنك ذكر الرب تعالى وتقدس في هذا المعرض فإن كل ما قوامه بنفسه يستحيل أن يحل فيما قوامه بنفسه إلا بطريق المجاورة الواقعة بين الأجسام فلا يتصور الحلول بين عبدين فكيف يتصور بين العبد والرب.
وإذا بطل الحلول والانتقال والاتحاد والاتصاف بأمثال صفات الله سبحانه وتعالى على سبيل الحقيقة لم يبق لقولهم معنى إلا ما أشرنا إليه في التنبيهات وذلك يمنع من إطلاق القول بأن معاني أسماء الله تعالى تصير أوصافا للعبد إلا على نوع من التقييد خال عن الإيهام وإلا فمطلق هذا اللفظ موهم.
فإن قلت فما معنى قوله إن العبد مع الاتصاف بجميع ذلك سالك لا واصل فما معنى السلوك وما معنى الوصول على رأي هذا القائل فاعلم أن السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن والعبد في جميع ذلك مشغول بنفسه عن ربه سبحانه وتعالى إلا أنه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول وإنما الوصول هو أن ينكشف له جلية الحق ويصير مستغرقا به فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله وإن نظر إلى همته فلا همة له سواه فيكون كله مشغولا بكله مشاهدة وهما لا يلتفت في ذلك إلى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة أو باطنه بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهي البداية وإنما النهاية أن ينسلخ من نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول عنده.
فإن قلت كلمات الصوفية بناء على مشاهدات انفتحت لهم في طور الولاية والعقل يقصر عن درك ذلك وما ذكرتموه تصرف ببضاعة العقل فاعلم أنه لا يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقضي العقل باستحالته نعم يجوز أن يظهر ما يقصر العقل عنه بمعنى أنه لا يدركه بمجرد العقل مثاله أنه يجوز أن يكاشف الولي بأن فلانا سيموت غدا ولا يدرك ذلك ببضاعة العقل بل يقصر العقل عنه ولا يجوز أن يكاشف بأن الله سبحانه وتعالى غدا سيخلق مثل نفسه فإن ذلك يحيله العقل لا أنه يقصر عنه وأبعد من ذلك أن يقول إن الله تبارك وتعالى سيجعلني مثل نفسه وأبعد منه أن يقول إن الله عز وجل سيصيرني نفسه أي أصير أنا هو لأن معناه أني حادث والله تعالى وتقدس يجعلني قديما ولست خالق السموات والأرضين والله يجعلني خالق السموات والأرضين وهذا معنى قوله نظرت فإذا أنا هو إذا لم يؤول ومن صدق بمثل هذا فقد انخلع عن غريزة العقل ولم يتميز عنده ما يعلم عما لا يعلم فليصدق بأنه يجوز أن يكاشف ولي بأن الشريعة باطلة وأنها إن كانت حقا فقد قلبها الله باطلا وأنه جعل جميع أقاويل الأنبياء كذبا وإن من قال يستحيل أن ينقلب الصدق كذبا فإنما يقوله ببضاعة العقل فإن انقلاب الصدق كذبا ليس بأبعد من انقلاب الحادث قديما والعبد ربا ومن لم يفرق بين ما أحاله العقل وبين ما لا يناله العقل فهو أخس من أن يخاطب فليترك وجهله. اهـ.

.فصل فيما يجري صفة أو خبرا على الرب تبارك وتعالى:

قال ابن القيم:
ما يجري صفة أو خبرا على الرب تبارك وتعالى أقسام:
أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولك ذات وموجود وشيء.
الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية كالعليم والقدير والسميع.
الثالث: ما يرجع إلى أفعاله نحو: الخالق والرزاق.
الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض ولابد من تضمنه ثبوتا إذ لا كمال في العدم المحض كالقدوس والسلام.
الخامس: ولم يذكره أكثر الناس وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة بل هو دال على معناه لا على معنى مفرد نحو المجيد العظيم الصمد فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال ولفظه يدل على هذا فإنه موضوع للسعة والكثرة والزيادة فمنه استمجد المرخ والغفار وأمجد الناقة علفا ومنه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} صفة للعرش لسعته وعظمه وشرفه وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنا بطلب الصلاة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم كما علمناه لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء وكثرته ودوامه فأتى في هذا المطلوب باسم تقتضيه كما تقول: «اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ولا يحسن إنك أنت السميع البصير» فهو راجع إلى المتوسل إليه بأسمائه وصفاته وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه ومنه الحديث الذي في المسند والترمذي: «ألظوا بياذا الجلال والإكرام» ومنه: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام» فهذا سؤال له وتوسل إليه وبحمده وأنه الذي لا إله إلا هو المنان فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعا عند المسئول وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد أشرنا إليه إشارة وقد فتح لمن بصره الله تعالى تفسر الاسم الإلهي العظيم والصمد ولنرجع إلى المقصود وهو وصفه تعالى بالاسم المتضمن لصفات عديدة فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال وكذلك الصمد قال ابن عباس هو السيد الذي كمل في سؤدده وقال ابن وائل هو السيد الذي انتهى سؤدده وقال عكرمة: الذي ليس فوقه أحد وكذلك قال الزجاج: الذي ينتهي إليه السؤدد فقد صمد له كل شيء وقال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم واشتقاقه يدل على هذا فإنه من الجمع والقصد الذي اجتمع القصد نحوه واجتمعت فيه صفات السؤدد وهذا أصله في اللغة كما قال:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ** بعمرو بن يربوع وبالسيد الصمد

والعرب تسمي أشرافها بالصمد لاجتماع قصد القاصدين إليه واجتماع صفات السيادة فيه السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد العفو القدير الحميد المجيد وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن فإن الغنى صفة كمال والحمد كذلك واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر فله ثناء من غناه وثناء من حمده وثناء من اجتماعهما وكذلك العفو القدير والحميد المجيد والعزيز الحكيم فتأمله فإنه من أشرف المعارف تسليط صفات السلب على أسماء الله تعالى وأما صفات السلب المحض فلا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمنة لثبوت كالأحد المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية والسلام المتضمن لبراءته من كل نقص يضاد كماله وكذلك الإخبار عنه بالسلوب هو لتضمنها ثبوتا كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فإنه متضمن لكمال حياته وقيوميته وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} متضمن لكمال قدرته وكذلك قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} متضمن لكمال علمه وكذلك قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} متضمن لكمال صمديته وغناه وكذلك قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} متضمن لتفرده بكماله وأنه لا نظير له وكذلك قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} متضمن لعظمته وأنه جل عن أن يدرك بحيث يحاط به وهذا مطرد في كل ما وصف به نفسه من السلوب ويجب أن تعلم هنا أمور.
أحدها: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء والموجود والقائم بنفسه فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
الثاني: أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه بل يطلق عليه منها كمالها وهذا كالمريد والفاعل والصانع فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق بل هو الفعال لما يريد فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلا وخبرا.
الثالث: أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدا أن يشتق له منه اسم مطلق كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى المضل الفاتن الماكر تعالى الله عن قوله فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة والله أعلم.
الرابع: أن أسماءه عز وجل الحسنى هي أعلام وأوصاف والوصف بها لا ينافي العلمية بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم لأن أوصافهم مشتركة فنافتها العلمية المختصة بخلاف أوصافه تعالى.