فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا الفصل كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها. وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر. وذكر الإمام الغزالي في الإحياء فصلًا ثم قال: فإن قلت أني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلًا بي لا بغيري. أجبنا وقلنا: هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئًا شئت، وإن شئت أن لا تشاءه لم تشأ، ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له، فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار. والله تعالى أعلم. قال بعض العلماء أنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم، وفيه دليل على أن محل الفقه هو القلب. وأقول: ليس المراد بالقلب هاهنا اللحم الصنوبري بل اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانًا وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وبالروح. أما قوله: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} فتقريره أن الإنسان يشاركه سائر الحيوان في القوى الطبعية الغاذية والنامية والمولدة، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة، وفي أحوال التخيل والتفكر. وإنما يحصل الامتياز بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فإذا لم تحصل هذه الغاية للإنسان صار في درجة الأنعام بل أضل وأدون لأن الذي أعرض عن اكتساب الفضائل مع القدرة على تحصيلها من حيث النوع كان أخس حالًا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها. وقيل: وجه الأضلية أن الأنعام مطيعة لله والكافر غير مطيع. وقال مقاتل: الأنعام تعرف ربها وتبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيلها ودفعها، وهؤلاء الكفار أكثرهم معاندون مصرون وقيل: إنها تفر أبدًا إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها، والكافر يهرب عن ربه إلى الأصنام. وقيل: إنها لا تضل إذا كان معها مرشد والكافر يضل بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب {أولئك هم الغافلون} الكاملون في الغفلة. وقال عطاء: إنهم الغافلون عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. ثم نبه بقوله: {ولله الأسماء الحسنى} على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكره سبحانه، والمخلص من عذاب جهنم هو ذكره، وكل من له ذوق وجد من نفسه أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن الذكر وأقبل على الدنيا وقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا فتح على قلبه الذكر خلص من نيران الآفات وخسران الحسرات إلى معرفة رب الأرض والسموات.
وهذا اللفظ مذكور في ثلاثة مواضع أخر: في آخر بني إسرائيل وفي أوّل طه وفي آخر الحشر. ومعنى حسن الأسماء حسن معانيها ومفهوماتها لأنها أسماء دالة على معاني الكمال ونعوت الجلا وهي محصورة في نوعين: عدم افتقاره تعالى إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه. وقد عرفت في تفسير البسملة أن أسماء الله تعالى لا تكاد تنحصر بحسب السلوب والإضافات، فكل من كان وقوفه على أسرار حكمه في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله الحسنى أكثر. والآن نقول: إن من تقسيمات أسماء الله ما يقوله المتكلمون من أن صفات الله أنواع ما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه تعالى. ومنها أن يقال إن أسماء الله إما أن يجوز إطلاقها على غيره كالرحيم والكريم وإن كان معناها في حق الله مغايرًا لمعناها في حق غيره، وإما أن لا يجوز نحو الله والرحمن. وقد يقيد القسم الأوّل بقيود مثل يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين ويا خالق السموات والأرضين. ومنها أن يقال من الأسماء ما يمكن ذكره وحده كقولنا يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم. ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا مميت وضارّ فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع. ومنها أن يقال أوّل ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثًا للأشياء مرجحًا لوجودها على عدمها، وذلك إنما يعلم بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه، وذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة، والأوّل باطل وإلا لزم دوام العالم بدوامه، والثاني هو المعنيّ بكونه قادرًا. ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالمًا ثم نقول: إن القادر العالم يمتنع أن لا يكون حيًا فظهر أن العلم بصفاته وبأسمائه ليس واقعًا في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض، ومن البين أن الأسماء الحسنى لا تكون إلا لله تعالى لأن كل الشرف والجلالة يستلزم وجوب الوجود، وكل نقص وخساسة فإنه يعقب الإمكان وكل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى. ومن هنا اختلف في أنه هل يطلق عليه اسم الشيء أم لا؟ وقد مر تحقيق ذلك في تفسير البسملة وفي الأنعام في قوله: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} [الأنعام: 19] أما قوله: {فادعوه بها} ففيه دليل على أن الإنسان لا يجوز أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى بعد أن عرف معانيها ويكون مستحضرًا الأمرين: عزة الربوبية وذلة العبودية، كما أنه في قوله عند التحريم الله أكبر يشير إلى أنه لا نسبة لكبريائه وعظمته إلى ما سواه من الروحانيات والجسمانيات والعلويات والسفليات وإنما هو أكبر من هذه الأشياء وأكبر من أن يقال له أكبر من هذه الأشياء {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} قال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق والمدخل فيه ما ليس منه. يقال قد ألحد في الدين ولحد. وقال غيره من أهل اللغة: الإلحاد العدول عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه للحد الذي يحفر إلى جانب القبر. قال الواحدي: الأجود قراءة العامة ولا يكاد يسمع من العرب لأحد بمعنى ملحد. والإلحاد في أسماء الله تعالى يقع على ثلاثة أوجه: الاوّل: إطلاق أسمائه المقدسة على الأصنام كاشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز، ومناة من المنان، وكان مسيلمة الكذاب يسمى نفسه الرحمن. والثاني أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمع عن البدو وإن قالوا بجهلهم يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخّي بناء على أن النخوة مدح. الثالث: أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى كالرحمن مثلًا. قال بعض العلماء: إن ورود الإذن في بعض الأسماء لا يجوز إطلاق سائر الألفاظ المشتقة منه عليه، فلا يجوز أن يقال يا معلم وإن ورد {وعلم آدم الأسماء} [البقرة: 31] وكذا في حق الأنبياء لا يجوز أن يقال إن آدم عاصٍ أو غاوٍ وإن ورد {وعصى آدم ربه فغوى} [طه: 121] ثم أوعد الملحدين في أسمائه بقوله: {سيجزون ما كانوا يعملون} ثم لما أخبر أن كثيرًا من الثقلين مخلوقون لنار حكى أن بعضًا منهم مخلوقون للجنة فقال: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق} وقد مر مثل هذه الآية في قصة موسى فعن قتادة وابن جريج وابن عباس أن المراد في الآية أمة محمد صلى الله عليه وآله. وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذ قرأها هذه الكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» وعن الربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: «إن من أمتي قومًا على الحق حتى ينزل عيسى» وعن الكلبي: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقال الجبائي: هم العلماء والدعاة إلى الدين في كل حين ثم أعاد ذكر المكذبين وما عليهم من الوعيد فقال: {والذين كذبوا بآياتنا} قال ابن عباس: يري أهل مكة والظاهر أنه عام. والاستدراج استفعال من الدرجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب إذا طواه شيئًا بعد شيء.
