فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
عطف على جملة: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس} [الأعراف: 179] الآية، والمقصود: التنويه بالمسلمين في هديهم واهتدائهم، وذلك مقابلة لحال المشركين في ضلالهم، أي عرّض عن المشركين، فإن الله أغناك عنهم بالمسلمين، فما صْدَقُ الأمة هم المسلمون بقرينة السياق كما في قول لبيد:
ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها ** أو يعتلقُ بَعْضَ النفوس حِمامُها

يريد نفسه فإنها بعض النفوس.
روى الطبري عن قتادة قال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: «هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها».
وقوله: {ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون} وبقية ألفاظ الآية عرف تفسيرها من نظره المتقدمة في هذه السورة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}.
وبعد أن قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس} أراد أن يطمئن أهل منهج الله، فلم يقل: كل الناس، بل كثير من الجن والإنس، وعرفنا المقابل يكون كثيرًا أيضًا بدليل قوله تعالى في سورة الحج: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي كثير من الناس يسجدون لله وكثير حق عليهم العذاب.
ويعني قول الحق تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181].
أن كون الله لا يخلو من هداة مهديين، لتستمر الأسوة السلوكية في المجتمع. والأسوة السلوكية في المجتمع هي التي تربي عقائد المواجيد عند الصغار، فالصغير لا يعرف كيف يصلي، ولا كيف يصوم، ولا يميز بين الكذب والصدق ولكنَّه يتعلم بالتقليد لوالديه، فالطفل حين يرى والده وأمه ساعة يَؤَذَّنُ للصلاة يقوم كل منهما إلى الوضوء وأداء الصلاة، هنا يتعلم الطفل كيفية الصلاة، وحين يتكلم إنسان في سيرة آخر، يقول الأب أو الأم: لا داعي للخوض في سيرة الآخرين حتى لا نحبط حسناتنا؛ بذلك يتعلم الطفل كيف يصون لسانه عن الخوض في سيرة الغير، لأن الأسوة السلوكية تنضح عليه، بدليل أن الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الفهم إذا سمع المؤذن بعد ذلك يقوم من نفسه ليُحضر سجادة الصلاة ويقلد والده ووالدته.
ونفهم من قوله تعالى: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
إنهم في حكمهم على الأشياء يقيمون العدل بالحق، أو أن يكون العدل هو نفي الشرك، وقد يكون العدل في مسألة الكبائر، أو يقيمون العدل في مسألة الحقوق بين الناس. {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ}.
وقوله في الآية الكريمة: {أمة} يعني أن صفات الكمال المنهجية أكثر من أن يحيط بها واحد لينفذها كلها، فكل واحد له جزء يقوم به، فهناك من يتميز بالصدق، وآخر في الشجاعة، وثالث في الكرم، وهكذا تبقى الأسوة في مجموع الصفات الحسنة، وقد ميز الله سيدنا إبراهيم- على نبينا وعليه السلام- فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120].
أي أنه جامع لخصال الخير التي لا توجد إلا في مجتمع واسع، {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
وأي أمة من أمم الأرض- إذن- هي التي تهدي بالحق؟ لقد سبحانه في قوم موسى! {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق...} [الأعراف: 159].
ثم جاءت أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا رسول بعده، لذلك تظل هذه الأمة المسلمة مأمونة على صيانة منهج الله إلى قيام الساعة.
فإذا رأيت إلحادًا انتشر فاعلم أن لله مددًا، وكلما زاد الناس في الإلحاد، زاد الله في المدد، وحتى إن صارت بلد مسلمة غارقة في الفسق فقد يكون فيها واحد يجمع كل هذه الصفات الكريمة الهادية إلى الحق لتبقى شريعة الله مصونة بالسلوكيين التابعين لمنهج الله.