ومعنى الآية سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم {من حيث لا يعلمون} ما يراد بهم. وذلك أنهم كلما أقدموا على ذنب فتح الله عليهم بابًا من أبواب الخير فيزدادون بطرًا وانهماكًا في الغي والفساد، ثم يأخذهم أغفل ما يكونون {وأملي لهم} أطيل لهم مدة عمرهم {إن كيدي متين} عن ابن عباس: يريد أن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي. يقال متن متانة. واحتجت الأشاعرة بألفاظ الاستدراج والإملاء والكيد في مسألة القضاء والقدر حتى قال بعض المجبرة: المراد سنستدرجهم إلى الكفر مع أنه فاسد لأن جزاء الكفر لا يكون كفرًا آخر. وحملها المعتزلة على أن المراد سنستدرجهم إلى العقوبات إما في الدنيا وفي الآخرة، وزيف بأن هذا الاستدراج والإمهال مما يزيد الكافر به كفرًا وعتوًا واستحقاقًا للعقاب، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجبًا لتلك الزيادات من العقوبة بل كان يجب في حكمته ورعايته للأصلح أن لا يخلقه ابتداء، أو يميته قبل التكليف لما خلقه وألقاه في ورطة التكليف وأمهله ومكنه من المعاصي مع علمه بأن كل ذلك لا يفيده إلا مزيد استحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للنار كما قال: {لقد ذرأنا لجهنم} الآية. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}.
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي {سنستدرجهم} يقول: سنأخذهم {من حيث لا يعلمون} قال: عذاب بدر.
وأخرج أبو الشيخ عن يحيى بن المثنى {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} قال: كلما أحدثوا ذنبًا جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار.
وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان في قوله: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} قال: نسبغ عليهم النعم ونمنعهم شكرها.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي {وأملي لهم إن كيدي متين} يقول: كف عنهم وأخرهم على رسلهم ان مكري شديد، ثم نسخها الله فأنزل الله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كيد الله العذاب والنقمة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وأملي لهم}.
جوز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: وأن أملي وأن يكون مستأنفا، وأن يكون معطوفا على سنستدرج، وفيه نظر: إذ كان من الفصاحة لو كان كذا لكان ونملي بنون العظمة. ويجوز أن يكون هذا قريبا من الالتفات والإملاء: الإمهال والتطويل، والمتين: القوي، ومنه المتن وهو الوسط؛ لأنه أقوى ما في الحيوان، وقد متن يمتن متانة أي: قوي.
وقرأ العامة {إن كيدي} بالكسر على الاستئناف المشعر بالعلية.
وقرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد {أن كيدي} بفتح الهمزة على العلة.
والملي: زمان طويل من الدهر، ومه قوله: {واهجرني مليا} [مريم: 46] أي: طويلا، والمعنى: أطيل لهم مدة أعمارهم ليتمادوا في المعاصي، ولا أعاجلهم في العقوبة، ليقلعوا عن المعصية بالتوبة. اهـ. باختصار.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {وإذا أخذ ربك} لم يقل ربكم ليعلم أن في الآية غموضًا لا يطلع عليه غيره صلى الله عليه وسلم وغير من أنعم الله به عليه من خواص متابعيه صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى لم يكلم أحدًا وهو يجيبه في العدم إلا بني آدم كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود، فهذا بدايتهم وإلى أن تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى سمعهم وأبصارهم وألسنتهم {إنما أشرك آباؤنا} بأن رضوا بالأثنينية وما جعلوا إلى الوحدة بالفناء في الله: {بما فعل المبطلون} الذين أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة لله {ولعلهم يرجعون} بهذه الدلالات من البداية إلى النهاية وهو مقام الوحدة {فانسلخ منها} أي وقع فرخ همته العلية عن ذكر طلب الحق ومحبته فأدركته هزة الشيطان وجعلته من الهالكين ليعلم أن المعصوم من عصمة الله وأن السلك الواصل يجب أن لا يأمن مكر الله فلا يفتح على نفسه أبواب التنعم والترفه، ولا يميل إلى حب المال والجاه {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا} وهم مظاهر القهر {فادعوه بها} بأن تتصفوا بصفاته بالنيات الصالحات وبالأعمال الزاكيات ثم تتخلقوا بها بالأحوال بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا} بأن لم توافق أقوالهم أفعالهم {سنستدرجهم} فينحطون عن مراتبهم بالتدريج والله أعلم. اهـ.