إذن فالحق سبحانه وتعالى ترك للفساد أن يصنع الشر، ولسائل أن يسأل: ما لزوم هذا الشر في كون خلقه الله على هيئة محكمة؟ نقول! لولا أن الناس يضارون بالشر؛ لما تنبهوا إلى حلاوة الخير، ولو أن الإنسان لم يصب من أصحاب الباطل بسوء؛ ما تحمس للحق أحدٌ، ولا عرف الناسُ ضرورة أن يتأصل الحق في الوجود، فللشر- إذن- رسالته في الوجود. وهو أن يهيج إلى الخير، فكما ذرأ الله لجهنم كثيرًا من الجن والإنس؛ أوضح سبحانه وتعالى في قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في الحكم، عدلًا في القمة؛ وهو ألا يشركوا بالله شيئًا، لأن أول مخالفة لقضية العدل هي مخالفة الشرك وهو ظلم عظيم، فالشرك والعياذ بالله ينقل الأمر من مستحقه إلى غير مستحقه، وكذلك تحريم ما أحل الله، أو حل ما حرم الله، وكل ذلك ظلم، وكذلك عدم حفظ التوازن في الحقوق بين الناس، فإن لم يحصن العدل بحفظ الحقوق بين الناس من حاكم وولي ومسلط؛ سنجد كل إنسان وهو يضن بجهده في الحياة يكتفي بأن يصنع على قدر حاجته بحيث لا يترك للظالم أن يأخذ منه شيئًا، فلا يتحرك في الحياة إلا حركة محدودة، ولا يعمل إلا بقدر ما يكفيه فقط، فإذا ما حدث ذلك؛ فلن يجد الضعاف الذين لا يقدرون على الحركة الإنتاجية أي فائض ليعيشوا به.
إذن أراد الله أن يضمن بالعدل عَرَق وتعب كل واحد. فأوضح له أن ما تكسبه من حل هو ملك لك. لَكِنْ لله حق فيه، وأنت لك الباقي، حتى يجد الضعيف الذي لا يقدر على حركة الحياة من يقيته، ولذلك يحذرك المنهج الإيماني بقوله: إياك أن تستكثر أن تدفع للضعيف، لأن قُوَّتَك التي استعملتها في تحصيل هذا المال إنما هي عرض لا يدوم لك، فإن أخذنا منك وأنت قويُّ قادر على الحركة، سنأخذ لك حينما تكون عاجزًا لا تقدر على الحركة، وذلك هو التأمين والعدالة.
وبالنسبة للأمة في تلك الآية: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
فقد جاء في الآثار أن المراد بالأمة في هذه الآية الأمة المحمدية، قال قتادة: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إذا قرأ هذه الآية: هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.
ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم صحابته بقوله: هذه لكم، أي في أمتكم ويؤكد ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر...} [آل عمران: 110].
وكلمة {للناس} هنا تفيد أن الله لم يجعل خيرية الأمة المحمدية وهي أمة الإجابة للمؤمنين فقط، بل جعل خيريتها للناس جميعًا؛ مؤمنهم وكافرهم. {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
وذكر {أمة} لأن خصال الخير لا يمكن أن تجتمع في إنسان واحد، بل كل واحد يأخذ لمسة من خير، هذا فيه ذكاء، وذاك فيه شجاعة، وذاك عنده مال، وذلك له خلق. فكأن الأمة المحمدية قد وجد في أفرادها ما يجمع المواهب الصالحة للخلافة في الأرض.
ويأتي الحق بعد ذلك بمقابلهم، لأن مجيء الشيء بمقابله أدعى إلى أن يتمكن من النفس فيقول سبحانه: {والذين كَذَّبُواْ بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ...}. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق} قال: ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق} قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها «هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها، {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف الآية 159]».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمتي قومًا على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل».
وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، يقول الله: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق} الآية.
من يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، و{يهدون} صفة ل {أمة}.
وقال بعضهم: في الكلام حذف تقديره: وممن خلقنا للجنة، يدل على ذلك ما ثبت لمقابلهم وهو قوله: {ولقد ذرأنا لجهنم}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}.
أجرى الحقُّ سبحانه سُنَّتَه بألا يُخْلِيَ البسيطةَ من أهل لها هم الغياث وبهم دوام الحق في الظهور، وفي معناه قالوا:
إذا لم يكن قطبٌ ** فمن ذا يديرها؟

فهدايتهم بالحق أنهم يدعون إلى الحق، ويدلون على الحق، ويتحركون بالحق، ويسكنون للحق بالحق، وهم قائمون بالحق؛ يصرفهم الحق بالحق أولئك هم غياث الخَلْق؛ بهم يُسْقَوْنَ إذا قحطوا، ويُمْطَرون إذا أجدبوا، ويُجَابُون إذا دَعَوْا. اهـ.